طلال سلمان

هوامش

عشرة أيام لم تهزّ العالم
الفرق كبير بين جنين وبطرسبيرغ، وبين »سمولني« ومخيم جنين، وبين الدم الأوروبي الأزرق والدم العربي الأسمر، ناهيك عن الفوارق بين قادة الثورة الاشتراكية الكبرى ضد النظام القيصري وبين قيادات الشعب الفلسطيني في صموده وتصديه للاحتلال الإسرائيلي العنصري.
ربما كان هذا واحدا من الأسباب التي جعلت الأيام العشرة التي سبقت ثورة أكتوبر الكبرى تهز العالم، كما يدل الكتاب الشهير للكاتب الأميركي جون ريد في حين أن أيام الصمود البطولي الذي تجلّى في أعظم صوره في مخيم جنين، لم تهز العالم بما يكفي لكي يسقط »الأمبراطور السفاح« أرييل شارون، ولا حاميه »ملك الملوك« الأميركي جورج بوش.
أما الأسباب الأخرى فهي تتصل بحالة العرب، الذين نزلت شعوبهم جميعاً الى الشوارع، غاضبة، ثائرة، هاتفة بشعاراتها الكاظمة للغيظ أحياناً والمتفجرة بالغيظ في أحيان أخرى..
ومع أن الأمور واضحة الى حد الفجيعة، فالجماهير أعجز من أن تخلع سلاطينها البؤساء، الجبناء، السفهاء، وهي معدومة التنظيم فاقدة الوحدة بحيث أنها لا تستطيع حتى لو أرادت أن تتولى السلطة في أي قطر عربي، حتى لو هرب صاحبها، فإن هذه الأيام العشرة التي لم تهز العالم ستكون بداية لتاريخ عربي جديد… ولعلها مع شيء من المغالاة والتفاؤل بقدرات الشعوب تكون نقطة تحول في التاريخ المعاصر وبداية النهاية »للنظام العالمي الجديد« الذي أعلن »السيد الأميركي« ولادته ومصادرته وتسخيره لأغراضه المجافية بطبيعتها لمصالح الشعوب.
ذلك أن شعب فلسطين كان خلال هذه الأيام العشرة، على وجه التحديد، يمثل أحوال شعوب الأرض المقهورة جميعاً في محاولاتها اليائسة للتحرر من ظروف قهرها وللإمساك بقدرها وصياغة مستقبلها بما يتناسب مع طموحاتها.
أصل الحكاية في جنين، بدايتها البطولية وذروتها المأساوية وخاتمتها التي تدفع عالم القرن الواحد والعشرين، الذي يريده جورج بوش، أميركياً، بالعار.
ولقد كبرت جنين، صارت وطناً.
هي الآن »جنين« الأمة العربية في طورها الجديد: مطهر بنار الصمود، بدماء الشهداء الذين كتبوا الصفحة الأولى من تاريخ ما بعد الاحتلال الإسرائيلي للأرض في فلسطين وللإرادة العربية في أربع رياح هذا الوطن الكبير الذي كان مشلولاً فأخذ يبرأ من مرضه.
أزالت الجرافات الإسرائيلية البيوت الفقيرة، وقصفت الطائرات الإسرائيلية خزانات المياه ومحولات الكهرباء، وسحقت الدبابات الإسرائيلية لعب الأطفال وهدايا يوم العرس وكنزة الجدّة المدخّرة لبرد الشتاء، واغتال رصاص القناصة الإسرائيليين الفتيان والنساء والشيوخ، أما الشبان والرجال فقد سُحبوا الى المعتقلات الجماعية أو قُتلوا وهم مربوطو الأيدي الى الخلف في ساحات الإعدام الجماعية.
أنجزت »فرق النخبة« في »الجيش الذي لا يقهر« مهمتها الحضارية باسم العالم الحر وقيادتها الأميركية المثقفة من قمة الرأس حتى حذاء الكاوبوي.
على امتداد عشرة أيام خرست الألسن الرسمية التي لم تكف يوماً عن الثرثرة، تاركة مساحة الهواء لدوي التفجيرات القاتلة للأحلام وعمليات النسف المنظم لكل الاتفاقات الدولية منها والثنائية، السياسية منها والعسكرية.
أخلى السلاطين المسرح، وقبعوا في جحورهم يغازلون »الحريم« وينتظرون البلاغ الإسرائيلي بإنجاز المهمة: اغتيال فلسطين، الأرض والشعب وحلم الدولة.
مرّ الوقت ثقيلاً: كان الدم قد ملأ الساعات وفاض عنها الى الأيام. وكانت العقارب ترتطم بجثث الشهداء فترتد الى نقطة البداية.
مع اليوم الثالث أخذ القلق يقض مضاجع السلاطين: أيعجز الجيش الجبار عن اقتحام مخيم من التنك والزنك وحجارة الإسمنت الرقيقة؟! لعل السبب أن أزقة المخيمات لا تتسع للدبابات! لعل السبب أن الإسرائيليين يتجنبون ارتكاب مجزرة جديدة في مخيم جديد تستعيد ذكريات مجازر سابقة في مخيمات مختلفة داخل فلسطين وخارجها (أشهرها في صبرا وشاتيلا ببيروت)… وأبرز أبطالها، في الحالين، واحد: أرييل شارون!
بعد اليوم الرابع اشتد الهمّ على السلاطين: ما هذا المخيم الهائل القدرات؟ لو أنه قلعة حصينة لسقط تحت ضغط الغارات الجوية والقصف المدفعي على مدار الساعة!
في اليوم الخامس صار السؤال عن »نوع« هؤلاء البشر المحاصَرين في هذا المخيم الذي لا تزيد مساحته على كيلومتر مربع!
في اليوم السادس انتقل القلق الى الضفة الأخرى: هل أخطأ شارون في حساباته؟
في اليوم السابع توالدت في نفوس السلاطين الهواجس: وماذا إذا هزم المخيم نخبة الجيش المدخّر ليجتاح هذا العالم العربي الإسلامي بغير توقف؟! ماذا إذا صار صمود المخيم الصغير والقلّة من رجاله قدوة للكثرة من أهل البلاد المخضعة بقوة الحديد والنار؟!
في اليوم الثامن أعول السلاطين على الهواتف وهم يتوجهون بالرجاء الى سيدهم في البيت الأبيض أن: أنجدونا! أوقفوا حمام الدم قبل أن يجتاح عروشنا!
في اليوم التاسع كان المخيم قد امتد ما بين المحيط والخليج. صارت كل الأمة داخل المخيم، تحاصر الجيش الإسرائيلي والبيت الأبيض والسلاطين الذين أخذت جدران قصورهم ترتج وتتصدع، موحية بأن مصيرها قد بات مرتبطاً بمصير المخيم وأهله الأسرى الذين صاروا وحدهم الأحرار بعدما قتلوا الخوف وأماتوا الموت.
في اليوم العاشر كان مخيم جنين قد فجّر دمه نوراً وناراً محرقة.
… وحتى الساعة، وإلى قيام الساعة، سيظل السلاطين يحاولون مسح الدماء عن وجوههم الشوهاء، فلا يزول الدم وإن سقطت الملامح فغدوا كلهم بوجوه تتمازج فيها سحنة شارون أو الملامح الكاريكاتورية لجورج بوش.
هي عشرة أيام لم تهز العالم، الآن، ولكنها مرشحة لأن تصنع عالماً مختلفاً، خارج النجمة السداسية وخارج علم الخمسين نجمة وأكثر والذي كلما ارتفع في مكان أظلمت الدنيا وفرض على الناس أن يعيشوا في العتم في انتظار مذبحة شارونية جديدة!
إنعام رعد يعود إلى عين زحلتا
نشأنا في جو من الخصومة السياسية للحزب السوري القومي الاجتماعي.
لكن الخصومة لم تلغ الاعجاب بمسلك القوميين الذي تميز بالصلابة العقائدية وبالتطهر من أمراض الطائفية والمذهبية والجهوية، طالما اقتصر الحديث على أقطار »الهلال الخصيب« ولم يتجاوزها إلى ما خلفها شرقاً أو جنوباً كمصر وسائر الدول العربية في افريقيا أو الجزيرة العربية بيمنها وخليجها وأرض الحرمين الشريفين.
في عين زحلتا، ونحن أطفال، تعرفنا إلى أول »حالة قطع« مع المناخ الطائفي، في البيت الذي كنا قد استأجرنا جانباً منه، إلى جوار أهله.
كان الزوج مسلماً، بالأصل، والزوجة مسيحية، ولم يكن في جو الاحتفال بالعروسين ما يوحي بأن ثمة خروجاً على الدين الذي يفترض ان يكون لله بينما الوطن أو »الأمة« بلغة القوميين للجميع.
وسيمضي وقت طويل قبل أن ينمو وعينا السياسي وتتبدل المواقع والمواقف تحت ضغط الأحداث والتطورات المتلاحقة فيطرأ تعديل جوهري على صورة »الحزب«، ومن ثم على علاقته بالقوى السياسية الأخرى، المخاصَمة، وبالذات التيار القومي العربي الواسع والتيار اليساري عموماً والماركسي اللينيني، الحزب الشيوعي تحديداً.
لكن صورة عين زحلتا زادت إشراقاً وجمالاً حتى استقرت في الذهن مغزولة بالحلم: لكأنها قصيدة خضراء تتوسد تلالاً تتدرج صعوداً فتبدو ذرى أشجار الصنوبر وكأنها أعمدة رقيقة تتكئ عليها السماء لترتاح!
وما زلت حتى اليوم اختلق الذرائع لأبدل في طريقي، من بيروت إلى بلدتي شمسطار، فانعطف من المديرج إلى اليسار، لأعبر عين داره والعزونية حيث المستشفى الأرمني (الذي بناه »القرش«، الذي تم جمعه أو مراكمته على مدى سنوات فأنجزمنشأة ممتازة وباقية لخدمة الناس)، ثم أطراف أغميد، فمشقيته، فنبع الصفا متغلغلاً في البحر الأخضر الذي تشارك في تشكيله غابات الصنوبر والبطم والغار وبساتين الفواكه التي ولا أشهى، تلك التي تعطي أفضل التفاح والدراق والكرز والاجاص والسفرجل… في حين تزغرد المياه المتدفقة من بعض سفوح جبل الباروك فتنشر النشوة وتغريك بالتوقف والتمتع بهذه الطبيعة الفائقة الجمال، حتى لتكاد تحسد العصافير والفراشات والنحل على استمتاعها بالسكن في هذه الجنة على الأرض.
استذكرت عين زحلتا، التي لا أنساها، وأنا افتح الصفحات الأولى من كتاب »الكلمات الأخيرة« الذي اصدرته مؤسسة انعام رعد الفكرية، بعد رحيله عن عالمنا، والذي تولت »ام عصام« الاشراف على تجميعه وطباعته واصداره وتوزيعه على الأصدقاء ومقدري زوجها الراحل.
الكلمة الأولى في الكتاب عين زحلتا، كمدخل للحديث عن النشأة الأولى في بيت كان »التديّن فيه كالخبز اليومي« والذي تحول في عمر الشباب فاستقر الإيمان الديني على »قاعدة من المعتقد الوطني«. فهناك »اشكاليات كثيرة، بعضها يتعلق بموقف الدين من العلم، وفي الثانوية قرأت لتوماس بايل وما يطرح من شكوك حول القصص التوراتية ونشأة الكون، غير ان أحد القساوسة أخذ مني الكتاب ولم يرده بعد. ولكنني انتصرت على هذه الشكوك بقناعة تقول بأن العلم معرفة متجددة، أما الإيمان فهو الذي ينطلق إلى ما وراء الطبيعة«.
»… كنت اقرأ وأنا طفل بعد، فأشعر من خلال القراءات »التوراتية«، بانحيازها ضد نبوخذ نصر وضد الكنعانيين، وضد جزء كبير من تراثنا حسب القصص التي تروي تاريخ بني إسرائيل. وعندما كبرت ونضجت تأكد لي ذلك، ووجدت أن قصص التوراة لا تمت إلى الإيمان بالمسيحية بصلة، وان المسيح لم يأت كما يريد البعض اليوم أن يقول نبياً لبني إسرائيل. إن الله قد أعطانا المسيح، وان المسيح قد اعطانا رسالة لجميع بني البشر، وهي مسكونية«.
وعبر صفحات الكتاب، بالاعترافات الصادقة، عرفت وجهاً جديداً لانعام رعد الذي لم تساعده الظروف كثيراً على النجاح كقائد للحزب، ولكن شخصيته قدمت نموذجاً لمجتهد في المجال الفكري، ولمؤمن أمكنه التوحيد بين شيء من التدين والكثير من العقيدة، وبين »الهلال الخصيب« والعروبة… ولكنه في كل الحالات، وحتى آخر أيامه، كان مقاتلاً عنيداً ضد الصهيونية ودولتها العنصرية إسرائيل.
مع كتابه الذي يتضمن شيئاً من الاعتراف وكثيراً من الشرح لمواقف كانت في زمانها ملتبسة، استطاع انعام رعد ان يُظهر صورة جديدة له كإنسان، ابن هذه الأرض، المؤمن بضرورة تحريرها من الظلم والظلام.
وكانت عين زحلتا تعبر بين السطور فتخضّرها وتجعلها مثقلة بالثمار التي تحرص رفيقة حياته »أم عصام« على توزيعها على كل من أحبهم وأحبوه بالعدل والقسطاس.

حكايات
قالت: أعطيتك أرقام هاتفي مرات عديدة فلم تستخدمها أبداً. حرام عليك أن تترك أذني يأكلها الصدأ.
أخذته العزة برجولته فقال: تعودت أن يطلبني من يريدني، وألا أطلب إلا من يربطني به العمل. علاقاتي الخاصة أقررها بلا هاتف.
وردت تثأر لكرامتها: ومن قال إني أريدك لغير العمل… كنت أريدك أن تنظف أذني… ألست طبيب أنف وأذن وحنجرة؟!
*
قال يجاملها وقد جمعتهما المصادفة: أين أنتِ؟!! اشتقت الى أخباركِ!
قالت متخطية حاجز المجاملة: في مصادفة أخرى أقرأ عليك مذكراتي للفترة الفاصلة بين لقاء الشوق الأول ولقاء الصد الأخير!
*
قالت وهي تودعه: أتمنى أن يتجدد اللقاء. عنواني في جيبك الآن، أرجو أن أسمعك فور وصولك إلى مدينتي.
غمغم بكلمات مجاملة لم تسمع أو لم تفهم منها إلا »إن شاء الله«… فلم تقنع بهذه المجاملة العادية وعادت تقول: في العنوان متسع للسكن أيضاً!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
إذا غضب حبيبك فابحث عن السبب في نفسك، لعلك قد أخطأت فمنّيته بالكثير ثم أعطيته أقل، أو لعلك قد أعطيته أكثر مما تقدر. لكن غضب حبيبك سيفيدك في أن تصحح عيباً فيك، ثم ان الحب سيذهب بالغضب. إنها طريقة فعالة ليظهر حبيبك كم هو حريص عليك، فبادله بأحسن منها!

Exit mobile version