الدنيا ليل، والأب غائب، والأم تطلق صرخاتها تباعù وتدور في أرض البيت متوكئة على الجدران، وأنت »السيد«: معقد الرجاء والمنقذ وصاحب الأمر.
الدنيا ليل. وفي العتمة يحتشد الذئاب والغيلان والأشرار الذين لا يحبون الأطفال.
.. و»الكفراوي« ليس في دكانه لكي تستدين منه ما يؤنس رحلتك الطويلة إلى بيت الداية.
أنت »القائد« الآن. لا رجل إلاك، ولا قرار لغيرك. والقرية تخضع لك وتستكين لوقع خطواتك العجلى التي بدأت مرتبكة بالتوجس، ثم انتظمت بعدما أنست إلى الهدأة التي تزكي سيادتك على كل أولئك المتعبين المستسلمين لسلطان النوم!
لم تكن بحاجة إلى أن تسألك إن كنت تعرف بيت »الداية«.
كانت تعرف أنك تعرف جميع البيوت، وأن جميع أهلها يعرفونك ويميزونك باللقب الفريد.
الغربة امتياز أحيانù. أنت فارس هذه القرية النائمة. يمكنك أن تعوّض الآن اضطهاد النهارات الطويلة. لن يلومك أحد إن رفعت صوتك بالغناء، أو تنحنحت وسعلت بقوة مقلدù الرجال، أو ضربت الأرض بقدميك لتُشعر الكل بمرورك، أو مططت عنقك متيحù لخيالك الشاحب أن يمتد ويمتد حتى يلامس أعالي القرميد. وحدك تستطيع أن ترى الآن ما لا يرى، وأن تلمح رأس خيالك الممطوط وقد تجاوز القرميد المؤكد وجاهة صاحب البيت الكبير. طربوش صغير. بتراكم الطرابيش تتأكد الوجاهة ويأخذ »أبو دودي« دورك عند اللحام، لكن عليك أن تعترف: ليس الطربوش وحده، بل الفارق بين من يشتري بالكيلو ونقدù وبين من يشتري أوقية وبالدين!
اللحام الحران! له حسابه، هو الآخر. لو أن بيته على الطريق لرميت بابه بحجر ثقيل! ولكنه على أي حال ليس بعيدù من هنا، تنعطف مرتين حتى إذا واجهت شجرة الميس العالية تبيّنته خلفها، وربما أسعدك الحظ بحجر صغير ترمي به تلك الواجهة التي يزركشها الزجاج الملون!
تكاد تنعطف، لكن صرخة مدوية تصعقك. لا يعقل أن يكون هذا صوت أمك. تهدأ، تحبس أنفاسك لتتأكد من أن الصرخة صدرت من داخل رأسك ولم تصلك من خارج. تتذكر فيأخذك الهلع: ربما ماتت أمك بينما أنت مشغول بالانتقام لنفسك من أولئك الصبية، أقرانك، الذين يتضامنون ضدك أنت الغريب. أرجئ التفكير بالثأر الآن. أرجئ استقواءك بالليل وعتمته والأشباح التي نقلتها فجأة إلى صفك واتخذتها حليفاً بينما كنت ترتعد منها كلما عدت متأخرù من »نزهة« مسائية طويلة لتذوق مواسم الفواكه الجديدة.
تركض عبر خيالك، تكاد تتعثر به وهو يرتدّ إليك مع اندثار خيوط الضوء القليلة المتسللة من مصباح بعيد. تحرك يديك لتطرد الأشباح وترميها بآخر قطرة نور متسللة من نافذة مغلقة لبيت ترك أهله النور مضاءً من أجل الأطفال، أو ربما دفعù للصوص.
خالتي الداية، خالتي الداية، أمي أرسلتني إليك. أمي تريدك. إنها تتوجع. عجلي، خالتي الداية.
صدرت عن الداخل حركة تفيد أن من في المنزل قد استيقظوا. شقت الداية الباب، يسبقها صوتها: عرفت أنك أنت! ليس في الضيعة امرأة في لياليها إلا أمك. كنت أتوقع أن ترسل إليَّ غدù. انتظرني.
لفت رأسها بشال صوفي سميك ثم تقدمتني وهي تقول: ستمرض! سيضربك البرد بنزلة صدرية! لماذا خرجت بهذه الثياب الخفيفة؟! قل لي: كم طفلاً أنتم… ثلاثة وهذا الآتي هو الرابع؟! أعرف ذلك؟! أنتم لا تتوقفون عن الإنجاب! في منطقتكم يتزوجون باكرù جدù، ولا يجدون ما يفعلونه قبل العراك وبعده غير إنجاب الأطفال! ينجبونكم ويقذفونكم إلى الشارع! إسمع، أبوك إنسان طيب، وهو شاب وسيم! أمك طيبة ولكنها دائمù مشغولة بكم، هي إما حامل ومتعبة، وإما مرضعة على حافة المرض، طبيعي أن تمرض.
كنت أسعى أمامها، فإذا ما ضاعت مني بعض كلماتها تباطأت حتى لا يفوتني ما تقوله. في الحقيقة كنت أتباطأ حتى أتملى أكثر من خيالها على الأرض، أمامي، وهو يتخذ أشكالاً مضحكة. أحيانù كان يتداخل خيالي بخيالها فأتصورها قد حملت، وقد أخذت تدور في أرض الغرفة متكئة على الحيطان كأمي، وأتصورني خارجù في الليل لأطلب داية للداية. أعجبتني الفكرة… هذا يدخلني نادي الرجال.
حين اقتربنا من بيتنا زادت الأنوار المنبعثة منه تداخل الأخيلة.
توهمت أن الجدران تنضح عبر العتمة عرقù، وسمعت صرخات متقطعة يختلط فيها الوجع بالنشوة، بل هي قاربت في لحظات حدود »الزغرودة«. لم يكن في الصرخات أثر للحزن. وشعرت بأهمية أن أكون ذكرù. من حق الرجل أن يزهو بقدرته الخارقة على استيلاد حياة أخرى.
دخلنا يسبقني خوفي. العتمة خلفي الآن، لكن كل خوفي الذي جمدته المهمة المقدسة قد عاد إليَّ، وها هو يختلط الآن مع خوفي من الداية القوية والسمينة كبقرة جارنا »الأبرش«، ومع خوفي على الوالدة التي كانت غارقة في عرقها ووجهها يشع بمسحة نورانية تجعلها أبهى من تلك الصورة المنطفئة لوجوه القديسين في الكنيسة. من أين للقديسين بهذه الحبات المفضضة من عرق العافية والخلق التي تتناثر على الوجه الطيب فتجعله مثل بدر بقاعي خارج لتوّه من بركة السباحة؟!
قالت الجارة التي كانت قد نفضت عنها النوم وأعدت كل شيء: لن يتأخر طويلاً. إنه مستعجل، وهي تساعده كثيرù.
أين الوالد؟
في مأمورية بعيدة.
صرخت بلا وعي: أنا هنا.
ابتسمت الوالدة، ومسحت الجارة رأسي بكفها المبللة، وزجرتني الداية: أخرج وابق قريبù من الباب. متى احتجنا إليك ناديناك.
سأخرج طبعù، لا شأن لي بعمل النساء، ولكن ترفقي بها، من دونها نموت بردù وجوعù..
سمعت صوت أمي الخافت يطمئنني عبر وجعها: لا تخف حبيبي، لن يكون أغلى منك أو أعز. لا أحد يأخذ مكانك. أنت الكبير. أنت رب العائلة، وقد عوّضت غياب أبيك.
تطاولت بقامتي وأنا أغلق الباب خلفي، وأمضي إلى الردهة باحثù عن سيكارة، أشعلتها وجلست على كرسي أبي، وقد لففت ساقù على ساق، وأخذت أنفث الدخان منتشيù: من حق رب العائلة أن يدخن.
وحين صدرت صرخة الوليد، وتعالت همهمات النسوة في الغرفة المغلقة، وقفت أنتظر البشرى التي لم تتأخر، ثم أخذت طريقي إلى فراشي ويدي تبحث في صدري عن الشعر المؤكد لرجولتي، مصدرù تلك النحنحة التي تميّز الآباء المكثرين.
* * *
بطاقة خاصة…
في عيدها، يأخذني إليها شميم الورد وعطر الكف الحانية وتلك الهالة البيضاء التي تقطر طيبة!
لتصدح باسمك الملائكة، يا واهبة الحياة، يا مصدر الخصب ومنبع الحب الذي لا ينضب.
لتكن لك طيبات الحياة، يا التي لا تستبقين لنفسك شيئù منها.
وأنت العيد، وليس من الدكان يجيء عيدك، ومنك الفرح أيتها الآخذة عنا أوجاعنا والمتاعب والهموم، من قبل أن نسألك ومن قبل أن نخبرك، ولست بحاجة إلى أن تسمعي، فأنت دائمù تعرفين.
سلامù أيها الربيع ولو كنت في يومك الأخير،
بطاقة عامة..
من قلب طوفان الأحزان يستولدون »الأعياد«. هل يكفي اصطناع العيد لاستجلاب بهجة مهاجرة؟
وتأخذك الدهشة: إذا كانت الطرق مسدودة بانكسار النفس، والعيون مغطاة بذلّ الحاجة، فمن أين يمر العيد، وكيف له أن يصل إليك؟!
أكلما زاد حرمان الإنسان من إنسانيته زيدت »أعياده«؟!
يجيء العيد من خارج الحب ويأخذك إلى دكان التاجر لتشتري باسمه الهدايا.
العيد للتاجر وحده. للشركة المنتجة، للوسيط، للمروّج والمسوق، ثم للبياع… أما المشتري فلن يكون معه أبدù ما يشتري به لحظة فرح واحدة في هذه الأيام المبيعة سلفù ومن قبل أن تصلنا.
أليسوا يبيعوننا أعمارنا بالساعات والثواني؟
يحاصرونك بين التهديد والصاروخ، فتصير حياتك مجرد فاصل بين غارتين، أو منّة من ذاك الذي فجأة قرّر أن يمنحك سنة إضافية أو شمعة أخرى لعيد جديد.
لماذا الانحدار إلى الفلسفة؟!
ينتحر الشاعر إذا صار فيلسوفù.
ويصعب على القارئ أن يحافظ على توازنه وهو يرافق الشاعر في رحلة انحداره من منزلة الأنبياء إلى مراتب الرياضيين وتراكيبهم المعقدة.
سعيد عقل وأدونيس، وكل لأسبابه، يفرضان على جمهورهما العريض تمزقù غير مبرر بين الإسراء مع رؤاهما التي تكاد ترفعهما بقوة الإبداع وسحر الرؤى إلى سدة المبشرين بحياة أفضل، وبين الضياع في تيه الادعاءات والأحقاد وكراهية الذات، حتى ليخرج سامعهما من جلده إلى صحراء الغربة وصقيع الانعزال في سديم بغير تخوم.
لماذا هذا التوغل في التنكر؟
لماذا هذا العراك المضني ضد مكوّنات الذات، والذي تَفضُل فيه الهزيمة النصر؟!
لماذا يتعارك المتنبي مع النبي، وإلامَ يريد أن يصل، على فرض أنه قد ألحق به الهزيمة كاملة؟
ولماذا يتهاوى »النبي« إلى درجة »قوال الزجل«، فيصطنع لنفسه خصومات مع أبطال أساطير، ثم ينقض عليهم فيفتك بهم فتكù ليكتشف مع آخر كلمة أن المشهد مثير للضحك أكثر منه مصدرù لارتقاء الفكر أو لاستيلاد معانٍ أنبل لحياة الإنسان ونضالاته المتصلة من أجل تحقيق إنسانيته؟
لماذا يتنكب الشاعر السلاح ويذهب إلى الحرب ضد ظلاميات الأمس، متوهمù أنه النور، أو أن النور في »الجهة الأخرى«، فيكسر كل المصابيح ويطفئ الشمع جميعù، مقررù مع كل بداية أن نبدأ من البداية التي يصعب تحديد نقطة البداية لها؟
ومن قال إن النور في »الجهة الأخرى« قابل للنقل أو الانتقال بالاقتباس المباشر، أو بمجرد إعلان الحاجة إليه، أو الاستعداد لإعلان الانتساب إلى فلسفته التي استولدتها حاجات مختلفة، في ظروف مختلفة لمجتمعات مختلفة، وعبر حرب مفتوحة على ذلك النور نفسه حينما كانت الجهة الأخرى في الجهة الأخرى؟
بين الشعر والفلسفة في سعيد عقل كما في أدونيس، لا يتردد أحد في اختيار الشاعر.
لكن الفلسفة تجرف الشعر وترميه في مجاهل الغرض الجبان، وحين تشتد الحرب حول الفلسفة لا تجد غير الشعر وقودù لنارها التي سيظل من الصعب إطفاؤها، مع أن لا وظيفة مفيدة لها: فلا هي تشيع الدفء، ولا هي تنضج الهمة القاعدة.
هل نستطيع التقدم برجاء من شعرائنا: أن يحفظوا لنا حقنا بالحلم، فلا ينتهكوه من قبل أن يتكامل، ولا يتخذوا منه انكشاريù لمعاركهم الموهومة ضد أحلامهم بالذات؟
يأخذني الزهو كلما سمعت أو قرأت عن تكريم لإميلي نصر ا”، أو تيسّر لي أن أسافر مستمتعù مع أثر جديد من أعمالها الروائية الممتازة.
وسر سعادتي أنني أغبط إميلي نصر ا” على نجاتها من مرض الصحافة العضال.
لقد نجت بنفسها وبموهبتها قبل أن يستغرقها العمل الصحافي فيضيّعها بين الخبر المثير والتصريح الخطير، والتحليل الدقيق والدراسة الموثقة، والتعليق الذي يفش الخلق.
وطوال ثلاثة وثلاثين عامù من الصداقة والود والمتابعة واللقاءات المتباعدة، زمانù ومكانù، لم يغادرني الإحساس بالمفاجأة والانبهار بقدرة هذه المبدعة على تحويل عاديات الأيام إلى فن جميل وإلى أدب حقيقي بطله الأول والدائم هو الإنسان… هذا العالم الهائل الاتساع والتشابك من العواطف والأحلام والأوهام، هذا الذي يتذبذب دائمù على الحافة بين سمو الآلهة وبين خبث الأبالسة ومكائدهم التي لا تنتهي.
هذه الفلاحة بنت الكفير تجوب الدنيا بقافها المتقلقلة، وجنوبيتها اللبنانية الفلسطينية السورية التي تكاملت في القاهرة وفي وادي النطرون، على طريق إسكندرية الصحراوي، ثم تعود من حيث بدأت الرحلة وقد اكتنزت تجربة: إلى الكفير وسفوح جبل الشيخ، وأولئك الفلاحين البسطاء الذين أخذتهم الحاجة إلى المهاجر وبقيت أرضهم تنتظرهم ولا تنساهم بينما هم ينسلون منها ليتوهوا وليتركوها تغرق في بحر العزلة واليتم وافتقاد الجدوى.
ونلتقي مجددù، فألمح في العينين العميقتين أطياف أبطال جدد، يخرجون من الذاكرة، أو يدخلون من الملتلقى، فتداريهم بسرعة عن عيون الآخرين، تاركة لعقلها أن يعمل على استنطاقهم، ولذاكرتها أن تعيد الربط بين السبب والنتيجة، بين العاطفة والحاجة، بين الأرض والناس، فإذا نحن أمام رواية جديدة تضيف إلى سابقاتها وتمهد للآتيات بعدها، والتي تنهال كشلال من الدعة واليقين والإتقان.
لا أعرف إن كانت إميلي تحب »شغل الإبرة«.
لكنها في رواياتها تمارس فن التطريز الذي طالما اشتهرت به النسوة في القرى البعيدة، مثل الكفير.
ونحن مع كل رواية يتملكنا الإحساس بأن ثمة صفحات ناقصة، ويكون علينا أن ننتظر المولود الجديد، بينما أحفاد إميلي وفيليب يدخلون السباق مع إبداعاتها فلا يشغلها هذا عن ذاك وتستمر تعطي ولا تمل من العطاء.
تحية لبنت الكفير المبدعة.
إنها شهادة لجيلنا، نحن الذين شقينا بالصحافة ومتاهاتها الكثيرة التي قد تمتع الناس، وقد تفيدهم، ولكنها تكلفنا أن نكسر أقلامنا الأصلية لكي نستطيع أن نكتب ما يعيش فقط لكي يقرأه المتعجل.
وتبقى الكلمات، الصور، الأفكار، الرؤى، الأخيلة، وحشد الأبطال المفترضين، وأدوارهم وحواراتهم التي تضج بها الرؤوس، حبيسة خيالنا المكدود الذي يحتله »الأقطاب« التافهون أصحاب الألقاب الفخيمة والإنجازات السقيمة، وبين أبرزها تحويلنا إلى كتبة في باب السلطان… ولو من مقاعد »المعارضين«.