مسرحية تستعصي على الكتابة: ديمقراطية العشيرة!
ما تحسرت في حياتي على شحوب موهبة الابداع الفني، والمسرحي على وجه التحديد، في لبنان، كما تحسرت وأنا أتابع مثل غيري من »الجمهور« فصول الكوميديا السوداء للديمقراطية اللبنانية مثلما تبدت في الانتخاب الفرعي في قضاء المتن الشمالي الجميل في »قلب لبنان«، كما أسماه أمين الريحاني.
لم يحلق أي مبدع بدءاً من عباقرة الإغريق الى توفيق الحكيم ويوسف ادريس والفرد فرج وسعد الله ونوس، من العرب، مروراً بشكسبير الانكليزي وموليير الفرنسي وسرفانتس الاسباني، وانتهاء بصموئيل بيكيت ويونسكو من كتاب مسرح ما بعد المسرح، الى مستوى ما شهده لبنان، خلال الأيام القليلة الماضية، من فصول »الصراع على العرش« داخل الاسرة الواحدة، ثم عبر الطوائف، حتى جاءت الخاتمة السعيدة المرشحة لأن تكون بداية لمسلسل من المسرحيات الخارقة للعقل والمألوف.
خارطة الصراع غاية في التعقيد، أصلا، وقبل ان تدخلها الديمقراطية المخربة، فكيف بعدما سلحت »الانتخابات« الاطراف المصطرعة بغابة متشابكة من الكلمات المقطعة / المتقاطعة / المقطوعة الصلة بأصولها اي بدلالاتها الأصلية، مثل »الشعب«، »الارادة الشعبية«، »القرار الحر«، ثم بكلمات جديدة دخلت حديثاً الى السياسة مثل »الأرض« و»العازل« و»الضمير«، وأرقام السيارات المهداة واستضافة بعض ضيوف الليل في أسَّرة أصحاب البيت والتسهيلات بالدفع لمن اشترى مسكناً بالدين.
أما على مستوى »الاسرة المالكة« فالصراع أيضاً غاية في التعقيد: تبدأ بالأخوين، وقد تبادلا عبر الاتهامات موقع هابيل وقايين في الاسطورة الخالدة، ثم تمتد عبر ذريتهما الصالحة الى مختلف مواقع النفوذ السياسي والمالي والطائفي في البلاد.
هناك »عقدة« الأخ الأصغر مع اخيه الاكبر: من مساعد ومعاون ومدير أعمال وشريك الى منافس فالى مزاحم فالى خصم… ورصيد الخبرات لا ينضب سواء بنسج التحالفات غير المنطقية أو فكها واستبدالها بالخصوم التاريخيين من غير سابق انذار، أو بعقد الصفقات السياسية بمنطق البورصة، فالسياسة مثل المال بلا رائحة.
وهناك »عقدة« الابن الاكبر (للأخ الأكبر) الذي استبعد الوراثة مستقوياً بالمصاهرة مع السلطان، فأزاح أباه، لأن كرسي الزعامة لا يتسع لاثنين، وباشر السلطة وكأن لا بديل منه ولا شريك له ولا غنى عنه في الحاضر أو في المستقبل.
ثم هناك عقدة »الابنة« التي عاكسها حظها في زواجها، فتم تعويضها بشيء من السلطة على مستوى بلدي، فلما اشتكت من ضآلة حصتها تم توسيع النطاق البلدي حتى شمل الجرد والبحر وما بينهما، وهدأت نفسها بعدما صارت »رئيسا« لمجموعة من الرؤساء المحليين الصغار.
… فلما شغر المقعد الفخم قفز نحوه الآخ الأصغر مباغتا شقيقه الاكبر مستقويا عليه بالخصوم و»الاعداء« جميعا، امواتا واحياء، وتحت راية المعارضة للسلطان وصهره وكل من والاهما… فكان الرد بالحرس الامبراطوري: الابنة!
ولأن المصاهرة تتجاوز الاشخاص الى الطوائف فقد وجد الاخ الاكبر نفسه مرتاحا تماما: فهو صهر الطائفة العظمى مرتين، بإبنه وبإبنته.
أما على المستوى السياسي فقد انعقدت تحالفات لا يمكن تصنيفها او تحديدها؛ صار العلماني مطرانا، وانقاد اليساري الى قيادة اليمين العنصري، اما ابناء الطوائف الاخرى فقد صاروا »دخلاء« و»طارئين« اوفدوا خصيصا لتخريب الديمقراطية الطائفية الصافية. ابتلع الشيوعي خطابه القديم فتورم، وخلع الجنرال بزة قائد التحرير، وهجر الدبابة لينطوي في صندوقة الاقتراع، وصار عناصر الميليشيا المثقلون بدماء ضحاياهم في الحرب الاهلية مبشرين بحقوق الانسان ومطالبين بالعدالة!
كيف يمكن ان تقرأ مثل هذه الخارطة المعقدة التي ينعدم فيها وجود العقل فضلا عن العاطفة والاعراف، ويشتبك فيها ابناء الرحم الواحد تحت شعار »أنا أو لا أحد«؟!
قال الاخ الاكبر: انا الدولة!، فقال الاخ الاصغر: انا الشعب!
قال الابن الصهر: انا الامة!، وقالت الابنة الرئيس: انا يوم الحساب.
ما زالت الدولة اكتشافا حديثا وطارئا على المجتمعات المتخلفة.
ما زالت الصدارة للعشيرة، لشيخها الإمرة على البطون والافخاذ والفروع، كلمته أمر ورأيه فتوى وموقفه هو الاجماع.
وحتى اذا وقع »انشقاق« او »تمرد« فإن »مصالح العشيرة« سرعان ما تعود لتفرض منطقها وتستوعب »الخارجين« على الطاعة، حتى »لا يشمت الاعداء«!
لا الاحزاب ولا التنظيمات الشعبية ولا النقابات ولا المؤسسات الرسمية التي تحمل شعار الدولة تمكنت من ان تغني عن العشيرة او تتقدم عليها او تحل محلها…
كانت ثمة محاولات، وبعضها كان جادا وكاد يحدث اختراقا ويمهد لانقلاب، لكن مشروع الدولة سرعان ما تعثر، وكان بين تعثره العجز عن مواجهة النتائج المدوية والتداعيات التي لما تتوقف لإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين.
سقطت »الدول« الوليدة في الامتحان الاخطر، بينما كانت تتوطد بالمقابل »الدولة« التي اقامها المستقدمون من مجتمعات متقدمة، مكتملة النمو… وفي حين كان الشعار الديني العرقي في اساس المبررات »العقائدية« لإقامة الدولة اليهودية فوق ارض فلسطين وعلى حساب شعبها، فإن المجتمعات العربية ذات السمة العشائرية تعثرت في بناء »دولها«، التي سرعان ما تهاوت مهزومة امام الدولة العصرية الوافدة، وكانت الهزيمة للمجتمعات العربية بقدر ما كانت لمشروع الدولة العربية.
مع الهزيمة ارتدت كل عشيرة تحاول »حفظ ذاتها« ولو بالاستسلام للمشروع الجديد.
ولأن مشاريع الاحزاب كانت »متقدمة« على مجتمعاتها فإنها سرعان مع تعثرت، خصوصا حين دخلت في السباق على السلطة فاصطدمت بالواقع العشائري وكان ان تهمشت العقائد والمبادئ والافكار العظيمة، فتهاوت »المؤسسات« السياسية الوليدة وعادت الى الانتظام داخل النسيج الاجتماعي المتخلف والمتهالك.
… وكل من تابع المشهد الانتخابي اللبناني الاخير، واستمع الى هتافات المحازبين، وخطابات الحزبيين، كان بإمكانه ان يكتشف ان الرايات الحزبية ليست اكثر من تمويه عصري لواقع متخلف، خصوصا اذا ما احتسبنا الطوائف والمذاهب بين العشائر والقبائل الكبرى في لبنان »الذي طرطش الدنيا علم«.
و»الحكمة الخالدة« التي يختم بها اي حديث انتخابي في لبنان اليوم، تتمثل بالنص الآتي: لو تركوا المقعد لعائلة النائب المتوفى لوفروا على البلاد، دولة وشعبا، الكثير…
أما ما يتم تجاهله عمدا فهو ان الفائز الجديد هو شقيق زعيم العشيرة المهزوم!
يخسر من لديه رصيد من ربح سابق، غير شرعي طبعا، والكل يربح من رصيد الخسارة… خسارة الدولة والشعب!
حكاية
انبثقت أمامه فجأة كنافورة عطر، فلم يتمالك نفسه وهتف: انت، وهنا في آخر الأرض؟ يا ما احلى المصادفة القدرية!
ورد المضيف السوداني: لسنا آخر الأرض، بل قعرها!
قالت مأخوذة بفرحة اللقاء: كنت وأنا طفلة أمد اصبعي الى قعر كوب الشاي كي الحس السكر المترسب فيه.
قال وقد استعاد وقاره: مع أي وفد أنت؟ أما أنا فقد دعيت مفردا، لمحاضرة سألقيها بعد ساعة ثم اتفرغ للسياحة. سأذهب للتمتع بمشهد العناق بين النيلين عند أقدام المدينة المثلثة.
تبرع المضيف السوداني بالشرح: ألم يصحبك أحد الى »المقرن«؟!
تركت الكلمة رنيناً محبباً في نفسها فرددتها بغير قصد: المقرن، آه، المقرن!
عاد المضيف يتابع شرحه: أما أنا فشديد التعصب للنيل الأزرق. سأتدبر أمر السيارة ونذهب قبيل الغروب، ولك ان تقرري موعد العودة، إذا استطعت التخلص من سحر ذلك المشهد الطبيعي الخلاب.
سقط عليهم الصمت بعدما ذاب وقع المفاجأة، وتحرك المضيف منصرفاً وهو يعتذر بمهماته في المؤتمر… هم بسؤالها فسبقت الى الكلام: كيف أنت؟
رد بهمهمة فعادت تقول: أما أنا فأعرف أخبارك من وسائل الاعلام.
استعاد صوته فقال: وأنا أعرف أخبارك بالتجسس!
ابتسمت وقالت وهي تنظره في عينيه: لست بحاجة الى كل هذا الجهد. أخبارك في عينيك غير مطمئنة، فهلا قرأت أخباري؟!
قال: مع الغروب، عند المقرن..
قالت: أنت دائماً أنت… تختار الأبعد مكاناً وزماناً، وتترك لي مساحة المصادفة، وهي تضيق بي. سأذهب مع مضيفنا وأعطيك مكاني في مؤتمر الكلام!
تهويمات
سألت: هل تقرأ الموج؟! البحر شاعر عظيم، وأنا النورس الذي اضاع سربه ونسي النطق فصار راوية لشعر البحر.
قال: لا اعرف من اللغات الا صوتك؟؟؟ والليل والبحر ونشوة اللقاء بالفرح.
قالت وزبد الموج يغطي أفكارها: لم يحن أوان الغرق، فلنتأرجح على حوافي الأمل؟! افتح قلبك للريح واقبض بيديك على نور الشمس واغزل حلمك بيديك فيخضع لك البحر ويجلس اليك ليتعلم السباحة.
قالت: تفتقد الأمل؟!.. خذه من مساحة عمري!
قال: هذه أنانية منك! اما الحب فيعطينا ما نوزع منه على المهجورين والمصدومين ومفتقدي الرجاء.
قال: رأيتك ألف مرة، هذا الصباح… كان الورد قد جن في حديقتي، وكان وجهك في كل وردة.
قالت: أما أنا فيكفيني الشوك ؟؟؟ ما اكرمك!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ليس للحب زمن، ليس للحب عمر. أمس التقيت صديقي العجوز الذي علمني الحرف، وكان يرقص فرحاً. ابلغني بكلمات مقطعة انه قد »وقع«، وانه توقف عن سماع الأغاني القديمة، وانه هجر اللون الداكن في ثيابه، وانه اكتشف في نفسه شاعراً، وانه صار يستحم ببنفسج الغروب، ويتنشف بندى الشروق، وانه…
ومن بعيد جاءني صوته معتذراً لن ادعها تنتظر، اكمل أنت القصيد