طلال سلمان

هوامش

رحلة داخل »المسافة الضوئية« إلى ثنائية الجيل الواحد!
خلال اسبوع واحد تسنى لي ان أعبر، مرتين، »المسافة الضوئية« التي تفصل بين ابنائنا في لبنان، ثقافيا واجتماعيا ونفسيا.
لعلني اقول انني كنت كمن يسافر بين مفاهيم متعارضة وتقاليد متناقضة، في القول والمجلس والمرجعية، لجيل واحد، من حيث المبدأ، ليس فقط بفعل عامل السن ولكنه ايضا بفعل الانتماء لارض واحدة ولهوية واحدة.
كانت قاعة اللقاء الاول مزدحمة بالمحجبات، وقد أُجلسن، في صفوف خاصة وبانفصال تام عن زملائهن من الفتيان المشبعين بالثقافة او الطقوس ذات الصبغة الدينية ذاتها. أما قاعة اللقاء الثاني فلم يكن فيها ما يحجب واقع الافتراق بين الشباب عند هذه الضفة وبين اقرانهم عند الضفة الاخرى، وإن كان يجمع بين »الشبابين« البعد عن عالم »القراءة«، لا سيما باللغة العربية ومخزونها الفكري الديني بأنماطه المتعددة وإن ظل الطابع الاسلامي هو المهيمن.
وفي الحالين، اتيح لي ان احاول قراءة الخواطر التي تجول في اذهان هؤلاء المتقاربين عمرا المتباعدين في انماط معيشتهم وفي مفاهيمهم عن الدنيا والآخرة، والذين تفصل بينهم »هوة« عميقة تشمل كل شيء تقريبا من الأكل والشراب الى اللباس والموسيقى، ومن النظرة الى الجنس الآخر، بل الى الجنس عموما، الى الدين والايمان ووسائط التعبير عنه، والكفر وكيف يتمظهر.
كيف سيقوم مجتمع واحد موحد بجيل ينقسم في نظرته الى الحياة، وطبعا الى ما بعدها، الى الاسرة، الى »الآخر« شريكه في الوطن الذي لم يعرفه الا من خلال »الذكريات« او الاقوال او الروايات المتواترة عن الفظائع التي ارتكبها »ضدنا«، او عن عمق غربته »عنا«، فالأساطير الطائفية الملوثة بمناخ الحرب أعمق اثرا من القيم والمبادئ العامة التي يكرز بها المدرسون ثم ينقضها الذين انتدبوا او ندبوا انفسهم للتبشير بالتعاليم الدينية في مجتمعات الجاهلية الجديدة.
فأما الفارق في مستوى الحياة فواضح جلي: الاكثر فقرا هم الاكثر استجابة والاكثر التزاما بالحجاب، والاكثر تزمتا في مراعاة ما قيل لهم انه من اصول الدين، حتى لو كان ذلك في نظر الآخرين من الشكليات ومن المظاهر التي لا تفعل غير تكريس الانقسام في المجتمع، بل وحتى في البيت الواحد.
طبعا لم يكن »الحوار« متيسرا… سمعوا ما دعوا الى الاستماع اليه من هؤلاء »الوافدين« بأدب، وسأل من هو مكلف بالسؤال عن امور عامة، اغلب الظن انه لا تهمه كثيرا، على المستوى الشخصي، وأصغوا بشيء من الضجر الى الاجوبة المغلفة بالمراعاة وبالحرص على عدم إثارة ما يستدعي النقاش وبالتالي الخلاف.
لا المكان يسمح، ولا الظرف العام، ولا الوقت المخصص للقاء.
ظلت الاسئلة معلقة في العيون او في سماء القاعة، تلقي بظلها الأخرس على الحضور، وبالذات على منظمي اللقاء هنا وهناك، والذين يعرفون ان بين ضمانات النجاح للندوة او اللقاء ادب الالتزام بعدم طرح الاسئلة الخطرة.
على ان جو الافتراق بين البيئتين لا يلغي ابدا الاحساس العميق بهذه المشكلة: الافتراق، والبعد الذي يمنع التعارف ثم معرفة الواحد بالآخر تمهيدا ل»اكتشاف« الانتماء الواحد لبلد واحد والارتباط بمصير واحد، بغض النظر عن الرغبة.
لكأن كلا من الطرفين (ابناء الجيل الواحد في الوطن الواحد) يمشي في اتجاه مختلف، بحيث تتزايد المسافة بينهما كل يوم، بحيث لا يعود احدهما يسمع الآخر، او يراه، وبالتالي يفهمه فضلا عن تعميق الشعور بالغربة… والغربة لا تقود الى الود او الحب بل الى الجفاء، وربما الى ما هو اقسى.
على ان »الفريقين« يتفقان في امور كثيرة اخطرها القلق على مستقبلهم في لبنان، وبينها الغموض الذي يلف دورهم في المستقبل، في ظل انماط السلوك السائدة ان على المستوى السياسي او على المستوى الاقتصادي.
فأما الهم الثقافي فتراه طاغيا عند النخب من المدرسين، وليس عند جميعهم. ولقد وقفت واحدة من المدرسة ترافع بشجاعة وبمنطق محترم دفاعا عن اللغة العربية التي باتت ممتهنة، علما بأن امتهانها يسهم في تحقير الانتساب الى وطن بالذات وإلى تراث ثقافي عريق وعريض، لا يجوز اعدامه، ولا يستحق من ورثته مثل هذا التنكر… وكان شرعيا السؤال هنا: هل نمتهن لغتنا وثقافتنا لاننا ضد الثقافة كما نحن ضد الانتماء، وهل تستهوينا الهجانة الى حد تحقير الذات، وكيف سيحترمنا »الآخرون« اذا كنا لا نحترم وجداننا وانتماءنا وهويتنا؟!
كيف نستدرج الشباب إلى فخ القراءة؟
في هذا السياق علينا ان نعترف ان بين الصحافة والشباب حالة غربة: هم يرونها باردة، قاصرة عن فهمهم وعن مخاطبتهم وبالتالي محاورتهم، وهي تراهم غير مهتمين او غير معنيين بالشأن العام، ذاتيين الى حد كبير، مستريبين بكل من حولهم، مستغربين يذهبون في تقليد »الأجانب« الى ابعد مما يجوز.
كأننا نتحدث لغتين مختلفتين تفترق واحدتهما عن الأخرى في التعابير كما في المعاني.
لا يتصل الأمر بالفارق في العمر، دائما كان هناك فارق في العمر بين جيل الابناء وجيل الآباء ولكن الحوار لم ينقطع، والتواصل لم يختل برغم التعارض في الأمزجة وفي بعض المفاهيم المستحدثة او المستوردة او المهجنة.
هل هي الحرب الأهلية، بكل ما حفلت به من تحولات وتطورات وانقلابات في المفاهيم ومن ثم في التحالفات السياسية… فضلا عن انهيار منظومة القيم التي كانت تضبط السلوك الاجتماعي؟!
هل هي الثورة العلمية، وعنوانها هذا التطور الخطير في الاتصالات والمواصلات التي كسرت الحواجز بين العوالم، المتقدم منها والمتخلف، المحافظ الى حد التزمت والمفتوح القادر على فهم الجديد والأخذ به بغير ان يجرح نفسه او يحرجها مع موروثه او ينكسر؟!
ماذا تريد الصحف؟!
تريد من الشباب شهادة جدارة: بقدر ما تنجح في الوصول اليهم، في اطلاق الحوار عفيا معهم، في التواصل ومن ثم في التعبير عنهم، في الاقتراب من طموحاتهم في كسر حاجز الصمت والغربة.
الجريدة التي تعيش مع جيل واحد ولجيل واحد تموت معه.
الجريدة منتدى حوار، فضلا عن كونها وسيلة معرفة. وهي جسر يربط بين الأجيال يحث على التواصل ويؤكد وحدة الانتماء ووحدة الأهداف الأساسية للمجتمع.
الجريدة منبر ديموقراطي، بطبيعة دورها. وهي بقدر ما تستقطب من جمهور شعبها، بتياراته وانتماءاته المختلفة، عقائديا وسياسيا واجتماعيا، وتشكل أرض لقاء وحوار صحي تكون قد حققت نجاحها في اداء مهمتها المهنية فضلا عن دورها الوطني.
ثم إن الجريدة اداة تثقيف عبر اهتماماتها المتنوعة التي يفترض أن تغطي مجالات عديدة، في الأدب والفن والعلوم والتكنولوجيا، فضلا عن الهوايات كالرياضة والتسلية.
ليست الصحيفة نشرة بحت سياسية حتى لو تصدرت السياسة صفحتها الأولى، وهي تفترض انها بشموليتها تحقق رسالتها.
ليس في الأمر مجاملة او نفاق للقارئ، إنما هي أصول المهنة: فالمطبوعة التي تنتدب نفسها لمثل هذه الرسالة تتخطى حاجز الإعلام والإبلاغ الى مهمة اكثر تعقيدا وهي نسج لغة حوار وتواصل مع قرائها، الذين تعرف أنهم متعددو الاهتمامات، وانهم لا ينتمون الى جيل واحد، وليسوا تنظيما حزبيا حديديا، فلا الأب يقرأ ما يرغب فيه الإبن، ولا البنت الصبية يعجبها بالضرورة ما تلتفت اليه امها… بل ان هناك فروقات عديدة واختلافا في الاهتمامات بين ابناء الجيل الواحد.
ومن مراقبة بسيطة لمسلك الأجيال الجديدة يتبين بوضوح ان المساحات المشتركة في القراءة محدودة… فقد تجد من يسعى الى صفحات الرياضة ويرمي باقي الصفحات، ومن يهتم بالصفحة الأخيرة ومنوعاتها ولا يلتفت الى الأولى، ومن ينفر من السياسة ذاهبا الى ما يتصل بالثقافة او بالفن مفضلا، مثلا، أخبار »مهرجان كان« على اخبار الصراع بالخلوي على ما تبقى من دولارات ومن سمعة الحكم.
الأزمة عامة، إن الخلل في الحوار يمتد من رأس السلطة الى غرفة الطعام في البيت.
وعلينا أن نعترف ان بعض جوانب هذه الأزمة من مخلفات الحرب الأهلية.
لقد اهتزت ثقتنا بعضنا ببعض، وحكم الخوف علاقاتنا، خصوصا ان عمليات التهجير قد أبعدت واحدانا عن أهله وجيرانه ومرتع صباه، أحيانا، أبعدت ابناءنا عن بعضهم البعض وشتتتهم في مناطق متباعدة ومدارس مختلفة، فلم ينشأوا رفاق صبا تنمو صداقتهم يوما بعد يوم، عبر المغامرات العاطفية الصغيرة، عبر تبادل الكتب والدفاتر والأقلام، عبر التشكي من الناظر ومن »العزول« الذي خرب لقاء، عبر النزهات المشتركة الخ…
إن نسبة كبيرة من اللبنانيين قد بدلت او فرض عليها ان تبدل مناطق سكنها. اقتلعت بالقهر او هجّرها الخوف الى بيئة مختلفة تفتقد فيها الإلفة. وعاشت الأسر في جو من التحفظ في إبداء الرأي، بل إن كثيرا من الأهل قد امتنعوا ومنعوا ابناءهم بطبيعة الحال من الحديث في السياسة، واستطرادا من الاهتمام بالسياسة… لا سيما ان الاختلاف السياسي تبدى ذات يوم وكأنه مدخل الى الاقتتال بالسلاح.
ثم إن التشهير المتبادل بين القوى السياسية، يسارها واليمين والبين بين، نفّر الناس عموما من العمل السياسي.. والأخطر أن الاتهام بالمسؤولية عن الدم والتخريب واقتتال الاخوة قد نُسب الى الأحزاب بالمطلق. وكانت الفظائع التي ارتكبت عبر الصراع على السلطة داخل كل بيئة، بل داخل كل اسرة احيانا، مصدرا لإدانة شبه مطلقة للعمل الحزبي خصوصا والسياسي عموما. وارتفعت شعارات من نوع: الأحزاب هي مصدر الشر. السياسة تخرب بيوت الناس. الأحزاب هي سبب الفتنة. السياسة مكر وخبث وتآمر على وحدة الطائفة الخ…
بالمقابل فإن الأحزاب العقائدية قد تراجعت تراجعا ملحوظا حين انزلقت القوى المحاربة لاستخدام السلاح الطائفي، فصارت كلمة الأحزاب هي الاسم الحركي للطوائف، وصار الانتماء الحزبي رديفا للانتماء الطائفي. بل إن بعض الطوائف الكبرى قد قزّمت وحوصرت فحصرت بهذه الحركة او تلك، بهذا الحزب أو ذاك.
لا حل… الا المحاولة للاستمرار في محاولة استدراج الشباب، بالغواية، بكسر جدار الوقار، بالاندفاع معهم في مغامراتهم، بفتح الباب وسيعا لعرض أسباب قلقهم على مستقبلهم، خوفهم من الآخر، تشوقهم الى أن يعيشوا بعيدا عن الرقابة الصارمة للأهل الذين تحكم سلوكهم ذكرياتهم التي تعيش معهم فتبقي خوفهم من تجدد الحرب قائما مع وعيهم بأن أسبابها قد انتفت.
والأهم ان نسمع من الشباب لا ان نظل ندعي اننا نقول »رأيهم« من خلال قراءة صمتهم.
»مقتطف من ندوة حول الصحافة والشباب«

حكاية
قال يشكو همه لصديقه: مشكلتي انني لم اعد اعرف كيف احب. كلما تعرفت الى امرأة طافت عيناي بأنحاء جسدها كلجنة فاحصة مكلفة بإعطاء »علامة« انطلاقا من معايير الجمال الدولية.
لم يعلق صديقه فأضاف قوله: ودائما يسبق خيالي عقلي فأتمثلها معي في السرير، وتتبدى لي العورات المستورة بالملابس ووسائل التجميل، فأنفر منها حتى لا أعرض نفسي لامتحان اعرف انني لن انجح فيه. فقدت ثقتي بالنساء، او انني قد ارتويت منهن وعرفت اصنافهن كافة فصرت ملولا وثقيل الشروط، وها أنذا الآن اعاني من وحدة قاتلة.
ظل الصديق على صمته، وان بدا في عينيه أنه لم يصدق ما يسمع، ثم انشغل عن الشاكي بالالتفات الى صبية ممشوقة القوام كانت تشق طريقها بالعطر والبهاء نحو الطاولة القريبة…
التفت »زير النساء« إلى الوافدة الجديدة وقبل أن يستأنف حديثه، قال له صديقه: رويدك، لا تغلط فيها!
وحين انتبه »الزير« الى شخصية الوافدة الجديدة سبق صديقه يحييها ويسألها عن »زوجها العزيز« الذي كان قد بات الآن خلفه، فرد عليه: نحن بخير، هيا انضم الينا لنسمع آخر مغامراتك مع الجنس الآخر المنقرض… النساء!

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
ليس للحب عمر. الحب يصطنع الزمان. ليس للحب شروط او معايير او مقاييس للطول والعرض والوسامة والأناقة. ليس صحيحا ان الحب جنون. الحب اختيار واع، ومن يقف خارجه يره جنونا… فليفرح، اذن، هذا المعطل قلبه ومشاعره وعينه وقلبه بأنه بريء من الجنون بعشق الحياة!

Exit mobile version