طلال سلمان

هوامش

فلسطين تصحح بدمها خطأ الخروج: بداية التاريخ!
مطر أحمر يهمي بلا توقف، يضرّج وجه الارض، يبث في الهواء دفء الانتماء الى انفاس الأم التي غادرت البكاء حتى تثبت في حدقتي عينيها ملامح شهيدها، ويُخرج السماء من زرقتها الرمادية الباهتة فيزرع فيها اسماء الذين غادرونا فإذا هي حديقة من شقائق النعمان.
مطر أحمر يغسل الوجوه فيتعرّف »العربي« إلى ذاته بعد طول اغتراب.
يكشح المطر الاحمر الخوف والنسيان، يعيد فتح الشوارع المغلقة على الغلط والمزوّدة بكلاب الحراسة المدرّبة على قمع التغيير.
تسري فلسطين بدمها من أول الأرض الى آخر الأرض، توقظ النيام والمخدّرين بالرعب أو بالعجز، تعيد إلى الوعي أولئك الذين أنكروا أنفسهم وأهلهم لشدة ما خافوا من الفارق بين أحلامهم وقدراتهم.
***
مطر أحمر يهمي بلا توقف، ينزع عن وجه إسرائيل أقنعة تنكّرها قناعاً إثر قناع: تتهاوى أعلام الديموقراطية تحت أنياب العنصرية المتعطشة إلى الدم، وتسقط روايات الاضطهاد التاريخي الذي كان يطارد »الشعب المختار« في البلاد التي صنفتها زعامتها »فوق الجميع«، تحت أقدام طوابير »الصاعقة« الإسرائيلية تحاول في فلسطين أن تنتقم لما جرى في ألمانيا، فتقتل النساء والأطفال والطيور والبيوت والفراشات والشجر، وتزيّن معاصم الشبان بالارقام والدمغات التي ورثتها عن النازية، وتقود قوافل الأسرى من الرجال العزّل وقد ألزمتهم بوضع أيديهم فوق رؤوسهم إلى المعتقلات الجماعية، بينما تهتف جماهير المستقدَمين لتزوير هوية فلسطين بضرورة طرد هؤلاء الذين أعطوا البلاد اسمها وتاريخها وهويتها وأعطتهم ألوان عيونهم وسمرة وجوههم وشرف اصطناع المقدّس.
***
ها هو التاريخ يعيد نفسه ليصحح خطأ فاضحا في سيرته: فما يجري على أرض فلسطين اليوم هو ما كان يفترض ان تشهده هذه الأرض المقدسة في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي. قد يعيش البعض على رصيد غيره، لكن أحدا لا يموت نيابة عن غيره.
لم تعد الثورة ذكريات ماض انطوى وانقضى ولن يعود. لم ينته التاريخ. الأرض ولاّدة التاريخ. لا يولد التاريخ خلسة، ولا يكون بغير أب. ليس التاريخ ابنا غير شرعي للهاربين من جلودهم، من أسمائهم، من أهلهم، من أرضهم التي لا تنكرهم حتى لو أنكروها، ولا تنبذهم حتى لو فضلوا عليها المنافي المكيّفة.
ها هي فلسطين تضرّج بدمها كل العواصم والبوادي والضمائر ووجدان الأجنّة. ها هي تستولد الربيع قانيا متوهجا يتقدم بجلال الفجر الخارج من رحم الظلم والظلام.
تقتحم الأبواب المقفلة على الخوف لتغدو سجونا بديلة عن أقبية المخابرات، تطرد الاستكانة وتزرع في جنبات البيوت شقائق النعمان بالأسماء الحسنى للذين أعطوا الأحياء معنى الحياة.
تبارك القلق الذي قهر الموت والخوف من السلطان. إذا كان السفاح الأعظم قد تهاوى في الشارع تحت أجداث المقتولين بأسلحة دماره الفتاكة، فكيف بهؤلاء الذين كانوا يخيفوننا به ويعيشون على خوفنا منه ومنهم؟!
ها هو الإنسان العربي يستولد ذاته من قلب عجزه، ويرجع الى الشارع مسلحا بإرادته.
ها هي الحياة تستعيد نبضها، والقلب فلسطين.
* * *
لا يحفظ الأرض إلا صاحبها، حياً أو شهيداً. الجيوش للعروش أما الأرض فلمن يحميها.
ها هي إسرائيل تهدم مخيمات اللجوء لتفرض على الذين صدقوا ان غيرهم سيقاتل نيابة عنهم، في المرة الأولى، خيارا وحيدا: بيتك فلسطين كلها، ان خسرتها فأنت لا أحد ولا حق لك لا في الأرض ولا في الجنّة.
وها هم أحفاد الذين تركوا بيوتهم للقتلة الآتين من الغرب البعيد يحاولون بدمائهم تصحيح الخطأ التاريخي: يواجهون، ولو باللحم الحي ولا يتركون أرضهم. تتهاوى أكواخ اللجوء تحت قصف المدافع، يتم إعدام البيوت بالطائرات، يؤتى بالاختصاصيين في قتل الذكريات، تجرف البساتين والمزارع، تحكم الأشجار بالإعدام، تمنع سيارات الإسعاف من نقل الجرحى، يحظر دفن الموتى وتحول المشافي الى مقابر جماعية، لكن الشارع يظل يهدر باسم الحرية.
حكى لهم الآباء ممن جرّب اللجوء ان من يخرج لا يعود، وأن من يبقى لا يموت، وأن خيانة الأرض تبقى بلا غفران.
من يخلِ مكانه للغريب المستقدم ليأخذ بيتا لم يعمره، وليجني ثمار زيتونة لم يزرعها، يكن عليه أن يصير هو الغريب، وأن يقضي عمره شريدا طريدا لا تقبله أي أرض.
لا يحمي البيت إلا أهله، لا يثبت في الأرض الا أصحابها الذين فيها يولدون ومنها يستمدون بشرة وجوههم وبها يكبرون وفيها يتجددون جيلاً بعد جيل ولا ينتهون.
* * *
ساقط كل اتفاق مفروض. ساقط كل تنازل. ساقطة كل مساومة. فلسطين أعلى من أن يطالها المتنازلون.
ترتفع فلسطين بهامتها التي غدت الآن أسطورية. تمخر عباب دمها مرتفعة فوق القمة حتى لا تطالها يد ولا يدركها بصر المؤتمرين، بينما يتهاوى السلاطين دونها الى تحت التحت.
لقد بدأت فلسطين رحلة العودة الى وعيها وها هو النبض يعود الى الشارع والخوف يرتفع الى القمة فيطوقها، وإسرائيل تبدأ رحلة العودة نحو الصفحة السوداء في التاريخ، مرة أخرى.

عصافير من شبعا تلوّن نساء حسين ماضي
قصدت مع موسى طيبا وأربعين عاما من الصداقة الصعبة مع الاطفال المبدعين من الفنانين التشكيليين المعرض الجديد لحسين ماضي.
كانت اللوحات الجميلة التي ابدعتها ريشة هذا الرسام المتميز تنضح بعشقه المكين للنحت، وهو الفن الذي انصرف عنه كارها لأنه لم يستطع ان يتفرغ له بكليته وان يعيش منه ليعيش له.
لم يكن في القاعة الانيقة، في ساعة القيلولة تلك، غير حشد من الرؤى والاخيلة والاحلام وقد كساها حسين ماضي ألوانها وسكبها في الاشكال التي اختارها لها فكدنا نسمع رفيف الطيور التي يرافقها وترافقه، يتعلم منها ويضيف اليها حتى تصير عالما ممتعا من المشاكسة والتحرر من القيود، والموسيقى الصاخبة بعشق الحياة…
أما نساء حسين ماضي فكن يتمددن في اوضاع الغواية والتلذذ داخل مكعباته التي يتزاوج على حدود بياضها الهادئ، البني مع الاخضر ولثمات من الاحمر فإذا »الرجل« يتراءى في الظلال التي ولدتها الشهوة المعبرة عن اجيال من الحرمان.
لا تعرف ما اذا كانت العصافير قد ولدت الحروف، ام ان الحركة هي التي ولدت الاشكال المعبرة عن التمازج الابدي بين الموسيقى والفلسفة والهندسة، والذي ينتظر المبدع لينتقل من حيز المشهد البصري الى الامتاع الحسي، مع انفتاح باب التخيل على مداه امام البهجة التي تحسها كدبيب النمل على اطراف مشاعرك.
اجتهد موسى طيبا الذي لا يعرف ان يكره، ولا يتقن المزاحمة ولا يفهم للحسد وللغيرة معنى، لأنه يؤمن بأن لكل فنان اسلوبه وبأن المدى مفتوح امام المبدعين جميعا، في »شرح« لوحات زميل دراسته ورفيق صباه حسين ماضي: كانت متعتي فائقة وانا استمع الى شرح »ناقد« موضوعي، تجعله ثقته بنفسه و»بأصالة« اختلافه في التعبير يكشف لك بعض اسرار الجمال التي يصطنعها هذا المزج العبقري بين المشاعر حين تعبر عنها الالوان، وعن الاشكال حين تستولد موسيقاها المنشية.
درت بين اللوحات اتملى في اعمال حسين ماضي الجديدة صورته الاصلية: هذا الطفل الخشن الطباع، الصعب مزاجه والذي احب ان ينطق الصخر لأنه تعلم القراءة في صفحة جبل الشيخ التي انبتت بلدته المنسية شبعا (نعرف الآن عن مزارعها المحتلة اكثر مما نعرف عن اهلها الذين لم يغادروها حتى وهي تشتعل بنار العدو او تكاد تتجمد تحت ثلوج الاهمال الرسمي الذي اسقطها من ذاكرة الوطن… وما يزال).
لسبب لا استطيع شرحه احسست ان شبعا التي كافح حسين ماضي للدخول اليها طويلا، بعدما استعصى عليه ان يخرج منها او تخرج منه، موجودة على سن ريشته سواء وهي ترسم »نساءه« البضات، في قلب الشبق، او تستكتب حركة الطير سيمفونية الحياة في لوحات تتراص فيها الاضواء والظلال مصطنعة متعة تكاد تكون محسوسة.
لم انظر في قائمة الأسعار لأحفظ نشوتي في صدري، فلا حسين ماضي هو البياع ولا انا الشاري، وانما هي زيارة الى مبدع رافقت تطوره وهو يحتال على مواصلة طريقه نحو ذروة العطاء باللجوء الى اشكال من الانتاج التي لم تكن لتنسجم دائما لا مع طبيعته ولا مع قدراته.. منها، مثلاً، انه رسم الكاريكاتور، كاريكاتوريا، ليشتري قماشا وألونا للوحاته وخبزاً وكعكاً بزعتر!

كارول داغر تستدعي التاريخ لشهادة جديدة
قبل عشر سنوات، تقريباً، شدني كتاب يؤرخ لمرحلة او بعض مرحلة من المراحل العديدة والمتنوعة الجبهات والاهداف والتسميات للحرب اللبنانية، ولواحد من »ابطال« تلك المرحلة.
كان عنوان الكتاب »جنرال ورهان«، وفيه رؤية اخرى ومحاولة استيلاد سياق مختلف لجمهورية الوهم التي حاول اقامتها بالمدفع ميشال عون، الذي حمله الفراغ المقصود الى سدة الرئاسة كوكيل مؤقت، فإذا به يحاول ملء الفراغ ببحر من الدماء و»يحتل« الرئاسة وكأنها ارث شخصي ويجدد الحطب في أتون الحرب الاهلية التي بلغت معه النخاع الشوكي ودمرت ما كان يعتقد انه خارج دائرة الخطر.
واتصلت بكارول داغر التي لم اكن اعرفها شخصياً، لاهنئها بهذا النتاج الجديد موضوعاً واسلوباً، ثم هنأت نفسي حين انضمت كارول داغر الى اسرة »السفير«، واقتحمت بشجاعة عالم الكتابة بالعربية، ولم تكن قد جربتها من قبل، ولكن اصرارها جعلها تنتصر بالتحدي على خوفها.
الكتاب الثاني انتجته كارول داغر عن المرحلة الراهنة من مراحل الصراع العربي الاسرائيلي تحت عنوان: »رجال وسلام«… وقد حاولت فيه ان تواكب مرحلة ما بعد مؤتمر مدريد، التي شكلت نقلة نوعية حاسمة اذ انفتح الباب امام المفاوضات المباشرة…وهي قد امضت شهوراً في واشنطن، كما جالت على بعض العواصم والتقت العديد من »رجال الظل« في تلك المفاوضات الصعبة الى حدود الاستحالة، وتسنى لها ان تقرأ العديد من المحاضر، وان تسمع الكثير من »الافكار« التي لم تعلن وان كانت قد رفرفت بإيحاءاتها فوق المفاوضين..
أما الكتاب الثالث الذي وقعته كارول داغر في بيروت أمس، فهو محاولة عودة لاستخلاص الدروس من الحرب، ولامتحان العيش المشترك في ظل نتائجها. وأما الكتاب الرابع الذي سيصدر بعد أسابيع في باريس، فرواية شبه تاريخية تتناول الموضوع نفسه تحت عنوان »دير القمر« مترجما بحرفيته الى الفرنسية، و»بطلها« عصر الامير بشير الشهابي، الثاني، الكبير، المسلم اصلا، الدرزي مظهراً، المسيحي نهاية، الحليف العدو لكل الكبار في عصره من السلطان العثماني الى احمد باشا الجزار، والي عكا، ومن نابليون وحملته الفرنسية على الشرق، الى محمد علي باشا والى مصر ونجله ابراهيم باشا الذي قاد الحملة المصرية ضد السلطنة بدعم فرنسي فكسره التحالف الدولي بقيادة الانكليز لحماية »الرجل المريض« تمهيداً لوراثته.
الكتاب الاول صدر في بيروت، والثاني صدر في واشنطن، والثالث في باريس، والرابع في الطريق.
نتمنى ان تكون رحلة كارول داغر مع الكتابة في طريقها لان تنتهي من حيث بدأت، اي من الصحافة، حتى لا يخسر »العامة« قلماً مشرق العبارة، واضح الوجهة، لحساب »الخاصة« الذين يفضّلون الكتاب كخير جليس، وينظرون الى الصحافة كمجرد »مخبر« يقول ما عنده بسرعة ثم ينطوي في قلب الصمت في انتظار شمس جديدة.
التاريخ هو ما نصنع في حياتنا، فاذا تركنا لغيرنا ان يصطنعها ويتحكم بوقائعها بات من حقه ان يكتب »تاريخه« فينا، وتاه تاريخنا في غياهب العجز والخوف من الحقيقة.
وكارول داغر تحاول انتزاع »اعتراف« جديد من التاريخ المكتوب بأنه غير الذي عاشه اهله… ولكن كيف الوصول الى الحقيقة التي موّهها اصحابها بالرهبة او بالرغبة او بالنكاية بالاخوة الاعداء؟

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا يقرع الحب الباب، انه يقتحمك اقتحاماً، ولا يعطيك فرصة للتنفس او للتأمل او للتفكير الا بعد ان تكون قد امتلأت به، فإذا هو انفاسك واحلامك وكلماتك، يبدل في مسلكك وملبسك ومأكلك ولغتك…
يولد الانسان مرة بالمصادفة، او بقصد من غيره، لكن ولادته الثانية التي تصطنع حياته تجيء مع الحب وعبره فإذا هو غير الذي كان، وإذا الحياة أبهى وأمتع وأجمل وأغنى من كل أحلامه.

Exit mobile version