بهلوانية مزركشة بأحلام ليلة صيف.. أفريقية!
لا أعرف من افريقيا الا »رأسها« العربي، وبعض غربها الاطلسي، اما شرقها على البحر الأحمر فأعرف عنه بعض ما تحمله من آثاره الثابتة جمهورية اليمن السعيد.
أما القلب منها فأعرف عنه ما تحفل به روايات المغتربين اللبنانيين الذين يمكن اعتبارهم الأدلاّء الأفذاذ والمرشدين الممتازين وعلماء الأنساب في القبائل والأعراق التي اصطنع منها الاستعمار الغربي المتعدد دولا مقتتلة، وترك في معظم أقطارها التي جزّئت وقسمّت مناطق نفوذ حكما أقلويا يدين له بوجوده ويخوض معركة بقاء مع الاكثرية المقهورة.
وفي ذاكرتي بعد، صورة التقسيمات السياسية لهذه القارة التي يعبّر لون سكانها عن ظلم قدري بقدر ما يعبّر واقعها السياسي (والاقتصادي والاجتماعي) عن ظلم بشري… ففي الكتب المدرسية كنا ننظر الى خريطة افريقيا وقد غطى مهرجان من الألوان بقاعها، وكان كل لون يدل على هوية المستعمر: هنا الانكليز، وهناك الفرنسيون، والبلجيك والبرتغاليون والايطاليون والاسبان والهولانديون… أما حين يجيء الكلام عن النخّاسين تجار العبيد فان المؤلفين الاجانب لا يجدون من يستحق هذا التوصيف القاسي غير أبناء عمومة الافارقة وأبناء خؤولتهم من العرب!
(فوق »جسر الخالدية« في براغ، عاصمة تشيخيا، المؤدي الى واحد من القصور المتاحف، تماثيل عديدة لمبتكرين ومخترعين وكتاب وفنانين، يتوسطهم لأمر لا تفهمه تمثال لنخاّس عربي، يجلد بسوطه ظهر عبد افريقي…. اما تجار العبيد الفعليون الذين شحنوا الملايين من السود مقيَّدين بالسلاسل، الى العالم الاميركي الجديد، وكلهم بطبيعة الحال أوروبيون زرق العيون وبشرتهم بلون الحليب، فلا أثر لهم ولا ذكر!).
الواقع الافريقي مفجع سياسيا، فالحروب الاهلية في العديد من أقطارها لا تكاد تُطفَأ حتى يشعلها اصحاب المصلحة فيها من »البيض« مجددا، والانقلابات العسكرية تتوالى في الكثير من دولها حتى انها لم تعد تستوقف احدا لمعرفة اسم الحاكم هذا اليوم، اما الامراض والاوبئة فتفتك فتكا ذريعا بالشعوب الصابرة والمقهورة بنقص التغذية ونقص المعرفة ونقص الكفاءات والنقص في التجربة السياسية فضلا عن الثقافة، من دون ان يعني هذا أن ليس في العديد من أقطار هذه القارة الغنية بثرواتها الطبيعية مفكرون ممتازون وأدباء وشعراء مبدعون لا نعرف منهم وعنهم الا القليل بينما يعرفهم الغرب معرفة تكاد تمكنه من توظيفهم لحساب سياساته وأبرزها إبعادهم عن العرب واستعداؤهم عليهم.
* * *
دارت الأيام، وباشر الاستعمار، الذي كان قد دمر معظم مرافق البلاد قبل رحيله، هجومه المضاد، حصارا وضغوطا وإثارة للفتن وتحريضا للمعارضات التي اختلق بعضها او احتوى بعضها، وإغواء للحكام الجدد الذين كانوا مناضلين فأغرتهم السلطة أحيانا بالظلم او جذبهم حلم الثروة السريعة، او أخذتهم بهرجة السلطة فنصّب بعضهم نفسه »أمبراطورا«، او حاول تقليد من اعتبره الأقوى من الحكام المتفرّدين بالسلطة والقرار.
أسقط الكثير من أبطال الاستقلال في القارة التي عرفت أخيرا نور الحرية، بالتآمر او بالاغتيال او بالانقلابات المدبرة والتي استغلت فيها الخلافات القبلية ومنازعات الحدود التي ترك فيها الاستعمار ألغاما متفجرة، كما بين الدول العربية، ولم يوفر الدين بل لقد وجد من يستغل المبشّرين في أدوار تحريضية ضد الاسلام، حيثما كان منتشرا، بطقوسه أكثر مما بمنطلقاته الايمانية وقواعد السلوك ونظمه الاجتماعية. وتم ابتداع »المسيح الأسود« لاختراق »الوثنية السوداء« و»الاسلام الاسود«، مما زاد من أسباب الاضطراب وزعزعة الاستقرار ووفّر فرصة أوسع للتدخل الخارجي، الغربي عموما والاسرائيلي على وجه الخصوص.
* * *
لم أعرف الطريق الى الفرح بإعلان قيام الاتحاد الافريقي، بل على العكس تماما: لقد أمسكت بعنقي غصة مؤلمة. ما زلنا نبيع الأوهام لشعوبنا. ما زلنا نهرب من واقعنا الى ما نفترضه حلما ثم نتبين، متأخرين، انه كابوس ثقيل!
اي اتحاد بين 56 دولة، دفعة واحدة، لا يجمع بينها رابطة جدية من المصالح وليست مستعدة لمثل هذا التطور التاريخي الذي استدعى من أوروبا حيث الدول دول ولها تراث عريق من التجربة ومن الانجاز، وتتمتع بقدرات اقتصادية ممتازة وبهياكل ادارية كفوءة وحديثة أكثر من اربعة عقود من الاعداد والاستعداد والتحرك المدروس نحو إنجازات محدودة ولكنها متتابعة وحذرة، وبعد استكشاف دقيق للعقبات والمشكلات والتمايزات في اللغة والتقاليد، وبعد جهود مضنية لتجاوز موروثات العداء التاريخي بين بعضها والبعض الآخر؟!
اي اتحاد و»الرأس« العربي لافريقيا، من مصر وحتى موريتانيا، تكاد لا تجمع دوله جامعة او رابطة، برغم صلات القربى والدين واللغة والمصالح، لو ان اصحابها يعملون لتأمينها لمجموعهم؟! هذا اذا ما نسينا او تناسينا الحروب التي نشبت بين مُطلق فكرة »الاتحاد« وبين جيرانه (الافارقة) جميعا، من مصر الى تونس، ومن تشاد الى السودان، فضلا عن دوره مع بوليزاريو الجزائر ضد المغرب؟!
ما هذا الاتجار بالأوهام التي لا تجد لها أرضا تقف فوقها او تبني عليها؟!
لقد كانت حفلة إعلان الاتحاد أشبه بمهرجان فولكلوري ظريف، عرضت فيه قبائل الواقع السياسي الافريقي ازياءها الملونة، في محاولة صاخبة لطمس واقع الخلافات والاختلافات الجوهرية التي تمنع حتى التبادل التجاري المحدود؟!
انها بهلوانية سياسية ستنتهي الى كارثة، وإلى توسيع شقة الخلاف بين الأفارقة، وعلى وجه التحديد بين عرب افريقيا وسائر الافارقة، وإلى توفير ظروف أفضل للهيمنة الاجنبية على هذه القارة التي تبدو محكومة بالتعاسة لزمن أطول!
… وسيتسع أكثر فأكثر مجال النفوذ الاسرائيلي..
قد يقال ان من حق القذافي ان يحلم، وأن يستعيض عما فشل فيه مع العرب بمحاولة طموحة مع أفريقيا. وقد يقال ان كل ما في الواقع الافريقي يدفع بدول هذه القارة نحو أي مخرج من بؤسها في الشتات وافتقاد الاهمية والدور والعجز عن تحقيق الحد الادنى من شروط الحياة اللائقة بهذه الشعوب التي لم تعرف في تاريخها غير الظلم والعسف وذل الإفقار بينما هي تعيش فوق أغنى أرض؟
لكنه هرب من واقع مفجع الى وهم مفزع في نتائجه.
انه هرب من الواقع المزري الى الكابوس، ولو بثياب مزركشة، وشعارات مزركشة، ورؤساء مزركشين بطوفان من التوهمات وأحلام اليقظة..
المنتصر الوحيد هو معمر القذافي الذي أشرك الجميع في حلم ليلة صيف… وليل الصيف قصير!
رحم الله جمال عبد الناصر وباتريس لومومبا وكوامي نكروما وأحمد سيكوتوري وسائر الذين ناضلوا لتحقيق الاحلام بالمواجهة القاسية، ثم مضوا وبقيت نضالاتهم ولادة أحلام لأجيال آتية.
نهاية زمن الفرجة، بداية الامتحان الأصعب!
لم يكن بيننا موعد، لكن الصديق الذي اختارني لمشاركته بهجته بارتفاع معنوياته كان يريد أن يعمّم فرحه. قال:
سقط التهيب عند الباب. بتنا نعرف طريقنا الآن. نتبع قطرات عرقنا التي حفرت في الارض مجرى النجاح فنصل. دليلنا ليالي السهر الطويل على حافة ما كان مستحيلا فتهاوى أمام الارادة واكتمال الاحساس بالذات.
لا مجال للتباهي، ولا ضرورة لان نحني هاماتنا ادعاء للتواضع. يمكننا ان نمشي منتصبي القامة، كشركاء الفرح هؤلاء الذين اخترقوا حاجز الفرادة المدعى وتقاسموا هذه المقاعد المرصوصة فوق المرج الأخضر للملعب الذي تحفظ الذاكرة تفاصيله، بأعمدة النور والاسوار ومواقع مكبرات الصوت والادراج الملتفة خلف دغل من الاشجار البرية.
قال صديقي الآتي الى ذروة الفرح:
انتهى زمن الغياب. انتهى زمن الفرجة على الآخرين والتحسر على الذات. انتهى زمن الاحساس بالقهر، وربما بالدونية. ها نحن نؤكد اننا لسنا أقل كفاءة، او أقل اجتهادا، او أقل استعدادا من الآخرين. فقط كانت تنقصنا الفرصة، ولقد اشتريناها بشقاء العمر ونور العينين. ها نحن نكبر بأبنائنا، فعسى الا يخجلوا بنا مستقبلا. ولكن لا، انهم يعرفون كم ضحينا ليكونوا هنا.
زغردت أم ملهوفة، وهي تسمع اسم ابنها عبر مكبر الصوت وكأنه يعلن للعالم نجاحها هي. شد الأب المغالب دموعه على يدها وهو يعض على شفتيه أن ليس هنا مجال الزغاريد، فقالت بصوت الشوق الى الفرح: منذ ألف عام انتظر هذه اللحظة… انني أعمم الفرح على كل هؤلاء الذين تشد على أعناقهم الربطات فيكتمون سعادتهم وكأنها عورة. الفرح بالنجاح مشاع، ها هو حلمي يمشي أمامي على شغاف قلبي والناس يصفقون له، هل أقل من ان أقول له »اوها يا زين الشباب«؟!
عاد صديقي يقول مكملا روايته للحفل:
أما حين وقف ذلك الشاب العفي خطيبا باسم زملائه، وتدفق بعد العربية بانكليزية أظنها راقية، بدليل ان الرئيس والعمداء والكبار قد صفقوا إعجابا، فقد أخذتنا العزة بالانتماء الى الطين ذاته. لسنا أقل من هؤلاء الذين لم نكن نملك فرصة للتساوي معهم. كانوا ينظرون الينا من فوق، وكنا بسبب الانكسار الداخلي نحترق ألما ولا نتكلم. جاء وقت الكلام… وها هو ابننا ينطق باسمنا جميعا فيسمعون!
ثم… تهاوى الكلام، وقام كل يعانق حلمه، يعانق كرامته المستعادة، يعانق أمله في مستقبله وهو يمسكه بيديه وعينيه وأوتار صدره وكل ذلك الخزين من الطموحات المكسورة. لقد ولدنا الآن، لحظة ان انتزعنا الاعتراف بأننا شركاء في السباق نحو الغد. ولعلنا أقرب الى الشمس التي صقلتنا فطهرتنا وجعلتنا مباركين، انتهى عصر الوارثين مع المال المكانة واحتكار العلم. جاء عصر الناس. نحن الناس، وها نحن نخوض الامتحان الاصعب لتوكيد الجدارة والاهلية للمشاركة في صناعة الحلم.
(تحية إلى ط.ق.س)
تهويمات
موعدنا بساط الريح. وحده بساط الريح يمكنه ان يشيلنا من وهدة الملل والخوف واليأس ويحطّنا فوق أرض الحلم.
الموعد بين فجرين والشمس فضّاحة، والحنين صنّاجات تستدرج المتلهّفين الى رحلة في غمار العشق. انزع وجهك ليزهر قلبك.
سأل سدنة المقام عن حبيبه فقالوا ان »السرير« قد فاض بحكايات العشق المكسور.
لا العشق ينتهي ولا العشاق يتوبون وعليك ان تنسى اسمك لتهبط عليك النعمة.
أطلّ من على الشرفة على المدينة التي يلفّها الصيف بغلالة من التراب، فلمح طيف أرجوحة تمتد بين اهرامات الجيزة وجبل المقطم، والنيل يرفع العرائس اللواتي اغرقن عبر الدهور فيأخذهن خوفو الى الظل ويقرأ من شعره حتى يعدن الى الصحو وتندفع كل عروس منهن الى حبيبها الذي هده الانتظار فينبعث حيّا.
من أقوال نسمة×
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا تخف من حبك وليكن خوفك عليه. الحب ليس عصيانا. الحب تكامل. قبله نكون انصاف بشر وبه نصير انصاف آلهة. لكن المحب إنسان، فارحم ضعفك ولا يأخذك الزهو الى الانكسار!