طلال سلمان

هوامش

الغائب حاضراً، الغائب مستقبلاً؟!
تحولت الذكرى الخمسون لثورة 23 يوليو (تموز) التي قادها جمال عبد الناصر في مصر سنة 1952 الى ميادين حروب وجبهات قتال ضار من حول القائد الذي غيبه الموت قبل اثنتين وثلاثين سنة وما زال حاضرا بأكثر مما يتمنى خصومه وبأكثر مما يقدر محبوه والمؤمنون بدوره كرائد للنهضة العربية الحديثة.
والحقيقة ان هذه الحروب لم تتوقف يوما، لكنها بلغت ذروة احتدامها خلال الايام القليلة الماضية، وكأن »الرجل« حي بعد، مؤثر وفاعل بل وهو المعيار والمقياس: من والاه وسلّم بقيادته وآمن بنهجه فهو المناضل، وهو القومي، وهو الثوري، وهو العربي، وهو المؤمن بالتغيير، وهو العامل لتحرير الارض والارادة… اما من خاصمه فهو الكياني او الاقليمي او القطري، وهو المستغرب، وهو المعادي للجماهير وطموحاتها، وهو المفرط بالارض المنادي بالصلح مع اسرائيل بشروطها والمروج للالتحاق بالاميركيين في كل ما يطلبونه في السياسة والاقتصاد والثقافة وإسقاط الوطنيات لحساب العولمة وحمل السلاح لمقاتلة »الارهاب«، وان كانت هذه »التسمية« تصيب اول (وآخر؟) من تصيب العرب والمسلمين، ومعهم الشعوب المغلوبة على امرها والتي كان جمال عبد الناصر بطلها في مختلف اقطارها.
عبر هذه الحروب ضاعت كل محاولة لتقييم هذه التجربة العربية الغنية بالموضوعية التي تتناسب مع خطورة التحولات التي احدثتها في دنيانا، وانقسم »المراجعون« الى مؤمنين بفكر »المارد الاسمر« الى حد تبرئته من شبهة الخطأ، او الى »شتّامين« ينتقمون منه بعد ثلث قرن، مطمئنين الى غيابه وانفراط عقد »الثوار«، وهي فرصة لإعادة وصل ما انقطع مع قوى النفوذ الاجنبي، ولا سيما الاميركي، وتبرير كل الانحرافات التي وقعت بعد غيابه وأخطرها الصلح مع العدو الاسرائيلي.
عبر هذه الحروب تلاشى اي احترام للتاريخ ووقائعه، وأقدم المتضررون من التجربة على كثير من التزوير، وحقروا انجازات كبرى وتحولات خطيرة تجاوزت العرب الى الصعيد العالمي… ثم انهم اهانوا، مرة اخرى، الجماهير بل الشعوب التي واكبته بالتعب والجهد والعرق والآلام، سعيا وراء التحرر واستعادة الكرامة واعادة بناء مجتمعاتها بارادتها الحرة وبما يتناسب مع موروثها الحضاري ومع طموحها الى مستقبل افضل، بغير ان تخسر هويتها وجدارتها بالحياة.
حاسبه كثير من السياسيين والكتاب من خارج تجربته ومداها والظروف المحيطة، وحاكموه بمعايير اليوم، فأدانوه حتى الحكم بإعدامه فورا وبغير تأخير!
في حين لجأ آخرون الى محاسبة القائمين بالامر اليوم بمعايير زمان جمال عبد الناصر وظروفه والمعطيات الدولية آنذاك، ومفهوم ان النظر الى عبد الناصر من خلال واقعنا الراهن يظهر القائمين بالامر، اليوم، صغارا بالمقارنة مع ذلك »العملاق«، لذلك فقد اجتهد المجتهدون لتصغيره طالما انهم لا يستطيعون ان يجاروه في الكبر.
ثم ان كثيرا ممن خاصموه وهو حي فاندثروا او كادوا، وجدوا الفرصة الآن »ليكبروا« من خلال تجديد الخصومة معه وهو ميت.
وبالتأكيد فان كل الملتحقين بالغرب الاميركي، ولو عبر المخابرات المركزية التي باتت تحكم العديد من الاقطار العربية علنا وعلى المكشوف، وكذا كل المروجين للصلح مع اسرائيل ولو بشروط شارون، يهتمون بأن يستوثقوا من موته باعادة قتله، ليطمئنوا وليستعيدوا نوعا من الاعتبار بوصفهم واقعيين وعمليين في مواجهة حالم قاد الناس الى الخراب عبر تخديرهم بالاوهام المستحيل تنفيذها.
المفارقة ان هؤلاء واولئك يتوجهون بخطابهم الى جيل لم يعرف جمال عبد الناصر، بل هو منع من التعرف اليه، ومن مناقشة تجربته، بل حتى من »الفرجة« عليها عبر وسائل الاعلام المعروفة: السينما والتلفزيون والكتب فضلا عن الصحافة.
ومن هنا فان خصوم جمال عبد الناصر، على مهارتهم، لم يستطيعوا تفسير ظاهرة الالتفاف الجماهيري من حوله قائدا حيا، ومهزوما مستقيلا، ثم ميتا، الا ببراعة المخابرات وسيطرتها على الشارع!
كذلك فان احدا منهم لم ينجح في شرح الاختلاف في النظرة بين المواطن في مصر وبين المواطن العربي خارجها الى جمال عبد الناصر، وحقيقة الامر ان من في الداخل كان يواجهه »النظام« بكل جبروته وإخفاقاته وتخلفه، اما من في الخارج فكان يرى »البطل« وقد تحرر من نظامه وأجهزته الثقيلة اليد والوطأة.
في التاريخ، يفترض انه كلما بعدت المسافة مع الحدث وأبطاله تكتسب النظرة المزيد من الرصانة والموضوعية، اذ تهدأ العواطف بالاعتراض او التأييد وتتبدى الوقائع بحجمها الطبيعي وبدلالاتها وانعكاساتها الفعلية على المستقبل، وتذهب مع الموت الخصومات والنكايات والاحقاد.
اما عندنا فنقتل بعد الابطال التاريخ نفسه: الماضي والحاضر والمستقبل. مع ذلك، يبدو جمال عبد الناصر، بعد 32 سنة على غيابه، اعظم حضورا من كل هؤلاء الذين يحاولون مسح اسمه وصورته من الذاكرة ومن التاريخ!
***
ملحوظة عابرة: عشية الثلاثاء الواقع فيه 23 تموز (يوليو) 2002، شاركت اسرائيل في احياء الذكرى الخمسين لثورة مصر بقيادة جمال عبد الناصر، بمذبحة في غزة. قصفت بطائراتها الاميركية حيا سكنيا في هذا القطاع الذي كان بمسؤولية مصر، فقضى خمسة عشر شهيدا معظمهم من الأطفال تحت الأنقاض. وقيل إن زنة القذيفة كانت طنا واحدا، وهي مثل تلك القذائف الجبارة التي بقرت بطون الجبال في أفغانستان.
ملحوظة أخرى عابرة: بعد 32 سنة من وفاة جمال عبد الناصر لا يجد فلاسفة الهزيمة سببا لتبرير الأوضاع المتردية التي يعيش العرب في ظلها، سياسيا وثقافيا واقتصاديا وعسكريا، إلا محاولات ذلك القائد الذي آمن بقدرات أمته فاندفع معها يحاول تحقيق الأحلام بقدرات أبنائها الذين كانوا فاقدي الثقة في أنفسهم فاستعادوها معه. ما أسهل أن تحيل مسؤولية تقصير الأحياء على الأموات. ما أبشع أن تحمّل الشجعان من الذين حاولوا مسؤولية قصور القاعدين والمستسلمين بغير قتال.
بعد 32 سنة من الغياب، ما زال جمال عبد الناصر أكبر من كل القائمين بالأمر الآن، على مختلف المستويات. ما زال حاضرا أكثر من الذين لولا غيابه لما كانوا، والذين لا يحضرون إلا عبر التشهير به مع أنهم مدينون بوجودهم لغيابه.
إن الهجوم الشنيع عليه ميتا ومحاولة التشهير به وإدانته بعد كل هذا الغياب الطويل إنما يكشف فظاعة جرائمهم وجسامة أخطائهم وقصورهم الذي لا حد له. واذا كان صحيحا أنه قد منعهم بحضوره عن أن ينجزوا، فما الذي منعهم أو عطلهم عن الإنجاز بعد غيابه؟… وكيف تتقدم أمة غائبها أعظم حضورا وتأثيرا من كل سلاطينها والقائمين بالأمر، على مستوى التدبير والتفكير والتقرير و… التشهير؟!!

جهاد الزين يستدرك اسطنبول شعرا
بقرار واع يندفع جهاد الزين في »الاتجاه الآخر« المخالف لنهر الأكثرية.
إنه »المختلف«، ربما لأنه يرى الاختلاف سببا للغنى الفكري… وهو يذهب عبر باب الاجتهاد المفتوح الى آخر المدى في رياضة ذهنية لا تتوقف عند »مسلّمات«، أو »ثوابت اليقين«.
هو كاتب بين الصحافيين، فلسطيني عند السوريين، عراقي مع الايرانيين، لبناني مع المصريين، »يميني« في حزب »الاشتراكيين«، »درزي« بين المسيحيين، و»مسيحي« بين الشيعة، و»تركي« بين العرب.
ولأنه »عاملي« فهو يعتبر الشعر بعض هويته، خصوصا وانه عظيم الإعجاب بجده الشيخ علي الزين، وقد »تتلمذ« بحدود معينة على مجلة »العرفان« لمؤسسها أحمد عارف الزين، ولعلها قد أَّسهمت في تعزيز حقه في الاختلاف مع »المجموع«.
وفي الشعر كما في النثر، يختار جهاد الزين الأسلوب الأصعب. مع الكلمات الأولى يطل الاستدراك الأول، الذي سيلحق به استدراك ثان ثم ثالث، حتى يكاد الاستدراك يصبح أهم ما في النص. متعبة قراءته لأنه يقول أقل ما في نفسه، ثم يحاول أن يوضح فيستدرك، لكنه يخشى أن يختل المعنى فيضيف، ثم يخاف أن تخرجه الإضافة عن السياق فيردفها باستدراك لمنطلق الكلام، فإذا ما افترض أن الاستدراك قد يؤخذ على محمل التراجع أو الاعتذار عاد الى توكيد الإصرار على ما فهمته منه بداية وخاف منه.. وهكذا تنتهي معه وقد تقطعت أنفاسه وأنفاسك عبر اللغة المشطبة، المجرحة بالقواطع المؤكدة للاتصال، وفي الأفكار النافرة التي يريدها أن تثير جدلا، فإذا ما ثار الجدل انصرف عنه الى التحرش بمحرّمة أخرى يقاربها مجادلا مستدرجا المزيد من المجادلين.
ولقد غرق جهاد الزين في حب تركيا بينما هو عائد من الإعجاب بثورة الخميني في إيران… وابتدع منطقا خاصا عن دول الجوار، وقراءة مختلفة للحقبة العثمانية ونهاياتها البائسة وللخروج العربي من السلطنة الى الاستعمار الغربي.
لكن جهاد الزين لم يكتب »قصيدة اسطنبول« لأسباب سياسية، وإن كانت السياسة تخالط الحب وتطل عبر عيون النساء اللواتي أغواهن أو أغوينه، كما عبر جغرافية هذه المدينة المتميزة بتاريخها الفريد كما بموقعها الفريد على خريطة الصراعات الدينية والسياسية والقومية إلخ..
حتى مع الشعر لا بد من الاستدراك، وهكذا يشطر الاستدراك المعنى والمبنى.
ولعله في بعض الحالات يخدم في التمويه… »فالمتآمر الفطن يسحب يده من المفتاح اذا عطس«.
جهاد الزين الشاعر صعب مثل جهاد الزين الناثر… وهو سياسي في الغرام بقدر ما هو »تركي« في السياسة.
أجمل بيت في الديوان الإهداء: »إلى صديقة العمر راغدة النحاس«، وهي الزوجة التي تفهم نثر جهاد وشعره برغم كل الاستدراكات.
ارجوحة للنيزك.. نوم للحمام!
لم يكن يشق بحر الظلمات غير بريق العيون، لكن الرغبات كانت أوضح من ان تحتاج الى نور لقراءتها.
مد يده كمن يبحث عن مرتكز لليقين في المكان الضيق الذي بالكاد يتسع للهمس، والليل ولادة خصبة للرؤى التي منها ينبثق النور.
فتح كفه في قلب الليل طلبا لقطرة ندى. وتمطت العتمة في قلب الكف المفتوحة حتى تاهت عن ذراعه. تمزق السكون فجأة، وقبل ان تلتقط اذنه الصوت كان النيزك قد اودع في كفه فرخ حمام اسقطه من عشه شبق الطيران. انطوت الأصابع المتوترة على الكوكب الدري وهو لا يعرف هل هي منبع الارتعاش أو مصبه. نقر فرخ الحمام سبابته فانطوت الأصابع على ضيفها المباغت تحفظ هديله الخافت حتى لا يضيع في زحمة اضطراب الهواء بالأفكار والاخيلة والتشهي.
حدثته نفسه بأن فرخ الحمام تائه، فالتفت يبحث في قلب الليل عن حمامة اضاعت عشها، حين سمع ضحكة طفولية مكبوتة. وقبل ان ينتبه من غفلته وجد نفسه يعلو في سماء تتغامز فيها نجمتان.
قال فرخ الحمام: علينا ان نعيد النيزك الى موقعه..
خفق الجناحان فاشتد الهواء، لكن فرخ الحمام تابع نشاطه بدأب حتى مد ارجوحة بين النجمتين اراح فيها صاحبه، ثم حلق مرتفعاً لكي يعيد النيزك الى موقعه، فوق، فيقفل الثغرة التي يرمي منها الشرير النار التي تحرق أجنحة المحبين.
نم يا حمام، فأمامك سهر طويل!

صدأ الكلمات
لم تكن المناسبة »وطنية« تماما، ولم يكن الحضور مستعدا لحفلة طرب.
حين وقف الفتى، وسط جمع المحتشدين الى المائدة الوطنية، ليقول الكلمة الفاتحة للشهية، خانته ذاكرته، فكر راجعا إلى زمن بعيد كان الكلام فيه »السلاح« الأقوى.. كانت للكلمة فيه معنى يشبه وجه قائلها العائد للتو من ميدان المعركة التي فرض عليه أن يهزم فيها.
كانت الكلمة قد »عبرت« ثم ارتدت، بل ردت خائبة من عند حافة باب النصر.
لعب الفتى بأوتار غيتاره وغنى بعض نتاج زمن الاعتراض على التسليم بالقدر الاسرائيلي، تحركت في النفوس المواجع، لكن الأفكار كانت سارحة خارج القاعة المقفلة على فلسطين، وخليفة نيكسون يحدد لكل عربي كمية الهواء الذي يحق له ان يتنفسه في الشارع كما في غرفة نومه.
بعض الكلام يصيبه القدم ايضاً. الشعر السياسي ظرفي وله أجل، الكلام نتاج العمل، أو الأمل، فاذا ما وقع الطلاق معهما صدئت الكلمات، وقد تتحول الى أدوات تجرح قائلها!

من أقوال نسمه
قال لي »نسمه« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لم أكن أقرأ الشعر ولا استسيغه. كنت اعتبره ترفا وملهاة النرجسيين والمتبطلين والذين لا يشغل بالهم هم خاص أو هم عام. في الأيام الأخيرة ضبطت نفسي وأنا اعتني بلغتي حتى اقربها من الشعر. أتراني قد وقعت؟! اتراني قد سقطت في بئر النرجسية… مع حبيبي الذي يشبهني حتى لكأننا واحد

Exit mobile version