طلال سلمان

هوامش

يوم فلسطين في لبنان: القصيدة الأجمل للشاعر الأعظم.. الشعب
مخرت بنا السيارة عباب الجمهور الذي كان، بعد، في طريقه إلى مواقعه على مدرّجات المدينة الرياضية، المجددة، التي لا يأتيها الا في النادر ولأمر جلل تحسمه في الغالب الأعم الأقدام الذكية.. دخلنا انفاق المرأب متعددة الطبقات حتى انتهينا عند باب مفتوح على الملعب الاخضر.
ترجّلنا لنغرق في هدير الجمهور المتناغم مع تسجيلات أغاني زمن الثورة، وتملكتنا الحيرة: كيف نعبر هذا البحر المائج ونحن لا نتقن المشي فوق الماء؟!
قال محمود درويش: لا بد من مدخل آخر يوصلنا الى منصة الخطابة مباشرة..
التفت أحمد قعبور ليسأل الضابط الودود: كيف نتفادى الغرق؟!
رفع الضابط كتفيه، ورفع محمود درويش نظره يحاول إحصاء جمهور المدرّجات، ورفعت يدي لأحجب الشمس عن عينيّ حتى أرى مخرجا من حيرتنا، وأخيرا نجح الاقتراح بأن نمشي لتحية هؤلاء الذين لبّوا دعوتنا فجاؤوا بالآلاف من مختلف أنحاء لبنان، مع لفتة في اتجاه »الرسميين« الذين جاؤوا يمثلون الرؤساء او يضيفون بحضورهم الى القيمة السياسية لهذا اللقاء مع الجرح الفلسطيني عبر الشعر مرسلاً او مغنّى.
حملتنا أهازيج الحماسة على أجنحتها خلال عودتنا نحو المنصة حيث كان علينا ان ننضبط داخل التعليمات الصارمة للمنظم العسكري الصوت الطفولي القلب انطوان دفوني، في المعبر الذي تم تنظيفه على عجل وبقي يحمل بصمات الاهمال الطويل، جنبا الى جنب مع الفنانة المرهفة الملامح والمشاعر ماجدة الرومي وأعضاء فرقتها الموسيقية بقيادة أسعد الخوري الذي ستختفي ضخامة جسده عندما يباشر عمله فيطلق بيديه نهر النغم ثم يتابعه منسابا بنبضات قلبه.
صرخ انطوان دفوني فسكن الهواء، واختفت الاصوات، وساد الهدوء، وتحرك اعضاء الفرقة نحو المسرح كأنهم يسيرون فوق ظلالهم، وتبعناهم نحن »المربع الذهبي« صامتين: كان عليّ أن أتلقى الصدمة الاولى، فاقتحمت دوي الاصوات المهلّلة ترحيبا بفلسطين الشعر والمقاومة، واقتحمني جيش »برغش الحشيش« السمج بلزوجته، ويسّر الله الامر، فقلت متعجلا ما استخلصته من معاني »يوم فلسطين في لبنان«، ثم انسحبت مخلياً الفضاء لمحمود درويش واختياراته من قصائده التي كثيرا ما يغلب العقل فيها الموهبة، والتي تأتي مثقلة بالأفكار على أجنحة الرؤى التي تأخذ الكلمات الى السحر.
تراجعت لأجلس الى جانب ماجدة الرومي وأحمد قعبور، في حين كان محمود درويش يكافح لرفع صوته فوق الهدير الجماهيري، الذي يختلط فيه الغضب بالوجع، وانكسار العاجز بنقمة المقموع، وانتشاء العائد الى وعيه بالتحسر على افتقاد القيادة المؤهلة لأخذه الى النصر بالمقاومة.
كانت ماجدة الرومي تصلّي وقد أخذها إيمانها بعيدا عنا جميعا، في حين كان أحمد قعبور يسجل بعينيه قبل أذنيه هذا اللحن الرائع الذي يستولده الجمهور وهو يعلن حضوره واستعداده للفعل اذا ما توافرت القيادة وخطة العمل.
أما مدرجات المدينة الرياضية المشتعلة حماسة فقد تبدّت بجمهورها المزركش الاعلام والرايات والملابس وكأنها أطواق من الورد والياسمين والقرنفل والنرجس وشقائق النعمان، في حين كانت تتناثر على الجوانب باقات من المقاعد الزرقاء التي هجرها اصحابها الى »ذرى« السور وأعمدته فانتصبوا فوقها مشكلين »قمة« اضافية للصوت المطلق من عقاله.
كان الجمهور هو الشعر، حتى بشكله »المشطّر« فوق المدرجات. وكان محمود درويش لا يفعل غير القراءة في الديوان المفتوح أمامه… وإن كان كثيرا ما اضاف بقلمه الذكي العبارة معاني جديدة من الصعب ان تُقبل من غيره، بل ومن الصعب ان يجرؤ غيره على إعلانها. كيف وأنت تقف في قلب المجزرة تحلم بالسلام، وأنّى لك ان تحوّل السفاح الى شريك، وأي عقل هو ذاك الذي يقدر ان يخترق حصار دبابات العنصرية، ليبشّر بحب قد ينشأ بين إبن الضحية وإبنة قاتله، فيقودهما الى عش لفرح مشترك في الارض الواحدة، التي يرى المحتل انها لا تتسع له، الا اذا أزال عنها صاحبها؟!
أنهى محمود وصلته الاولى وقدم ماجدة الرومي التي أصرّت على إزالة التباس يعكّر العلاقة بينها وبين جمهورها منذ سنوات طويلة… ربما لهذا كان استقبال هذا الجمهور لأغنيتها القديمة التي كتبها محمود درويش كأنما للأمس واليوم وكل يوم وحتى آخر شمس للاحتلال »حاصر حصارك«، مختلفا عنه في الزمن الذي مضى.
شدّني الانقلاب الذي طرأ على هذه المرأة الرقيقة الحاشية، الخافتة الصوت، التي يغلّف الحياء والدماثة كلماتها وسكناتها، لكأنها على المسرح إنسان آخر، يجلجل صوتها بالغضب عفياً، يحرّض، ينبه وينير الطريق الى الهدف محدداً: العدو.
في الوصلة الثانية طغت على مختارات محمود درويش من قصائده تلك النبرة الكيانية التي تصور الفلسطيني وحيدا، شريدا، طريدا وفريدا من نوعه… وهي نبرة تعجب الكيانيين الآخرين في كل أرض فتأخذهم بعيدا عن »العروبة« بافتراض ان المصيبة في العروبة، وأنه لولاها لكان كل كياني بألف خير..
صفّق الكيانيون اللبنانيون كثيرا للكيانية الفلسطينية مستولدين مفارقة عجيبة، أقله بتوقيتها، ومكانها: فالجمع قد جاء من قلب الشارع الذي لم يهدأ ولم يفرغ من اهله الذين عادوا اليه بعد انقطاع طويل، يستوي في ذلك أهل المغرب وأهل المشرق، لأنهم رأوا فيه أقصر الطرق لإعلان موقفهم المحجوب او المقموع من أن فلسطين هي قضيتهم اليوم وغداً وكل يوم، وأن الاحتلال الاسرائيلي المدعوم بالهيمنة الاميركية والمحمي بعجز النظام العربي او تواطئه هو عدوهم في كل الأيام والازمنة..
أما حين أطل أحمد قعبور على الجمهور، بتقديم من محمود درويش، فقد باشر الجمهور توكيد هويته معلنا استجابته لنداء الشاعر الراحل توفيق زياد: »أناديكم أناديكم، أشد على أياديكم، وأبوس الارض تحت نعالكم وأقول أفديكم«.
ولقد انتبه محمود درويش الى خطأ الاندفاع مع كيانية »يا وحدنا«، خصوصا وهو يشهد كما العالم كله هذا الموج البشري العارم الذي يجوب شوارع العواصم والمدن والقرى على امتداد الوطن العربي، يحاول أن يجد القيادة والطريق الى فلسطين، مدركا بوعيه كما بمصالحه وبعواطفه كما بعقله ان العدو واحد والمعركة واحدة، وأن الخروج من ميدانها ليس طريق السلامة، وان غده حيثما كان موطنه يجيئه مدموغا بطابع النصر او الهزيمة في فلسطين.
ربما لهذا عدل محمود درويش في اختياراته للوصلة الاخيرة من شعره، ليعلن ما يشبه التوبة عبر عودته إلى قصيدته المهجورة: سجل أنا عربي…
لقد بدأ محمود درويش خطابه بإعلان المصالحة مع »الجمهور اللبناني«، عبر تصحيح الخطأ الفاضح الذي ارتكب ذات يوم، فاستعاد الشعار الاصيل سويته: »طريق فلسطين تمر بفلسطين«. وفلسطين المناضلة، المقاومة، الصامدة برغم المجازر وحصار الموت والتجويع والاذلال، هي كل ارض عربية، والسعي للوصول اليها إنما هو محاولة جادة لتحرير الذات من القمع الداخلي ومن الخوف ومن القهر في كل قطر عربي.
يوم فلسطين في لبنان كان القصيدة الاجمل للشاعر الأعظم: الشعب.
الرقصة الخامسة
تلاقوا هاربين من الضجر! كان يرفرف في بال كل منهم احتمال أن »تهجم« مغامرة غير محسوبة، مع التمني سلفاً أن يبقى الاحتمال نزهة »فكرية« مطعّمة بالجنس ولا يتحول الى »فرصة« يصعب اقتناصها. لماذا؟! لمليون سبب أولها العجز عن التقاطها وثانيها العجز عن الإفادة منها والثالث الخوف من دوي الفشل الذي لن تنفع في تغطيته الادعاءات ولا الرنين شبه المتواصل للهواتف المحمولة مع الهمسات الداعية الى إرجاء الكلام ريثما يصبح »الاعتراف« متاحا الخ..
جلسوا متقاربين يستعيدون حكايات قديمة جمعتهم في مناسبات منسية… وحاول بعضهم أن يتظرف فيعيد الرواية على شكل نكات مقعطة، كما اجتهد آخرون في إبداع نكات أو نسج توريات معينة أو اللجوء الى إسقاطات تشيع مناخاً من الرغبة وتستثير شبق من تهزهم بعد التوريات والإيماءات الجنسية.
مع الكأس الثالثة أو الرابعة كان الشراب قد حلّ مشكلات كثيرة فأخذ الرجال بعيداً الى الثرثرة، وقنعت النساء المجربات بالصحبة، في حين أحست »الجميلة« ان المسرح قد أخلي لها، وأنها تستطيع ان تستفرد بتصفيق النشوة وربما ببعض آهات الاشتهاء، بغير حرج.
أديرت الموسيقى عشوائياً.. واجتهد البعض بامتحان صمود الخلاّن فأطلق صوته الى أن تعب أو قمعه صخب المعترضين فسكت.
مع الكأس الخامسة كانت الحلبة قد بدأت تنادي من يملأ فراغها بما يختزنه الجسد من تشوق للفرح.
قامت أول مرة فرقصت لهم،
وقامت مرة ثانية فرقصت لنفسها،
وقامت مرة ثالثة فرقصت له.
في المرات الثلاث كانت تستعرض بطرف العين هؤلاء المتحلقين من حولها يحيطونها بنظرات الوله والتمني العاجز، ثم تغلق عينيها وترقص رغبة في الرقص، فتسافر في خيالها إليه.
أما في المرة الرابعة فقد تمثلته موجوداً ورقصت له تاركة أكثر من مساهر يفترض أنه المعني، ولو في التمني… رقصت بشعر رأسها، بجفنيها، برموشها، بشفتيها تضمهما وكأنها تتلمظ، أو تفتحهما لتطلق عبر فتحتهما زفرات التشهي، رقصت بعنقها الذي امتد بالشهوة فنثر عطرها عبر النافذة على شارع الليل، ورقصت بخصرها، بردفيها، بساقيها، بقدميها، وتلوَّت وتلووا معها، وتأوهت فتأوهوا وغمزت فغمزوا وضحكت فلم يضحك أحد.
وحين حان وقت الانصراف كان التعب قد هدّ الجميع إلاها، خصوصاً أن هاتفها قد سحبها بعيداً الى ذلك الصوت الذي يترقرق في أذنيها موسيقى تأخذها الى دورة رقص مقفلة لا تنتهي، إلا بختام الحلم.
تهويمات…
قالت معتمدة على ذكائه: أراك دائما حتى في غيابي ولا تراني حتى في حضوري أمامك. ورد من خلال غروره: أنت نرجسية، لا ترين إلا نفسك!
تكفي امرأة واحدة لإحداث فتنة بين حشد من الاصدقاء.
أما حين تقتحم الحفل امرأة أخرى، فإن حربا حقيقية تنشب بين النساء ويتحول الرجال الى »حكام« لمباراة مفتوحة منذ بدء الخليقة وستستمر حتى نهاية الزمان.
قال يستدرجها: من الصعب إنجاز الاتفاق على الهاتف، لماذا لا نلتقي فنناقش الامر بهدوء حتى لا يبقى مجال لأي التباس.
قالت من خلال قهقهتها: الالتباس الآن لمصلحتي… أخشى إن التقينا أن يتبخر الاتفاق، فأنا من عناه الشاعر بقوله »أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه«.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
ليس صحيحا ان الحب اجتياح بالنار للقيم والاخلاق والاصول. الحب سمو وتطهر. والناس يتواطأون، عادة، مع المحبين لأنهم يرون فيهم المثل الأعلى الذي يطمحون الى تحقيقه في حياتهم… ولهذا فهم »يحمون« المحبين ويحصنونهم في وجه الحاسدين او الغيارى. إحمِ حبيبك بكرامة حبك، واحمِ حياتك بحبك..

Exit mobile version