طلال سلمان

هوامش

كلمات بدل كلمات .. فإذاً أنت غير موجود؟!
أخطر ما نجحت فيه إسرائيل أنها فرضت علينا منطقها وتعبيراتها في مناقشة قضية فلسطين، فاضطررنا إلى سحب مفرداتنا »الأخلاقية« وأوهامنا العسكرية وتحليلاتنا السياسية التي لم يكن لها من قوة الفعل ما يسندها فصارت »كاريكاتورية« تنفع في »التنكيت« أكثر ممّا تنفع في تحليل الواقع وفهم ما يخطط للمستقبل.
وأخطر ما نجحت فيه الولايات المتحدة الأميركية أنها فرضت علينا منطق مصالحها في مناقشة مسائل التنمية والتقدم في بلادنا، ومفاهيمها في مناقشة مستقبل الإنسان فوق هذا الكوكب المنطفئ. وها هي الآن تفرض على العالم »لغتها« التي أولها »إرهاب« وآخرها »إرهاب« بذريعة مكافحة الإرهاب.
صرنا نخجل من أساس القضية.
صارت كلمة »فلسطين« نابية، كالفضيحة. يفضل استخدام »السلطة«. ومعها سحبت من قاموس التداول كل ما يتصل بتاريخ فلسطين، أرضاً وشعباً ونضالاً متصلاً منذ ما يقارب القرن.
الواقعية تفرض شطب الكلمات الكبيرة (طالما أن النفوس صغيرة). صارت »القضية« أزمة، ولنفي الهوية غاب أي ذكر للعرب أو لفلسطين أو للطرف الثاني، إسرائيل، وصار التعبير: أزمة الشرق الأوسط. بقعة جغرافية يحددها موقعها بالنسبة للآخرين، لا هوية لها ولا أصحاب. نفي الأصل ضرورة لتصح نسبتها إلى الدخيل.
الاستعمار استيطان دولة، الدولة التي قامت بالاحتلال هي واحة الديموقراطية في الشرق، وهي مركزه الحضاري المتقدم وسط بؤرة التخلف والقهر والطغيان. صارت المقاومة عنفاً والعنف إرهابا والإرهاب جريمة ضد الإنسانية تستحق التدخل الدولي لقمعها. وصار »الرئيس« الفلسطيني »المنتخب« رهين المحبسين: الأميركي والإسرائيلي، بينما هو في واقع الأمر »الشريك« الذي لا بديل منه لهما.
سحبت كلمات مثل »التحرير« و»الكفاح المسلح« من التداول، نثراً وشعراً،
اندثر »اليسار« في بلادنا، مع أن بعض من تبقى منه ما زال في مواقع الحكم نظرياً… لكن، عندما يتصل الأمر بإسرائيل نجتهد لاكتشاف الفروقات »النظرية« بين القوى الإسرائيلية حتى نخص بعضها بالتصنيف اليساري، مع وعي بأن أدعياء الانتساب إلى اليسار فيها هم الأكثر شراسة في الحروب الاستيطانية العنصرية الاستئصالية.
كيف يمكن أن يكون العنصري، المقدم نفسه إلى الناس بدينه كهوية، يسارياً؟!
ولماذا يتهم القائل بانتمائه »القومي« إلى »أمة« عربية اللسان (أقله) والهوية بأنه »شوفيني« و»عنصري«.. بل وبأنه »معاد للسامية«؟!
ها نحن الآن نتبرأ من كل الكلمات التي صنعت سنوات عصر النهضة أو الزمن الجميل: القومية، العروبة، اليسار، التقدمية، الاشتراكية، التأميم، العمال والفلاحون، التحرر، الاستقلال، الكفاح، الجهاد، النضال… ومعها الكلمات النقيض مثل: الاحتلال، الاستعمار، الامبريالية، الرأسمالية المستغلة الخ..
لم يتبق لنا إلا هوية واحدة: الإرهاب!
ومن أجل التنصل منها علينا أن ننزع من الصدور الإيمان، وعن الوجوه البشرة السمراء، ومن العقول التفكير، مجرد التفكير بتغيير الواقع.
لكي نعيش علينا أن نميت أنفسنا وإلا شنّ علينا التحالف الدولي بقيادة إسرائيل حرب استئصال لاجتثاث الإرهاب من جذوره.
إذا تنكّرنا لأنفسنا فأين الجذور؟!
دكتوراه للحبيبين العابدين
لم تمر الأيام عبثاً، وها الصبية الندية التي عرفناها زميلة دراسة، ثم مدرِّسة فمديرة لمدرسة المختارة للصبيان قد غدت »دكتورة«، وبجدارة، فضلاً عن أنها أم لمجموعة من حملة الشهادات وعلامات النجاح!
ليس أمتع من أن تكون، من موقع التلميذ، شاهداً على قصة حب يعيشها أستاذك، وتنتعش بها مدرستك فتتوالد الحكايات ويتوزع الفتية والفتيات مهمات الرقابة والتلصص واستراق السمع وضبط اللفتات واصطياد النظرات الطائرة ولمسات المصادفة. ولأسابيع طويلة حافلة بالهمسات حاملة الشائعات والأخبار، عشنا فصولاً من قصة حب العابدين »حليم ومفيدة« في أرجاء المدرسة التي كانت قصراً للست شمس جنبلاط قبل أن تصير منهلاً للعلوم جميعاً بما فيها كيف يصير التلامذة، والأساتذة من قبلهم، محبين وكيف يرتقون معارج الحلم نحو الخاتمة السعيدة فيستولدون بيتاً للنجاح بل وللتفوق.
دار الدهر بالناس دورات كاملة، وبَعُد المزار، لكن الحب ظل يطرح أزاهيره متخطياً الحزن الذي دهم الأسرة مبكراً فغيّب عمادها الذي توجه إليه الإهداء، تاركاً لمفيدة أن تكمل الرسالة مع وفاء، ندى، عماد، سلام، وائل، هبة وعلاء.
… وها هي مفيدة عابد »دكتورة« وها رسالتها »التنوخيون في لبنان مواقفهم السياسية تحالفاتهم العسكرية، دورهم الديني والحضاري«، صارت »كتاباً من 440 صفحة، وقد صدرت بإشراف الدكتور جوزف لبكي، مدير كلية الآداب والعلوم الإنسانية الفرع الثاني.
الكتاب الأطروحة ليس مجرد دراسة في تاريخ التنوخيين، بل يكاد يكون »مرافعة« دفاع عن »الموحّدين«، الذين لا يمكن تجاهل دورهم في تاريخ لبنان العربي »كفئة متأثرة ومؤثرة، أسهمت إسهاماً فعالاً في التاريخ الوسيط والحديث ضد الأجنبي.
الدراسة تركّز على دور التنوخيين في أيام المماليك والعثمانيين بصورة خاصة، لا سيما »وقد اتهم البعض التنوخيين بالعمالة تارة للحاكم الداخلي (كالمماليك والأتابكة) وتارة للمحتل الغربي (كالصليبيين)… وهي تستخلص أن التنوخيين »قد علّمونا قبل كل شيء البُعد عن الانتماء السياسي الطائفي وكانوا حماة الأرض والشعب بل كان ارتباطهم بأرضهم مساوياً لحياتهم التي كثيراً ما بذلوها في مضمارين: الحفاظ على الكرامة والشرف، والحفاظ على الأرض«.
وقد يثير الكتاب ردوداً، وقد تثور من حوله المناقشات والمساجلات، لكن مفيدة عابد أدت واجبها تجاه الذكرى الحميمة وصاحبها الذي لا يغيب عنها… والذي يمكن اعتباره »المؤلف« الثاني المستتر لهذا الكتاب، بل لعله الكتاب الذي أوقفه دون إنجازه الغياب الذي جاء قبل أوانه بكثير!

آتون من بعيد، ذاهبون إلى أبعد
(إلى أسامة…)
مرفوعاً على أعناق أجيال من الأجداد الذين رحلوا من قبل أن يكحل النور عيونهم، ها أنت تنقش الاسم الصعب، مرة ثانية، على الباب السحري للغد الذي يتجاوز الأحلام روعة وبهاء.
في الضوء الشحيح للسراج، ومن بعده القنديل نمرة 3، كانت الكلمات تفتح صدرها وتكشف عن معانيها فتضيء جوانب العقل بأسئلة التغيير الواجب على الإرادة أن توفر لها الأجوبة الصعبة، بالاجتهاد مع الدرس، وبالسليقة المستعيدة وعيها بالتاريخ والثقافة بعد دهور من الخدر والأمية وعتمة الطغيان.
شمسطار في جورج تاون؟.. تأخر موعد الوصول لكن زمن الإنجاز مفتوح، وقد تخففت الأكتاف من أحمالها الثقيلة على الطريق الطويل بين المفروض المرفوض وبين الأمل الذي استحال عملاً موصولاً ما بين الفجرين.
للمرة الثانية يفوتنا المشهد الذي تغمرنا روعته المتخيلة بدفء الثقة بالنفس. من زمان تجاوزنا سحر الصورة والأوراق المزركشة التي تثبت ما لم نعد بحاجة إلى إثباته. كانت المشكلة في التعرف إلى القدرة الكامنة على كسر الاستحالة. الآن نحن هنا نقف فوق جدث المستحيل.
* * *
في الفاصل بين الفرحتين تسنى لنا أن »نتفرج« على المكان الذي صار اسمه شهادة جدارة.
طفنا بالمبنى الغارق في السكون تلفنا النشوة ويأخذنا التهيّب وكأنه مزار. آتون من البعيد البعيد، وذاهبون إلى الأبعد الأبعد.
تحركنا بدفع من سعادتنا الغامرة التي نجاهد لضبطها بكثير من الخشوع. هل قال أحد من قبل إن الفرح يكاد يكون صلاة؟! لحظنا العصافير تتقافز من حولنا فوق البساط السندسي بغير أن يخدش رفيف أجنحتها الهدأة المهيمنة على هذا الحرم الوادع الذي تتوجه قبة الكنيسة فتبدو إضافة هندسية تشير إلى هوية »الممول« أكثر مما توحي »بطائفية« المكان والاستهداف.
هي مبادرة ذكية أن تبرر المؤسسات الكهنوتية وجودها ببناء الجامعات، وأن تفتح أمام الأجيال الجديدة الطريق إلى المعرفة والثورة العلمية بدل أن تسده بالخرافات والأساطير والبدع والأحاديث المنحولة التي تلوي الأعناق ومعها الرؤوس إلى الخلف.
إلى متى هذا الجدل البيزنطي المفتوح، بقصد مقصود ولو بغير جدوى، حول العلاقة بين الدين والعلم بما يضع الإيمان في مواجهة العقل أو العكس، والآخرة في مواجهة الدنيا، وكأن من انتفع ونفع الناس بعلمه في دنياه قد كفر فاستحق الطرد المسبق من احتمال الدخول إلى الجنة؟!
إلى متى هذا التيه خارج الحياة وخارج كرامة الإنسان؟!
إلى متى تنفق الثروات الطائلة على دور عبادة لا يدخلها أحد، ولا ينتفع بفراغها الفخم إنسان، بينما الأميون يملأون الشوارع بالتعاسة وتملأهم بالبطالة بالحقد على الذين يشترون صكوك الغفران ببناء بيوت مذهبة لله لا يحتاجها الإيمان بينما »أهل الله« لا يجدون مأوى ولا مدرسة ولا مصنعاً ولا من يشتري عرق زنودهم باللقمة الحلال؟!
* * *
لم يكن بوسعنا، حتى الأمس القريب، أن ندخل الحرم.
وفي أول زيارة »سياحية« لواشنطن، أراد هشام ملحم أن يتباهى بتقدم عندقيت والقبيات وبينو وسائر بلاد عكار على شمسطار وبدنايل وطاريا وسائر بلاد بعلبك، فأخذني إلى »جامعته« جورج تاون.
الطارئ المستوطن دليل سياحي للطارئ المستوحش، والجامعة العريقة تمنح شعوراً دافئاً بأهلية قد لا تعوّض الهوية ولكنها تخلّصك من إحدى الغربتين: عن الوطن وعن العصر!
دخلنا يومئذ ذلك المبنى الذي تغيب عنه فخامة الادعاء وغرور المال المهدور على المظهر تعويضاً عن نقص ما، أو إخفاء لعيب ما يُراد صرف النظر عنه أو طمسه لعل الحسنات تذهب بالسيئات…
تجولنا بين أقسامه، وتوقفنا بكثير من التقدير أمام مركز الدراسات الشرقية الذي أقيم ويستمر بتمويل »عربي«، في طليعة من وفره رجل الأعمال الفلسطيني حسيب الصباغ، وبين من يقدم المنح لطلابه رجل الأعمال اللبناني هاني سلام ومؤسسة الحريري، وبين من يدرِّسون فيه عدد من الأساتذة العرب المبرزين.
عبر الجولة أخذ يتضاءل ذلك الشعور الممض بالغربة عن العصر، وذلك الإحساس غير المريح بأن العلم امتياز للآخرين، وبأننا لسنا مؤهلين كفاية لمرتبة التلميذ أو المريد!
(في زمن مضى، كان عليّ أن أمضغ عجزي عن مواصلة التحصيل العلمي، في كتابة قصة قصيرة (!!) عن تلك الذبابة التي كانت تتمتع بحريتها مطلقة، وكان بوسعها أن تزورني ثم تتركني لوحدتي في زنزانة الظلم، وأن تطير برشاقة فتدخل أفياء المبنى الذي بدأ صغيراً وخرَّج كباراً، جامعة بيروت العربية، الملاصقة لحبس الرمل ذي التاريخ غير المنسي، وتتجول في أرجائها، وصولاً إلى مكتب »الرئيس«، بينما انتظر حكماً متأخراً ببراءة أحلامي من القدرة على إحداث انقلابات في البلاد جميعاً…).
كان صوت اندفاع المياه في نهر البوتاماك يصلنا خفيضاً، يغطيه حفيف أوراق الأشجار الباسقة التي تواكب مجراه العريض…
وكان طيف الجد الذي اختار اسمك (الذي نخاف منه اليوم ونخاف على صاحبه الأول من »منتحله« الأخير)، يواكبنا وينزع من صدورنا رعشة الخوف، وصوته الذي كان جميلاً يكاد يرتفع بما يشبه الحداء: لا مستحيل تحت شمس الإرادة. اقرأ، اقرأ، اقرأ باسم ربك الأكرم، علّم الإنسان ما لم يعلم، علّم الإنسان بالقلم… اقرأ، اقرأ، اقرأ.
له الحق في شيء من الاعتزاز بقوة الإرادة، هذا »الأمي« الذي ما إن تمكّن من فك لغز الحرف حتى التهم أمهات الكتب وفتحها أمامنا لكي »نقرأ« فنعرف ونفهم ونهتدي إلى باب الغد. أقرأ، أقرأ. وليكن يمينك بالقلم والكتاب!
* * *
الرحلة طويلة لكن الإرادة قادرة، وها هي مواكب الخارجين من تحت الصفر تحل لغزه العتيق وتتقدم نحو المستقبل بثقة من يعرف هدفه وطريقه إليه.
لن نبدل الاسم البهي. سنسقط الخوف، لنكون وتكون لنا الحياة.
لم يخطئ جدك، والخوف عارض، أما الإنجاز الذي يضيف إلى الإسم فمعلق على عاتقك.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
تجتاح العالم موجة من الكراهية، تزيد من حاجتنا إلى الحب. الكراهية في الأخبار، في التصريحات، في اللقاءات السياسية، في التهديدات العسكرية. إنهم الآن يقتلون فينا الحب. أعجب أنهم لم يصادروا بعد أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفيروز. أعجب أنهم لم يعتقلوا بعد أشعار مجنون ليلى وعمر بن أبي ربيعة ودواوين نزار. أعجب من أنهم لم يسجنوا بعد الأمهات اللواتي يرضعن أطفالهن الحب. لكأن الحب أقوى من طائراتهم والمدافع. أجل إنه الأقوى.

Exit mobile version