طلال سلمان

هوامش

أفريقيا ترقص مذبوحة للإخوة الأغنياء
الصورة مبهجة بمهرجان الألوان المتعاكسة: ذهب الشموس الأفريقية وزمرد المحيط وذلك الفيض من الاخضرار المتدرج ما بين أول ورق البحر وآخر جبال الشجر الملتف على نفسه غابات حتى لا يعطي مساحة حركة للفؤوس التي ستعطيها الأسماء القابلة للقطع.
يرتدي الافارقة، رجالاً ونساءً، ألوان الطبيعة التي تمنحهم نعمة الحياة، يتحركون نهراً من انهارها المتدفقة بالخير ويهدرون شلالات. يستأذنون اصدقاءهم ورفاق عمرهم من الاسود والنمور والفهود وسائر السباع، وكذا الحيوانات الرقيقة التي تؤنسهم آناء الليل وأطراف النهار، في ان يستعيروا منها الثياب والأصوات والمهارة في التقليد لكي يخرجوا إلى العيد تتقدمهم نشوتهم.
يأتون بالطبول ويقرعون، يقرعون، يقرعون حتى يجن الرقص وتنطلق من حناجرهم تلك الأصوات التي كانت أبوابهم إلى المعنى، والتي ترتفع الآن مثقلة بفرح الحياة، فتندفع الأجساد التي لم تألف قيد الثوب أو العيب أو الخوف من تهمة التخلف ترسم بحركاتها المموسقة التوق إلى الانعتاق من القيود.
هو عيد الأرض. وها هم أبناء الأرض يأتون للاحتفال بأمهم التي اعطتهم الحياة ويعطونها الموت جرعة اثر جرعة ثم يتناوبون على رثائها والتفجع على مصير ورثتهم الذين لن يجدوا متى شبوا عن الطوق تراباً أو شجراً أو ثمراً أو زهراً أو قمراً يستدر الشعر.
ها هم الإخوة الأغنياء يجيئون إلى القارة التي تكاد تتحول إلى مقبرة جماعية: صحراؤها مستودع هائل لنفاياتهم الذرية، وربما مسرح تجارب لبعض القنابل التي لا بد أن تطعم بعض لحم البشر لتغدو »ذكية«، وأطفالهم يموتون قبل أن يتيسر لهم ان يعوضوا نقص المناعة الذي اخذوه من أهلهم الجياع والمتروكين للريح بعدما نهب كل ما يمكن ان ينهب من خيراتهم.
جاء الإخوة الأغنياء في سياحة إلى القارة السوداء التي تخسر كل عام مليونا، مليونين، ثلاثة ملايين (من يحصي هؤلاء الذين يعتبرون فائضاً عن حاجة النظام العالمي الجديد؟)… وها هم الإخوة الأغنياء يبدون إعجابهم بحيوانات افريقيا، بغاباتها، بأنهارها، ببحيراتها، بشلالاتها، بالمناظر الطبيعية الخلابة التي افادوا منها خلفيات لأشرطتهم السينمائية عن ذلك الطفل الأبيض الذي هزم كل افريقيا وحده.
يخفت قرع الطبول حين يبدأ الحديث عن تخريب البيئة وإفساد الهواء بالنوويات والابخرة السامة، والتدخل في عملية الاخصاب حتى فسد الثمر والإنتاج الزراعي كله، وصار كل شيء مهجناً وصارت الكيماويات أعلى نسبة من الحيويات، فكسدت مواسم الإنتاج الزراعي الطبيعي، وعجز المزارعون الذين يسقون خضرواتهم أو أشجارهم بعرق الجبين والماء الزلال، عن المنافسة، ولم تعد دخولهم المحدودة أصلاً كافية لإقامة الأود، فإذا أطفالهم يولدون موتى أو أشباه موتى لنقص التغذية أو نقص المناعة عند الأهل.
جاء الإخوة الأغنياء ليتفرجوا على مآسي »عبيدهم« في مستعمراتهم السابقة، التي تركوها وقد لغموا حدودها وفخخوا أحزابها، وزرعوا الفتنة بين ابنائها، ثم تعمدوا بعد رحيلهم تفجير تلك الخلافات بين القبائل، فإذا اعلام الاستقلال تتهاوى عبر صراع الجائعين إلى الخبز أو إلى السلطة.
أما الثروة التي يضيق بها باطن الأرض فهي تنتقل عبر صراع النفوذ من المستعمر القديم إلى المستعمر الجديد، دون ان يستطيعوا، هم أصحابها، ان يفيدوا منها في تحسين شروط حياتهم داخل سجون الارتهان السياسي والاقتصادي الجديدة.
ماذا كانت الأخبار الأولى عن قمة الأرض في جوهانسبرغ التي تحمل في اسمها بعد دمغة العصر الاستعماري الطويل؟!
كانت، كما عممتها وكالات الأنباء، عن المومسات اللواتي اضطرت السلطات إلى نقلهن إلى مدن أخرى، وعن حوادث الشغب التي قام بها بعض الفتية المعترضين على تظاهرة النفاق التي ستجري فوق أرضهم، وحول الخلافات التي تقسم المؤتمرين إلى أغنياء يعملون لتقدم ركب الحضارة وحول الفقراء الذين يرفضون العلم لأنه يفسد عليهم بيئة التخلف التي أنبتتهم وتزيد من احتمالات تكاثرهم بما يفيض عن الحاجة إلى مزيد من »العبيد«.
اما في ما خص العرب، وهم »رأس افريقيا« فقد غاب رؤساؤهم جميعاً، وكذا الملوك بمن فيهم من يملك هناك مزارع شاسعة يذهب إليها للصيد البري.
وفي حين حاول بعض أواخر المناضلين، عرباً وأجانب، استحضار قضية فلسطين والمذبحة الإسرائيلية المفتوحة ضد شعبها في كل أرضها، فإن إسرائيل حضرت بأسراب من الحسناوات المدربات على امتحان رجولة الرجال، وهو الامتحان الذي لا يقبل »العربي« ان تهزم ذكوريته فيه ولو تطلب الأمر نسيان القضية.
ضاع صوت الفتية الذين افتتحوا قمة الأرض بالغناء وقرع الطبول فوق مدرج يجسد خارطة افريقيا المنذورة للموت، وتهاوت المناشدات المحزنة بضرورة حماية البيئة من مخربيها صناع الأسلحة وتجار الموت… واستمرت افريقيا كالطير ترقص مذبوحة من الألم.
هزيمة جديدة للإنسان. هزيمة جديدة للطبيعة. هزيمة جديدة للحياة.
وفرح الفقراء الذي لا يقدر عليه الأغنياء ينقلب تدريجا إلى نواح شجي على الأرض وإنسانها المهزوم في كل المجالات التي تؤكد إنسانيته.

الحزن العراقي وفضاءات الجنون في المنافي
»على أرصفة الوهم رأيت بكاء يتبعني! يا لشقائي فات أواني«
»عماذا يفتش اولئك القاطنون في لغة الدم؟ ألا يكفي هذا الموت كله؟«
الجرح العراقي، كما الحزن العراقي، معتق. وهو مفتوح من قبل حرب جورج بوش الاول، ومن بعد تهديدات جورج بوش الثاني بحرب جديدة لا تستهدف، هذه المرة، »تحرير الكويت« بل »تحرير« أرض الرافدين من أهلها ونفطها وخيرها بذريعة »تأديب« حاكمها الذي يطرد شعبه ثم يطارده في المنافي، تعزيزا للصمود الوطني!
والشعر في العراق كما الحزن، كما دجلة والفرات، متدفق باللوعة، عميق مجراه في الذاكرة وفي القلب وفي الاوردة التي تربط هذا الانسان الذي جربت عليه كل صنوف التعذيب والقهر والنفي فضلا عن الاغتيال، فلم تنقص عراقيته ذرة ولا نقص حزنه بل فاض عنه الى إخوانه من حوله، ولا نقصت شاعريته بل هي خالطت حليب الاطفال ونسغ الشجر ونسجت لليل عباءته الطويلة وللوجع ناي الشجن العريق.
علي ناصر كنانه نغمة اخرى في سمفونية الحزن العراقي التي بالكاد نستذكر بداياتها، لكن أياً منا لا يتوقع لها نهاية في قرن او قرنين، الديوان الجديد »فجاءة النيزك« هو ثالث البكائيات التي أنتجها هذا المشرد الممنوع من ان يكون عراقيا في العراق، وممنوع ان يكون عراقيا خارجه، وبالكاد يسمح له كما لملايين الهاربين من الحكم الظالم أن يموت عراقيا… وبرغم ذلك فهو وهم مستعدون، لو منحوا الفرصة، لأن يموتوا من أجل العراق.
»أشد رحالي…/ ها قد قررت السفر الممنوع/ ورميت حصاة في الماء الخائن.
لم تحملني الموجة يوماً لضفاف عشقها/ وكما المشحوف/ يفلشه البحر فتاتا، ضاعت أحلامي.
أصنع أحلاماً لتضيع! يومياً أصنع أحلاماً لتضيع«!
وفي قصيدة »فوات الأوان«: فات أوان التمر وحل شتاء الثمر/ وحل شتاء يكذب دون ملل.. وذا الهوى كما ترونه هوى/ وكالاوهام طاحت الأماني/ اي هكذا!/ أسير ميتا، وميتا قبلي.. مضى أواني«.
لا يمكن ان يتحول المنفى الى وطن، بل هو اغتيال أفظع من القتل.
»حتى ولا حقيبة سفر/ كل شيء يذوي في الماضي.. الماضي الذي استحال وهماً«.
علي ناصر كنانه »مهاجر آخر في فضاءات الجنون/ باحثا عن حفنة عقل/ تغسل ذاكرة تتصدأ… عن حفنة حلم/ تغسل عقلا يتصادى في ليل الصمت..«.
وهو ينتظر، بخوف، الذوبان: »في وجع المسافة ما بين تل من الثلج وتل من الرمل. ناخ بعيري.. ومات/ … لو ذبت كذلك«!
ويخاف علي ناصر كنانه، يخاف من »نهاية التدلي«:
»أتدلى من غصن يابس/ طائرا ميتا/ لا الغصن يتمسك بي ولا الارض تبدي كرم القبر«.
كم مليون عراقي يتدلون، في منافيهم، من أغصان يابسة وينتهون كطيور ميتة بلا قبور؟!
لكن العراق لأهله… أحياءً وأمواتا، الأمس واليوم وغدا… ما كان ولن يكون إلا لهم وبهم.

حكايات مبتورة
حين شكا العاشق من ضيق الوقت، خرجت المرأة من جسدها وقالت: لنتحدث عن الطقس وأسعار الاسهم، اذن.
عندها اكتشف العاشق انه نسي جسده في آخر طائرة ركبها.
أما الوقت فقد تركهما خارجه وذهب الى من يعرف كيف يمتصه حتى الثمالة، فيجعل دقائقه خمائل ورد وياسمين لتظلل الحب فتجعله زمنا بلا نهاية.
**
قالت الفنانة متذمرة: عندما اقف للغناء احس بالعيون تنهش جسدي، فتأخذني النشوة. لكنني في كل حفلة احس بالنقصان، يغادرني الجمهور وقد اصطحب كل من رجاله بعض جسدي، أما صوتي فيبقى لي ولا صدى.
**
قال لصديقه: هل يصيب الحب المحب بعمى الألوان؟
قال الصديق بخبرته الطويلة: بل يصيب بالعمى المطلق، اذ يثبت الظن عند العاشقين ان العالم إنما وجد لهما فقط، وأن قاراته الخمس أضيق من ان تتسع لهما، بينما هما منزويان في زاوية معتمة.

تهويمات
قال الفتى: جئنا ندعوك الى حفل زفافنا.
والتفت الى العروس يتأملها فاذا عيناها الواسعتان ترهجان بكل فرح الارض… فأبحر فيهما مستعجلا فحضر الحفل وشهد على الزفاف ونال نصيبه من الفرح…
**
صارت النساء بلا وجوه.
كأنهن يستعرن وجهك حين يردن الخروج الى الحب.
**
مدد عمره فوق الارجوحة وهدهده حتى غفا،
عندئذ تسلل خارج الزمن ليصطنع عمره الجديد.
**
هتف له صديقه: الفرح يناديك… هل تعرف العنوان؟
ومشى في ظل أنامل البدوي حتى وصل.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
العيون ثرثارة، وقد تفضح ما يريد ان يرجئه العقل، او ما ترغب في استعجاله العواطف. وعندما يخفي حبيبي عينيه عني، فإنني اتحايل عليه حتى ينظرني فأقرأه ونكتب فصلا جديدا في الكتاب الذي لا ننوي ان ننجز خاتمته أبدا. ز$

Exit mobile version