طلال سلمان

هوامش

حشيشة كيف لسلطة الإنماء المتوازن في لبنان
الموكب مهيب وأضخم من أن تتسع له الطرقات الضيقة لتلك القرى المنسية: عشرات الجرارات تتقدمها بضع سيارات لقوى الأمن الداخلي بالجنود شاكي السلاح، وفي الخلف لحماية المؤخرة مصفحة وسيارة عسكرية فيها جنود مستنفرون يجلسون ظهرا الى ظهر، وعيونهم تتفحص هؤلاء الناس الذين يعرفونهم جيدا لأنهم بعض أهلهم.
ينظر الاهالي الى القافلة بانكسار: يعرفون وجهتها ولا يستطيعون الاعتراض على »إعدام« سنة من التعب. سيتم اتلاف حقول الحشيشة التي لجأوا الى زراعتها بعدما أنهكتهم الخسائر التي تكبدوها في الزراعات الاخرى »الشرعية«.
لقد جربوا وخسروا في كل المواسم: في العنب، في البطاطا، في الخضار، في المشمش، وحتى في البطيخ والقثاء والبندورة والخيار في الدفيئات المكلفة.
لكأنهم كانوا يزرعون تعبهم وعرق الجباه والزنود في رمل الصحارى: ان نجح الموسم سقط السعر فكانت الخسارة، أما ارتفاع السعر فدليل على ان الموسم بائس جدا نتيجة موجة برد او موجة حر أتلفت المزروع… هذا إذا ما أسقطنا من الحساب المنافسة غير المشروعة التي تشكل أبواب الرزق الحرام للنافذين الكبار، بينما تضيع سنة من أعمارهم، ويتفاقم عجزهم عن تأمين كلفة الحياة… وقد يضطرون الى اخراج اولادهم من المدارس ودفعهم الى سوق العمل، في المهن البائسة (حدادة السيارات، ورش البناء، محطات البنزين) قبل الأوان!
قال الضابط الكبير الذي لم تذهب عسكريته بإنسانيته: ان منطقة بعلبك الهرمل مظلومة مرتين، فالصورة العامة عن أهلها أنهم بأكثريتهم الساحقة خارجون على القانون بالسليقة، وأن الشراسة والغلظة والتمرد بعض طبائعهم التي لا تحول ولا تزول، وأنهم ميالون غريزيا الى العصيان ومقاومة الدولة بالسلاح، وأن كل فرد منهم »مشروع قاتل« الى ان يثبت العكس، لأنه لا يعرف ان يتعامل مع الآخرين إلا بلغة القوة… ويكتمل الظلم عندما تتعامل الدولة معهم انطلاقا من هذه »الصورة« غير الصحيحة والمعممة (رسميا!!) لتبرير الاهمال الدائم، فلماذا الإنفاق على »الارض الخراب« هذه التي أهلها من الاشرار بالفطرة والذين لا أمل بتحضيرهم!
وقال الضابط الكبير الآتي من منطقة محرومة، هو الآخر، والذي لم تشفع له رتبته العالية في الارتفاع بموقعه الاجتماعي الى حيث يستحق بمعزل عن انتمائه الاصلي: كان من الصعب عليّ ان أصدق ان الناس هنا، الفقراء الى حد الاملاق، سيتقبلون ان يذهب عرقهم هباءً، من دون ان تصدر عنهم حركة احتجاج جدية، وبالرصاص.. بل لقد كان تقدير القيادة أننا قد نضطر الى استخدام القوة المسلحة مع الاهالي، للرد على اعتراضهم الذي قد يعبرون عنه بمجابهات مباشرة، وبالنار. لكن مهمتنا تم تنفيذها بغير طلقة رصاص واحدة. كانوا مكسورين الى الحد الذي تتعذر معه المقاومة!
في المساء، اتسعت السهرة لمن يروي محنته الشخصية بضياع »موسمه« او »المال ورأس المال« على حد تعبيره.
قال الكهل الذي عاش طول عمره مع الارض ومنها وبها ولها حتى صار وجهه يشبه القمح:
منذ سنوات ثلاث وأنا أجاهد ضد نفسي، فأمتنع عن زراعة الحشيشة، لأنني أعرف انها »حرام«، قبل ان تكون »ممنوعة« بالامر الحكومي. كنت أقنع نفسي بأن الله كريم، وانه لا بد سييسر أمري وسيبارك في رزقي. وكنت أسمع من الاذاعات أخبارا عن مشروعات ري وسدود وكهرباء، وعن موازنات خاصة للانماء في المناطق المحرومة، فأمنّي نفسي بانفراج سريع للأزمة.. زرعت في العام الاول بطاطا، فخسرت قليلا، وفي العام الثاني زرعت بصلا وخضارا، فكانت خسارتي مضاعفة، أما في السنة الثالثة فقد فوجئت برفع »الدعم« عن الشمندر فاكتملت الكارثة فصولا.
اطفأ الكهل لفافته الثالثة وعاد يروي فصول مأساته. قال:
لماذا تركونا حتى قارب الموسم القطاف؟! لقد بذرنا ورعينا النبت وسقينا واعتنينا بالارض على امتداد شهور طويلة. دفعنا ما معنا أجورا للعمال وثمنا للماء والاسمدة. هدرنا شهورا طويلة من الرعاية اليومية لهذه النبتة الملعونة التي يمكن ان تطعمنا وتوفر لنا أقساط مدارس الاولاد. كنت أذهب الى الحقل كل يوم، فيسعدني نموها وارتفاع سيقانها، ونشرها الخضرة مساحات واسعة تريح العين وتكسر بهوت اللون في الارض البور. كان يمكنهم ان يمنعونا من الزراعة، فلم يكن سرا اننا تحولنا مكرهين الى زراعة الحشيشة. كان يمكنهم ان يطلبوا منا، في الأيام والاسابيع الاولى، ان »نقلب« الأرض ونعيد زراعتها بما يطعمنا ويربي العيال بغير ان يشكل تهديدا للنظام العام! لكنهم تركونا نتعب ونبذل العرق ونشتري المياه ونسهر الليالي الطوال لريّها، وننفق الايام في رعايتها، حتى اذا اقتربنا من موعد الحصاد وجني ثمرة التعب، جاؤوا بالمصفحات والجرارات والجنود وفي أيديهم بنادقهم وكأنهم في الطريق الى جبهة حرب، فقضوا على رزقنا. هذا هو الانماء المتوازن: يذهب عرقنا وتذهب جهودنا وسهر الليالي وقلق النهارات الطويلة هباءً، ثم لا يأتينا من الدولة إلا الجند بأسلحتهم الحديثة لكي يقضوا على مصدر رزقنا، وعلى حسابنا… ألسنا نحن من ندفع رواتب أبنائنا هؤلاء والاجر الاضافي لقاء المهمة التي كانوا يفترضونها صعبة، وعلى حدود الاستحالة، ولا بد لتنفيذها من شيء من الدم؟!
نفث ألمه مع الدخان ثم قال بصوت يشبه الندب: كنت اتأمل الشتول وهي تهوي أرضا فأكاد أسقط معها. كنت أسمع، وهي تهوي، صوتا كالعويل. خفت ان أضعف أكثر فأبكي، وفكرت ان أقف بصدري أمام الجرارات، ولعلي في لحظة فكرت بأن استصرخ أهلي وعشيرتي لنجدتي، لكنني خفت ان يتحول الاعتراض الى مواجهة دامية، فلويت عنقي وطويت صدري على حزني، وتصلبت حتى لا أبكي، بل وصرخت بزوجتي وأبنائي أن يكفوا عن البكاء، وأن يحضروا الشاي الى العمال…
قال الضابط الكبير الذي حاول فنجح في ان يحمي الانسان داخله: أتلفنا المزروع في مئة ألف دونم، وهي مساحة خرافية، من دون الحاجة الى »ضربة كف« واحدة.. تصوروا كم هم طيبون هؤلاء الذين عممت لهم وعنهم السلطة صورة »الطفار« و»العصاة« وتجار المخدرات الذين يتآمرون لاغتيال الجيل الجديد في لبنان وفي ما وراء البحار!
هل تستحق سلطة مثل هذه التضحيات؟!
»حط بالخرج. قال الفلاح الذي وجهه بلون الارض وعيناه بلون الجمر ويداه بقوة الفولاذ … كلهم يشتغلون عند الاميركان! اخس على هذا الزمان الذي تكاد دنيانا فيه تخلو من الرجال«!

نصف قمر الصحراء الوجد…
احتوى الليل شرفة العشق بنسماته المنعشة، وأرخى ستائره على فضول الساهرين في انتظار اكتمال الحكاية.
سرى صدى انكسار الموج، وعبقت رائحة البحر الذي خرج للاستحمام بشميم الزهور البرية المتحدرة من صحراء الوجد، قبل ان تمتص الأضواء البعيدة فتات الكلام وثرثرة النارجيلة البعيدة.
اطل نصف قمر فانتشى النسيم بعطر الليل، وانطلق يبحث عن الذين اغلقوا قلوبهم على فراغ الصدى الذي تركته الذكريات التي طواها النسيان، ومضوا يهدرون أعمارهم في يوم متصل من العبث لا فجر له ولا نهاية لنهاره المتفجر بالمطامح والمنافع والمصالح، ولا تعقب شمسَه التي لا تغيب عتمةٌ مزركشة بفرح الحياة.
اخترقت نشوة الهمس الحميم الجدران المغلقة على عيون خاصمها النعاس منذ امد بعيد، فمشى المتلهفون الى الحب نياما، تحفّ بهم اجنحة فراشات الضوء، ويلفهم النغم المنسرب من تلك الشرفة التي كانت عالية ثم رفعها تخيّل المشهد المشتهى الى اعلى مما تطال اعناقهم ومدى التخيّل.
تنهّد الليل وقد انتبه الآن الى صورته الجميلة في العيون التي تشع في الظلمة وتطرّز جوانبه بالآهات.
وحده العشق يرفع عن الليل إحساسه العميق بالظلم: ألا يصف به الناسُ حكامَهم الظالمين والغشاشين سود الضمائر؟! ألا يعتبرونه مسرح المؤامرات والجريمة والمدى المفتوح للصوص البيوت والمخازن وتحويشة العمر وجهاز العروس؟!
هو الليل… منبع الشعر، ملتقى العشاق، مُستولِد الغناء والموسيقى ونشوة الرقص طرباً؟!
هو الليل… خميلة المواعيد ومزهرية البنفسج وديوان الوجد وفسحة الوعد بالأبهى ومصدر المختلف والخارج على المألوف والإطار الرشيق للون والمعنى؟!
… وعندما جاءت لحظة الانطفاء، تنفّس الليل بعمق. لقد نسج حكاية جديدة يضمها الى ديوانه المهموس الذي لا يستطيع قراءته إلا من سكن الحب عينيه.
كان القمر في طريقه الى مهجعه بعدما وزّع شحوبه على الدروب التي تنتهي بالقصيدة. وقد سمعه بعض نواطيره يترنم بأبيات شعر معتّقة حتى ان احداً لم يقلها بعد.
أما الليل فقد دار يطمئن على صحبه وخلانه ممن جعلوه وسادة لأشواقهم والتمنيات. ومع اكتمال الدورة انسحب بهدوء حتى لا تكشف الشمس آثار اقدامه فوق صحراء الوجد.

حكايات مبتورة
قال: أحبك امرأة…
ردت بسرعة: أحبك رجلي!
وحاول ان يصحح الخطأ فقال: انت رجولتي!
انفجرت ضاحكة، وحين تمالكت نفسها قالت: لا استطيع ان أرد لك المجاملة بمثلها… لا بأس، سأعدل في الصياغة قليلا فأقول انت كل الرجال! او اتمنى ان اكون عندك كل النساء!
سحبت والدة العروس زوجها الى حلبة الرقص سحبا، قالت: هيا، أرني، والناس كلهم يتطلعون إلينا، براعتك التي تشد إليك غيري من النساء…
قال بمرارة، وقد رسم على وجهه ابتسامة عريضة: فات وقت الامتحانات. وغيرك يرضى مني بالشكل، بالتمثيل، فأنا عابر بين عابرين…
صححت له بنصف ابتسامة: بين عابرات.
أكمل وكأنه لم يسمعها: ولكم تمنيت، في لحظات، لو… قاطعته: بوسعك ان تختار أياً من هؤلاء الصبايا الجميلات.. دار بها دورات سريعة فداخت وكادت تسقط ارضا، وفي طريق العودة الى الطاولة همس في أذنها: كلانا لم يعد أهلا لخوض الامتحانات، فلنعش فرحة ابنائنا، سيدتي… لقد عبرنا زمن الصعوبة معاً، فلنترك المباريات ونسلم بأن ما تبقى لنا هو دور الحكم، او اللجنة الفاحصة، حتى لا يمكن التحسر على ما عبر ولن يعود.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
منحني الحب قدرات خرافية. انني الآن اعطي بلا حدود، وأغفر التقصير، وأتسامح مع النسيان. الحب قوة سحرية هائلة، انه يؤكد انسانيتنا حين يكشف ضعفنا، ثم يطهرنا من عيوبنا لنصبح جديرين بأن نحيا به.

Exit mobile version