طلال سلمان

هوامش

التبسيط العربي لواقع الأقليات وتعقيداتها الكثيرة
تربينا في أحضان التبسيط: يكفي ان نحفظ الشعارات والعناوين الأولية للمسائل والقضايا الكبرى حتى ندعي في العلم معرفة، ونفترض اننا بتنا من »الخبراء« و»المحللين« القادرين على إلحاق الهزيمة نكراء بكل من يجادلنا بحقنا في أرضنا وخيراتها الكثيرة.
يمكن إيراد آلاف الأمثلة عن مختلف شؤون حياتنا، الخطير منها والبسيط، تكوين »دولنا« والتركيبة السكانية لكل منها، الأقليات العرقية والدينية ودورها في مجتمعاتنا، بهمومها الموروثة او المستجدة والمراهنات الاستعمارية على إمكان استثمارها، »الطبقات« الحاكمة ومنابتها ومصادر شرعيتها. سواء أكانت تقليدية ومسلما بمشروعيتها أم ملفقة ومبتدعة.
ربما لأننا كنا نختزن في الذاكرة الجماعية تلك »الدولة الاسلامية« الجامعة ذات السمات الامبراطورية اللاغية للهويات الوطنية والقومية، لان الدين الحنيف يجبّ الانتماء العرقي ويساوي نظريا بين »المؤمنين« جميعا، ويسلم مقاديرهم بالجملة الى القائم بالأمر، خليفة كان أم سلطانا يحكم من بطن الخليفة، أم »خليلة« تحكم من سرير السلطان، أم »واليا« ينوب عن السلطان ويستمد شرعيته من »الشريعة« حتى لو كان فاسقا خرب الذمة وسفاحا او ملووثا بتعذيب رعاياه لتأديبهم وردهم الى طاعة الله وأولياء الامر.
ففي الذاكرة الجماعية يبقى الحكم »عربيا« حتى لو كان الحاكم »كرديا« مثل صلاح الدين الأيوبي، او مملوكا مثل الظاهر بيبرس، او ارناؤوطيا مثل محمد علي الخ.
بل ان الالتباس بين الاسلام والعروبة كان مصدر »الشرعية« لسلاطين بني عثمان، أقله في الحقبة الاولى من عمر الامبراطورية العثمانية حيث كان الناس يقدمون »بقومياتهم«: الكرجي والخزرجي والشركسي والكردي والسلجوقي والتركماني والرومي الخ.
وبغير غرق في الموروث التاريخي الملتبس، فلقد تعلمنا بتبسيط قاتل ان هذه الدنيا المنداحة بين المحيط والخليج هي »بلاد العرب«، حتى لو كان فيها بعض »بواقي الشعوب المندثرة« التي لا بد قد انصهرت وغدت جزءا لا يتجزأ من مجتمعاتها الجديدة: عربية الواقع والمستقبل والمصير.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد علمتنا كتبنا المدرسية ان المغرب بلد عربي، دون ان تبلغنا ان نصف شعبه من البربر، وان العراق بلد عربي دون ان تشير الى ان فيه كردا وتركمانا وكلدانا وحثيين، قد يشكلون بمجموعهم ثلث السكان، وان السودان بلد عربي دون ان تعرفنا ان حوالى النصف من سكانه هم من الاخوة الافارقة، لونا وأصولا.
لذا فقد عشنا وما زلنا نعيش سلسلة من المفاجآت غير السارة: تقوم حركة اعتراض سياسية في اي دولة عربية، فيتهمها الحكم القائم بالانفصالية، خصوصا اذا كان جمهورها يتشكل من »أقلية« عددية تستشعر الظلم في ظل قوانين لا تعترف لها بخصوصياتها وتفرض عليها منطق »الاكثرية« و»شريعتها« وهنا »المقتل«.
فالبربري في الجزائر جزائري عريق، وهو أخ شقيق للعربي، لكنه ليس »عربيا« بالحسب والنسب، وان كان »عربيا« في السياسة في قلب دولته العربية الهوية والدور والمصير… ولانه »بربري« فله بعض الحقوق، من داخل جزائره العربية، كأن تحترم لغته المحلية وتقاليده وفولكلوره وثقافته الخاصة الخ…
والكردي في العراق عراقي صميم وهو أخ شقيق للعربي ورفيق سلاح وشريك مصير، لكنه ليس »عربيا«، بالمعنى العرقي، ولا بد من احترام مميزاته الذاتية في لغته وتقاليده وحقه في ان يعبر عن نفسه، كأن يختار ممثليه، من داخل تسليمه بوحدة العراق وبالهوية العربية للدولة العراقية.
اما في السودان فتكاد الجهات الجغرافية ان تكون هويات عرقية، فالشمال مختلف عرقا عن الجنوب، والغرب عن الشرق، وثمة اضافة الى الاكثرية الاسلامية أقلية مسيحية ضئيلة الى جانب أقلية كبيرة وثنية.. هذا قبل ان نتدرج الى القبائل ولغاتها المختلفة وصراعاتها المفتوحة على كل ما بين أيديها من المراعي الى مواقع النفوذ!
ولقد أفاد الاستعمار من هذا التنوع في المجتمعات العربية، فلعب ورقة الاقليات، عرقية او دينية (وربما مذهبية)، حرض بعضها على بعض، وحكّم بعضها بالاكثريات، اهتم بأن يعلم النخب من الاقليات تاركا الاكثريات تغرق في جهلها، فلما جاء أوان الاستقلال لم يكن في البلاد من »يصلح« للحكم الا طلائع المثقفين وكادرات المهنيين (ضباطا على وجه الخصوص) في صفوف أبناء الاقليات… وكان منطقيا، من ثم، الا يتأخر زمن الصدام بين الاكثرية التي وجدت انها لا تملك من الحكم الا شكلياته الرئاسية البروتوكولية في حين ان مواقع القرار كلها في يد أبناء الأقليات التي لم تفك ارتباطها تماما مع »المستعمر القديم«.
ثم.. جاء »الاستعمار الجديد« ليرث الارض ومن وما عليها، والآن باسم الديمقراطية وحقوق الانسان والعالم الذي تصاغر فصار قرية بفضل ثورة الاتصالات والمواصلات واتفاقات التجارة الدولية والشركات متعددة الجنسية وصولا الى.. العولمة اللاغية للهويات الوطنية.
اما »العرب« فقد مزقت أكثرياتهم الصراعات على السلطة، والهرب المستمر من مواجهة مشكلاتهم الداخلية، وهي طبيعية وكان بالامكان حلها لو تمت مواجهتها في عينيها وعولجت باعتماد الديمقراطية واحترام إرادة الناس في اختيار أنظمتهم وممثليهم وفي اختيار مناهج أنظمتهم في الاقتصاد والتربية والتعليم وبناء المجتمع الجديد.
لكن ذلك لم يحدث، بل تم تجاهل الواقع او القفز من فوق معطياته الاصلية او محاولة تطويع ما لا يطوع من حقائق الحياة فيه.
وليست المشكلة في تجاهل الأقليات والتعامي عن حقوقها…
المشكلة عدم الاعتراف بالاكثريات، بداية، وقهرها وإذلالها بتزوير إرادتها وبحرمانها حقها في ان تكون المرجع الحقيقي للقرار.
منطقي بالتالي ان تنشب الحروب الاهلية، متخذة هنا صورة قهر الاكثرية للاقلية، في الدين او في العرق، وهناك صورة قهر الاقلية للاكثرية بالاعتماد على »الخارج«، المحرض الدائم على الفتنة باعتبارها استثماره الاكيد.
السودان نموذج مجسم مكبّر لكل هذه المشكلات الموروثة عن الحقبة الاستعمارية والتي حولها قصور »الاستقلاليين« عن مواجهتها وعن حلها بالسبل الديمقراطية، الى حروب اهلية مفتوحة تحرق بنيرانها الوطن بدولته وشعبه، او كامنة تنتظر لحظة »اميركية« مناسبة لتأكل الاخضر واليابس فاتحة الطريق عريضا أمام المشروع الامبراطوري الاسرائيلي.

شاعر بيت شباب الذي رحل طفلاً
لم تكن شرفة الورد في ذلك المنزل الوادع في بيت شباب عظيمة الاتساع، ولكنها انفتحت كقلب مضيفنا رياض فاخوري لتستقبل بعض المثقلين بهموم اليوم والغد المتحدرين من تجارب سياسية مختلفة، ومن »هويات« قطرية محتربة بينها »المصرية« الآتية الى العروبة عبر اليسار المطعم بالناصرية، وبينها »السورية« الهاربة من »الوحدة« مع القاهرة الى وعد »البعث« في بغداد.
… وفُرض علينا، »نحن اللبنانيين«، ان نقوم بدور »الشاهد بالعدل«، قبل ان يُلزمنا احتدام النقاش بدور »قوة الفصل«، خصوصا وان »الاقليمية السورية« قد نحت »البعث« جانبا وهي تشن هجوما سفيها على »فرعونيه« المصريين الذين لم يكونوا في يوم من الأيام عربا!
صرخت النسوة حين تدرج النقاش في عنفه الى حد شهر السكاكين، وكان على »الكيانية اللبنانية« ان تقوم بدورها التاريخي في تقديم خبراتها في عقد المصالحات العشائرية من فوق رأس الخلاف الفكري او السياسي.
اما رياض فاخوري فقد أفتى بأن نعود الى أفياء الشعر لان فيها الشفاء من كل علة، ولانه ارض اللقاء الاخير بين مختلف أصناف العرب وتلاوينهم السياسية.
وعلى امتداد ثلاثين سنة او يزيد كان على رياض فاخوري ان يجرب ان يحل بروح الشاعر ما يعجز عن حله عقل الناقد او اجتهاد الباحث من معضلات الواقع العربي، واللبناني يشكل بعض ذرواتها الاكثر تعقيدا.
قرأ كثيرا وكتب كثيرا وعرف من الناس كثيرا، ولكنه استمر يبحث ويحاول ان يعرف أكثر. ربما لهذا تعددت محاولاته وأساليب تناوله المسائل التي تحيره، فجرب الرواية والمسرحية والنقد والبحث الفكري اضافة الى الشعر وهو لعبته الفضلى.
مع ذلك فقد عاش رياض فاخوري طفلا، وسلك في حياته وسط الألغام والمخاطر وحقول الشر سلوك الطفل البريء الواثق من ان براءته ستنجيه.. وها هو يرحل مع براءته، تاركا لأجراس النحاس التي اشتهرت بلدته الجميلة بيت شباب ان تعلن بدقات الحزن غياب الطفل الذي اخترق صفوف »الكبار« فسبق بعضهم لأنه كان يتعجل ان يقول كل ما في نفسه.. ربما لأنه كان يعرف او انه كان يريد ان يغادرنا قبل ان يفقد براءته.
وداعا ايها الصديق الذي لم يغادر طفولته فظل نظيفا كالفقر، بريئا كبيت قديس في بيت شباب يختزن في نحاسه كل الدوي الذي يحتاجه النيام لينتبهوا فيقوموا ليمسكوا أمرهم بأيديهم.

علاء الديب سائحا… سياسيا!
أخيرا »تغرب« علاء الديب فحل ضيفا على الكاتب الجوال الذي تنسيه متعة السفر طريق العودة مصطفى الحسيني، وبهذا مكن الوافد الجديد صديقه القديم من ممارسة هوايته المفضلة بأن يكون دليلا سياحيا لهذا »المصري الساذج« في أدغال الطوائف والمذاهب والأفكار والعجائب اللبنانية التي غدت بعضا من الفولكلور تقام له المهرجانات السياحية في بعلبك وبيت الدين وصور وطرابلس وجبيل حرصا على التوازن الوطني فوق الخوازيق الطائفية.
ما أقسى الزمن وهو ينيخ بكلكله على كاهل قلم رقيق يكتب بنور عينيه لجمهور يتناقص عدد القراء فيه بقدر ما يتزايد عدد المطبوعات التي لا تقدم معرفة او فائدة او حتى تسلية او متعة الفرجة على صور جميلة لقارئها…
أين علاء الديب هذا المتوكئ على زوجته وعصاه من علاء الديب القلم الذي أشرق في »صباح الخير« وأخذه الحب الى الشعر، ثم جاء به »الهجر« الى البيت الذي للحب بُني في المنيل بالقاهرة، ليبكي على كتف »بدر« لوعته، مستبقا موعد وصول المضنى الآخر الذي جفاه مرقده نسيم هنري، ومقدما نفسه على »عاشق الروح« لان »عشق الجسد فاني«، ناجي شاكر، الذي احتاج منه »القرار المصيري« ثلثي عمره.
سألت علاء عن »صهره« الفنان العظيم، رساما ونحاتا، آدم حنين، فرد بالصوت القدري البارد: »آدم كويس.. بس عفاف روّحت!«.
ابتسم في مواجهة ذهولي الحزين: كنت أحد شهود حبهما العظيم!
أضاف بغير ان تغيب ابتسامته: أذكر فرحتك، أنت اللبناني، بتجاوز حبهما حاجز الاختلاف في الدين، ولقد قرأته في السياسة شهادة لتحضّر المصريين.
أردت مجاملته فقلت: قرأت انك قد نلت جائزة الدولة التقديرية في الآداب..
جلجلت ضحكته: كويس انهم افتكروني.. كدت أعجز عن الصعود الى المسرح لتسلمها!
أما حين توغلنا في النقاش السياسي، فقد تولت ولية أمره عصمت تأديبه ومعه الكاتب على الطرقات، مصطفى الحسيني، فأعادت الى ذاكرتهما بعض ما كانت فيه مصر وبعض ما صارت اليه مما يرغبان في نسيانه ليؤكدا براءتهما المستحيلة.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
يعيدك الحب الى طفولتك، تلهو وتعبث متجاوزا قيود الاصول التي يفرضها النفاق. أما أبهج ما فيه انه يرجعك الى الطبيعة فتعيد اكتشاف القمر والشجر والورد والياسمين والساقية المنتشية بمتعة الاندفاع نحو الحضن الاوسع للذوبان فيه. أتمنى لحبيبي عمرا مديدا في طفولته ليظل مثلي.

Exit mobile version