طلال سلمان

هوامش

الاكتشاف الاميركي للاسلام
علّمونا في الكتب المدرسية المعتمدة في المدارس جميعا، حكومية وخاصة، ان كريستوف كولومبوس قد »اكتشف« اميركا قبل خمسمئة وعشر سنوات تقريبا… وكان التعبير »مهذبا« جدا وإن كان مغايرا للحقيقة بالمطلق… والحقيقة ان هذه القارة العظيمة المساحة والموارد، او »العالم الجديد« كما سمّاها أهل »العالم القديم«، كانت موجودة على الدوام في مكانها، وأهلها فيها، وإن وصول »الاسبان« ومن ثم البرتغاليين اليها كان »استعمارا« صريحا.. لكن هذا ليس موضوعنا هنا.
موضوعنا يتركز على حدث في مستوى خطورة ذلك التحول العالمي الهائل الذي وقع في أواخر القرن الخامس عشر: فالاميركيون، ادارة سياسية وأجهزة مخابرات خارجية وداخلية، وشركات واحتكارات وجاليات ومواطنين متعددي الاصول، ونيابات عامة ومحاكم وشرطة اتحادية ومحلية، كل أولئك قد »اكتشفوا« الآن، وفي وقت واحد، في نهايات العام الاول من الألفية الثالثة لميلاد السيد المسيح، وفي العام 1422 من التاريخ الهجري، اي من نزول الرسالة على النبي محمد بن عبد الله، الدين الاسلامي والمسلمين!.
… لعل كثيرا من الاميركيين يعتبرون ان الاسلام قد جاء من أفغانستان، وانه ما كان قد اكتشف وانتشر خبره لولا »حكومة طالبان« والمسؤولية المنسوبة لأسامة بن لادن عن تفجيرات 11 أيلول. (بل لعل بعض الاميركيين، وربما كان بينهم الرئيس نفسه، يتصورون ان الدين الحنيف قد بدأ مع الملا محمد عمر وانه مرشح لأن ينتهي معه. في مغاور تورا بورا!).
… ولأنه »اكتشاف« جديد، وفي لحظة سياسية موصوفة ومحددة، فان الاميركيين يراوحون في تعاملهم مع هذا »الدين« وأتباعه، بين الدهشة والانبهار بالجديد، بين مفاجأة الانتباه من الغفلة على أمر خطير كان يتحرك ويحرك الناس والاحداث بينهم ومن حولهم من غير ان يفهموه او يشعروا به، وبين الإفاقة المتأخرة على جهل شنيع بمكونات مجتمعهم، ومن ثم بحقائق البشر »الآخرين«، التي كانوا يهملونها او يرفضون الاعتراف بها، او يفترضونها شكليات »هامشية« او تزيينية، مثل رقصات الفولكلور او تقليعات الموضة، وفي كل الحالات: مجرد »تفاصيل« من خارج السياسة والاقتصاد والاجتماع والثورات العلمية الحديثة التي تعيد صياغة الحياة فوق هذا الكوكب.
وليس الا »بأفضال« أسامة بن لادن حتى انتبه المسؤولون الاميركيون الى شهر رمضان، مثلا ففتح البيت الابيض أبوابه لأول مرة في تاريخه لعيّنة مختارة من المسلمين »الصائمين« لكي يفطروا فيه، بل وسمح للمتدينين وهواة الصور من بينهم بأداء الصلاة في رحابه، ومازح »الرئيس« بعضا منهم، وتقصّد ان يخلّد هذه المناسبة التاريخية المؤكدة لإيمانه ولتسامحه الديني في نقل حي ومباشر بثته الفضائيات الى أربع جهات الارض، ليشهد العالم له بأنه مكتشف خطير في مستوى كولومبوس بل وأعظم منه، لان المسلمين يتوزعون على القارات الخمس وليسوا بعيدين عن أنظار العالم محاصرين ومعزولين في قارة واحدة وراء »بحور الظلمات«.
نهاية شهر رمضان عيد… وهكذا جيء للرئيس بعشرين طفلا لهؤلاء المخلوقات العجيبة المسماة بالمسلمين، فداعبهم وغنى معهم ووزّع عليهم الهدايا، ثم وجه عبر الهواء التهاني لاتباع الدين الحنيف بينما طائراته الحربية الخفيفة الظريفة كال »أف 16« (التي يعرفها اللبنانيون جيدا، ويتعرف اليها الآن الفلسطينيون!) والثقيلة مثل ال »ب 52«، تجوب فضاءات الكون جميعا، وأساطيله تمخر بحاملات الطائرات والمدمرات والبوارج المحيطات والبحار التي تطل عليها الدول الاخرى من دون ان تملك حق الحركة فيها.
الاكتشافات مكلفة… وهكذا وكما كان على »الرجل الابيض« ان يستنقذ أميركا من أهلها الاصليين، المتوحشين والمعادين للحضارة، حملة الفؤوس والرماح والنبال المسمومة والخيول السريعة، قتلة السيدات المتأنقات والاطفال الموردي الخدود، فان على الاميركيين الآن ان يخلصوا الاسلام من طبيعته »الارهابية« التي تتستر تحت تسمية »الجهاد«، والتي تأخذ المؤمنين الى صدام الحضارات، وبالتالي الى عداء واحة الديموقراطية في شرق التخلف وصحارى القحط والنفط والجراد، اسرائيل.
وهكذا انتدب جورج بوش وجنرالاته المدنيون منهم والعسكريون وحتى النساء، أنفسهم لمهمة مقدسة هي »عصرنة« هذا الدين الذي يؤمن به (ويا للعجب!) اكثر من مليار بني آدم، وأن يكافحوا فيه نزعة التخلف التي تجعله عدوا للعصر والمتقدمين من البشر والنور والعلم والحضارة الانسانية.
نوديَ على العلماء والاكاديميين والمؤرخين والخبراء الاستراتيجيين ورجال المخابرات والمباحث، لأي جهاز انتموا، وطلب اليهم ان يقرأوا »النص« الذي يعتبره المسلمون مقدسا، وان يعيدوا صياغة »الكتاب« الذي يقول المؤمنون انه »منزل« وان نصوصه غير قابلة للحذف او الاضافة لأنها انما جاء بها الوحي الى الرسول العربي لينشرها بين الناس فيهديهم الى الله بالدين الحق.
أُدخل القرآن الى المعامل والمختبرات، وأجريت عليه التحليلات، وأعيد تفسير التفاسير، وتأويل التأويلات، وتم تحديد النصوص المتفجرة، وتلك التي تأخذ الانسان الى التعصب والعنصرية فتجعله إرهابيا بالفطرة.
وجاءت المفاجأة صاعقة حين توقف الجميع أمام شخصية الملاك جبرائيل، الذي يذكر »الكتاب« انه كان يهبط بالوحي على النبي الأمي: إذن، هنا مكمن السر!
أطلقت مركبات فضائية وفيها رواد فضاء من أبرع رجال المخابرات، وطلب اليهم اكتشاف مقر جبريل في السموات السبع واقتياده الى التحقيق.
دارت الأقمار الصناعية في الافلاك جميعا، وتحتها كانت الطائرات المن دون طيار تصور الغيوم والضباب والاجرام السماوية والمجرات الضوئية.
وانطلقت أسراب من »الأف. بي. اي« تصادر الاحلام والرؤى، بعدما أفتى بعض المنافقين من المتفقهين بأن »الوحي« قد يتنكر على شكل حلم او رؤيا، على طريقة بن لادن ورفاقه في فسطاط الايمان حيث كانوا »يخططون« لتدمير العالم!
أخيرا قر الرأي على الاستماع الى مشورة أرييل شارون فأفتى بأن يؤخذ من القرآن ما يتناسب مع الروايات التي في »العهد القديم« ثم يتلف كل ما تبقى وهكذا يتوحد المسلمون مع المسيحيين الذين تهوّدوا مع اليهود الذين استعادوا الآن »مملكتهم« التي ستكون بعد اليوم مركز الكون، في السياسة والاقتصاد والعسكر والدين ايضا.
على أن بعض الشفاعات العربية قد نجحت في استنقاذ كل ما هو تعاليم عامة او مطلقة، تتصل بالقيم والاخلاق، وإتلاف ما تبقى من القرآن الكريم، على ان يظل النص عربيا، بشرط ان يرفق بترجمة حرفية الى الانكليزية والعبرية حتى لا يشتط البعض، في التفسير فيقوده الخطأ إلى الإرهاب فمنصة الإعدام.
لكن الرأي الذي انتصر أخيرا وبعد طول جدال فيمكن تلخيصه بالتالي: طالما ان الدين لله، والله لا يحتاج في علاقته مع المؤمنين الى وسطاء ولا الى كتب، فلماذا يبقى القرآن بين أيدي الناس أصلا؟!
تبقى مشكلة تفصيلية: هذه الكلمات الرموز التي تبدأ بها بعض السور في القرآن.. لا بد انها »أوامر عمليات« او »أوامر مهمة«، فاذا لم تفكّ ألغازها فلا شك ان الارهاب سيستمر حتى قيام الساعة!

بالداسار والقرطبي على باب مكمن السر
من الصعب اعتبار أدب الرحلات تأريخا، ومن الأصعب إخراج التأريخ ولو عبر أدب الرحلات من السياسة، وعلى هذا فان أمين المعلوف وربيع جابر هما عبر »رحلتيهما« مع »الابطال« الذين اختاراهما انما يشكلان خطين متوازيين لا يلتقيان… الا في رحاب الابداع الفني والسرد القصصي الجميل.
ربما كان »المشترك« في »رحلة بالداسار« و»رحلة القرطبي« ان كلا من امبرياتشي ومحمد الغرناطي اندفع الى السفر سعيا الى حقيقة ضائعة او مضيعة، وانهما انفقا العمر سعيا الى حقيقة لم يدركاها، وان كان كل منهما قد استقر على »يقين« اراحه من قلقه الذي جعله يجوب البلاد ويقطع الفيافي والبحار والصحارى ويعرّض نفسه وأسرته الى مخاطر وأهوال تفوق التصور.
أمبرياتشي، المتحدر من أصل صليبي، والذي استقر في جبيل تاجرا وورّاقا، يجد نفسه مدفوعا الى رحلة لم تكن لتخطر له في باله، موضوعها محاولة استعادة كتاب لمؤلف مغمور لكنه يحوي مكمن السر الإلهي…
عبر الرحلة التي أخذته الى الحب من حسناء متزوجة تطلب الطلاق من زوجها الفظ والنصّاب، والتي تعددت محطاتها في الطريق الى اسطنبول، مرورا بطرابلس وانطاكية، ثم الى أزمير ومنها في اتجاه جنوى وبعدها وبالمصادفة لندن، ليعود فيستقر في مدينة أجداده ومنبته الاصلي، جنوى، يروي لنا أمبرياتشي الكثير من الحكايات الملخصة لمراحل تاريخية مهمة، وللعديد من الأساطير التي تتناول »الاسم المئة« للعزة الالهية، والذي أخفي لحكمة فلم يدرج بين أسماء الله الحسنى ال99 المتداولة، فإذا وصل اليه أحد كشف حقائق الخلق والكون، الحياة والموت وسر الخلود.
ومع ان أمبرياتشي يتوصل، بضربة حظ، الى الامساك بالكتاب، والتثبت من أنه ضالته التي أنفق في سبيل الوصول اليها بعض سنوات عمره، وكل ثروته، وخسر حبه، فإنه يعجز عن القراءة فيه، لأنه كلما حاول انقطع النور عن بصره وغامت عيناه واختفت الكلمات.. وهكذا فانه يمسك بالسر ولكنه يعجز عن حل طلاسمه، فيكتفي من الغنيمة بالإياب إلى مسقط رأس أجداده ويتزوج ببنت التاجر الجنوي الذي استضافه، وإن ظل الحنين الى جبيل يعمر صدره، ويحمي الأمل في العودة اليها، الى بيته فيها وأقربائه الاقربين وبينهم ابنا شقيقته وخادمه الطيب الذين خاضوا معه صعاب المرحلة الاولى من الرحلة التي شقت طريقها في قلب الهوامش التاريخية ثم ظلت معلقة النهايات في نقطة وسط بين الحلم وبين الأمل، كما ظل هو موزعا بين وطن الاجداد وبين الارض التي جاؤوها غزاة تحت راية الصليب ثم استقر بعضهم فيها بعد هزيمة الصليبيين وعودة البلاد الى أهلها.
أما محمد الغرناطي فيقوم برحلته عكس الشمس، بحثا عن أخيه الذي »ضاع« منه في الغابة التي دخلها ليصطاد تاركا له مسؤولية القطيع.
يجوب محمد أنحاء الأندلس، مدينة مدينة، بحثا عن أخيه، الذي يجد حيثما ذهب أثرا يدفعه الى إطالة أمد الرحلة وإطارها الجغرافي… وهكذا فانه يتنقل بين بلنسية وأشبيلية وقرطبة، ويعبر الى المغرب فإلى تطوان وتونس ومصر وغزة وبعض فلسطين الا القدس حيث كان الصليبيون يعملون ذبحا في المسلمين مقيمين او زائرين… وينتهي به المطاف في انطاكية حيث يتوهم انه التقى أخاه الضائع فيخسر نفسه.
عبر الرحلة الكاشفة لأحوال العرب والمسلمين في زمن الارتداد والانحسار يفقد محمد البلنسي الغرناطي الاشبيلي القرطبي روابطه العائلية، ولا يقعده زواجه في تونس ونجاحه التجاري عن متابعة بحثه المضني عن »أخيه« الذي يظل مصيره معلقا بين الموت وبين اختياره ان يبدأ حياة جديدة في دنيا بغير تخوم يتنقل فيها محاولا تحقيق ذاته.
لقد مشى محمد القرطبي عائدا، هو الآخر، الى نقطة الانطلاق، فقطع ديار الاسلام من التخم الى التخم: من آخر الاندلس الى أول بلاد العرب عند انطاكية… مشى عبر خلافات العرب المسلمين التي وصلت بهم الى حافة الحرب الاهلية ومكّنت منهم الاسبان، وبثت الشقاق بين »الاوائل« و»الأواخر« من »المرابطون«، حتى لم يعد الواحد منهم يعرف نفسه.
هل حقيقةً المتحدر هنا أم هناك؟!
هل مكمن السر في البداية أم في النهاية، أم هو في نقطة ما على الطريق؟!
هل أنت الآخر، وهل الآخر أنت، أم أنكما عالمان متوازيان لا يلتقيان الا في حومة الصراع وتحت حد السيف؟!
هل الارض الاصل أم ان الانسان يعطي الارض هويتها؟!
هل الدين معبر أم انه مستقر في قلب اليقين؟
وهل مهمة الكاتب، وبالتحديد الروائي، ان يسأل أم ان يجيب؟!
أمين المعلوف، كما ربيع جابر، يطرح السؤال عبر متعة ذلك المسافر الذي زاده الخيال.
تكفينا المتعة. اما قلق التاريخ والارض والدين فجراح مفتوحة وستبقى مفتوحة حتى نصل في رحلتنا التي لا نهاية واضحة لها الى… اليقين!

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
للحب قدرة على إعادة خلقنا. مع الحب يختفي القبح ويفتضح أمر الحقود والكاره. ان وردة ندية واحدة تكشف بعطرها الناس الذين يعبرون بها، تمنحهم رؤية مختلفة وتذوقا جديدا للحياة. حبنا حديقة ورد يفوح عطرها على الطرقات فينتشي العابرون وينتبهون الى ان العمر أغلى من ان نضيعه في المشاحنات والنميمة والاحقاد. الحب يجمع في ظلاله المنحدرين من أديان وبيئات وأعراق مختلفة، فاذا واحدهم »إنسان«. قبل الحب لم أكن أحدا. بالحب صرت الناس والدنيا جميعا.

Exit mobile version