طلال سلمان

هوامش

فيضان النقاش في القاهرة: لماذا إلهك مرفوض؟!
من القاهرة يمكنك ان تطل على بحر القلق العربي فترى منظراً فريداً في بابه: غرقى يحاولون إنقاذ انفسهم بإغراق أخوتهم وأبناء الخؤولة والاعمام، او بشرب مياه الغضب الاميركي مفترضين ان النجاة سكتب لهم ما ان يروي »الصديق الاعظم« غليله ولكنهم يتهاوون واحداً اثر الآخر وقد غطت وجوهم طبقة كثيفة من الملح تجعلهم لحماً مقدداً ك»البسترما«.
العرب جميعا في قلب طاحونة الرعب يرتعدون، لا فرق بين من تأمرك قديما وله فضل السبق في اتخاذ واشنطن »كعبته« ومن تأخر حتى اهتدى فجاءها يعتذر عما تقدم من انحرافاته الفكرية والسياسية والاقتصادية وأوهامه حول السيادة والاستقلال والتحرر والحق في تقرير المصير.
ليست، الآن، »ثرثرة فوق النيل« يهذي بها حشاش مستنير يعبر عن معارضته »بالغياب«، بل ان قاهرة المعزّ تضج بالنقاش المثقل بالهموم والآمال المحطومة والتمنيات الكسيح والاسئلة الاشواك والاجوبة المتفجرة التي تغص بها الحلوق فلا تقال وإنما تتحول الى همهمات وتنهدات وكلمات مقطعة!
العجز فضّاح. العجز كاسح، ماسح، شامل، مطلق، يتهاوى الى وهدته المسؤول الكبير والكاتب الخطير والمواطن الفقير، ثم لا يجد اي منهم طريقه الى النجاة بجلده او الى مرتكز يقين بأن »دوام الحال من المحال«.
الاخبار سهام مسمومة، تتكسر نصالها على النصال: بينها ما هو جارح للكرامة، وبينها ما هو مسيء الى المعتقد، وبينها ما يتعدى ذلك الى »إلغاء« هذا »الكم« البشري وشطبه من دائرة »الأحياء«، ويتجاوزهم وكأنهم مجموعة من الأصفار لا حق لهم برأي ولا دور لهم في قرار ولا مكان لهم في مستقبل الكون.
لقد انطبقت الدنيا على الدين فصدعته، وانطبق الدين على الدنيا فإذا هم لا دنيا ولا دين!
لكأن طائرات البرجين في نيويورك والبنتاغون في واشنطن قد اصطدمت بكل الثوابت فهدمتها او خلخلتها، فإذا »العرب« في صحراء لا يقين فيها ولا معالم لما بعدها: الدين سراب، بل عبء ثقيل لا بد من التخفف منه، اما الحياة الدنيا فقرارها في يد من يحيي ويميت في العاصمة التي تريد الآن ان تؤكد انها »معصومة« مرة وإلى الابد!.
هل نحن عرب؟! من العرب؟ هل العرب أمة واحدة؟! هل العرب مؤهلون للحياة في هذا العصر؟ هل العيب في هويتنا ام في ديننا؟! هل العيب في لغتنا أم في بشرتنا السمراء؟! هل الاسلام »وصمة« لا بد من محوها لكي نُقبل في عالم السيد الجديد للعهد القديم؟! وهل يمكن التخفف من »الاسلام« لنتخلص من شبهة الارهاب؟! هل يمكن ان نكون عرباً بلا عروبة ومسلمين بلا اسلام؟!
الاتهام يتركز على اساس الدين متجاوزا مظاهره. يقول الاميركيون بلسان عبري: ان العيب في »الكتاب«.
لا يناقش الاسلام من خارجه، ليس فقط لانه »رسالة سماوية« بل لان نصه يستمد قداسته من مصدره الإلهي، وهذا ما ينفرد به عن الدينين الآخرين: اليهودية والمسيحية. فالتوراة كتبت وأعيدت كتابتها وجمعت وأذيعت بعد سبعمئة سنة من وفاة »نبي الله موسى«، والانجيل لم يظهر بنصه المعروف حاليا على اختلاف بين الكتب الاربعة المعتمدة الا بعد ثلاثمئة سنة على غياب السيد المسيح. اما »القرآن« ففيه الدين والدنيا. الدولة والمجتمع. التشريع والقيم الاخلاقية. القواعد القانونية الحافظة للانتظام العام، والمثل وقواعد السلوك الفردي والاجتماعي.
بين السيف الاميركي و»الكتاب« كيف يكون خيار؟!
كأنما يطلب إلينا الخروج من الاسلام والعروبة معاً من »الكتاب« ومن فلسطين. من »الجهاد« ومن العراق والسودان وليبيا واليمن والصومال وسوريا ولبنان و…، من المعتقد الديني ومن مقاومة الاحتلال معاً. من الأرض والسماء معاً. ان ترددنا صدر الحكم بتنسيبنا الى »طالبان« وحقّ علينا العقاب!
السيف أميركي لكن الجلاد اسرائيلي، ذاك يطلبك لدينك وهذا يأخذ منك ارضك، ذاك يصادر غدك وهذا يسلبك حق الحياة في يومك.
والسلاطين حائرون: ان جهروا بخروجهم العلني على الاسلام فقدوا »شرعيتهم« المستعارة والمموهة بالشعار الديني، وان هم اعلنوا استسلامهم امام اسرائيل لم يضمنوا استمرار عروشهم اذ قد يخلعهم شارون مستبقاً اي تحرك بالثورة تقوم به شعوبهم المقهورة والمحرومة من حق الحياة في الدنيا ومن حق الحلم في الجنّة!
اما الرعية فمتروكة للريح في دوامة الفقر والظلم والحاجة الى الرغيف وافتقاد الدور: ليس عندها في حاضرها ما تبكي عليه، أما طريقها الى مستقبلها فمقفل بالدبابات الاسرائيلية والاساطير وفنون الشعوذة، بالأساطيل الاميركية ولحى »مسلمي آخر زمن« وبدعهم التي تبرر اضطهادهم وإخراجهم من التاريخ والجغرافيا معاً.
كيف تنزع من صدرك أحاسيسك، ومن وجدانك ايمانك، وعن وجهك سمرته؟
محاصر انت بين اسامة بن لادن الاميركي وجورج بوش الاسرائيلي وارييل شارون الخارج بسيفه من قلب التوراة و»ربه« يجري في ركابه، يقاتل لحسابه فيقتل الرجال ويبقر بطون النساء ويسمل عيون الاطفال.
لماذا هذا »الرب« مقبول و»إلهك« وثيقة ادانة بأنك »إرهابي«؟!
لماذا انت مرفوض، تطاردك المخابرات بأنواعها في اربع رياح الارض، بينما انت هارب من جحيم القمع والنبذ والاضطهاد في بلادك؟!
لماذا يواجهك العالم بكل هذا الاحتقار لهويتك، للونك، لدينك، للغتك، لحقك في الحياة ككل البشر الآخرين الذين لا يفضلونك علماً او ثقافة او جدا وسهرا او تشوقا الى الحرية وإلى ممارسة حقوق الانسان؟!
أنت الضحية ألف مرة، تغدو جلاد الانسانية؟!
أنت المقهور، المستعبد، المقموع، المستبعد عن القرارات التي تشكل حياتك، اللاجئ الى الدين لانك حرمت من ان تكون في الدنيا… لماذا تصوّر، وأنت الذائب شوقاً الى الحياة، كأنك العدو المطلق والوحيد لكل من هو وما هو حي؟!
لماذا يواجهك العالم بكل هذه الكراهية بينما تملك قلبا يتسع لكل الناس، من كل الاعراق والاجناس، وعيناً تقدس الجمال في الفراشة وفي الشعاع الاول للشمس وفي تفتح أكمام الوردة وفي بريق الابتسامة الاولى لأم تحضن بنور عينيها طفلها الوليد؟!
…والنيل يواصل رحلته الابدية بصمت، يستنبت من حوله المدن والاحياء الجديدة للفقراء الذين يتزايدون بقدر ما تثقل عليهم اعباء حياتهم، يحمل الطمي فينثره خصباً في الارض الجديدة المنتزعة من قلب الصحراء، يعلم الناس من دون ان ينطق ان الارادة هي البداية وهي النهاية، وكل ما عداها وهم زائل.
لا مجال للهرب: لا مجال لاثبات البراءة من الذات. لا مجال لان تمسخ حقيقتك ليقبلك من ينكرون عليك حقك في الحياة.
لا مجال لغير ما أنت عليه. فكن أنت. كن أنت. كن أنت، والا فلن تكون احدا، ولن يكون لك في هذا العالم المحكوم بالقوة مكان.

»زهر الرمان« يفتح باب رام الله لمريد البرغوثي
العودة الى رام الله تتجاوز الرواية الى الشعر، فالحلم فسيح يتيح للمبدع ان يعيد انتاج ذاته، وأن يهتدي الى لغته، ويمنحه تلك النشوة التي تكتب نفسها بعصارة العين والقلب معاً.
وحين مشى مريد البرغوثي طريق العودة الى رام الله انتظمت مواكب الشهداء قصائد في وجدان الاهل المثكولين والواقفين على شفا دمائهم لاستخلاص الوطن من فوهة المدفع ورفع الارض إليه ليتجسد فيها وفيهم.
»زهر الرمان« عقد ارجواني من اسماء الله الحسنى التي تقوم كلما اسقطها رصاص الاحتلال: تحمل الايدي الطرية حقائبها المدرسية، وتمتطي ادعية الامهات، قاصدة مدارسها المنذورة للهدم، ولكنها غالبا ما ترجع متدفقة في المواكب الذاهبة بنعوش الفتية الى المقابر المفتوحة على مدار الرصاص الذي لا يتوقف عن الدوي الملتهم لصرخات الوجع الاخير.
الفتية يتزايدون. تضيق بهم الدروب المتربة والشوارع المسفلتة، والسطوح المشرفة على الموت. يتزايدون ويتزاحمون على مواقعهم في المواكب وفي النعوش وفي تلك الحفر رطبة التراب، حيث تتوسد كلمات الله.
»العائد« ليس سائحاً يتقافز بين نقوش الغابرين ليستعير منهم لحظة خلود او شبهة قربى… انما هو »هم«، يجرب ان يستعيد زمنه الذي ضاع أمسه ويكاد يفلت يومه من بين اصابعه، اما غده فينتظر البعث لكي يستعيد الذين صنعوه.
»كثرت مفاتيح« مريد البرغوثي وابوابه غدت حطبا يضاف له، اذا ما ودعته، حطب: »مثل جندي قليل/ تائه/ ورفاقه نصفان: من ماتوا ومن هربوا«.
فحين أرجعته خطاه الى منزل كان له »قلت: هل صار لي؟! قال: حدّق! رأيت الخزامى/ ارتمت في الذبول والمطر كف/ اما الطيور… كأن الطيور التي غادرت هكذا ليل اقفاصها/ كلما خبطت في جهات الهواء/ أبصرت حولها قفصا باتساع السماء«.
مشى في قلب الموت متفقداً من كانوا اصل الحياة. لم يكن ثمة الا الموت. حتى كاد يصيح به: »تعرّف الى غيرنا ايها الموت«، ثم لم يجد بداً من ان يحاوره ويحاول غوايته ليشتري منه بعده: »أغلطتنا اننا كرماء لتأخذ من تنتقي/ ثم نعطيك من يرتقي بك نحو السمو الذي تشتهي«. لا ينفع الرجاء، مع ذلك فليبذله: »يا أمير الحصاد، اختصر!«.
»تأمّل ولو مرة/ كيف اصبح ذعر الفتى منك ركضاً إليك/ ايها المتخم، المرتوي، المستريح، المطاع، المذل، المهاب، المهيب، المهيمن، أخبره ان نواياك بالقتل صادقة.
»حاولت؟ حاول مراراً، وحاول مراراً واقنعه! وجه له صفعتين على خده،/ أعده الى أمه وهي في قرفصاء العجين.
»فالحب ايضا يحب الغياب«.
ومثل كل الذين يشترون حياتهم الثانية بالموت، يهتف مريد البرغوثي: »ونحن هنا آخر الواقفين/ على حافة الارض/ حيث متانة سيقاننا تحفظ الارض لا الإلهة…
»… ونامت بنادق كل اللغات ونحن هنا آخر الواقفين/ يا امير الحصاد، اختصر!
»نحن سطر اخير على صفحة الدهر/ هل جئت تمحوه ام جئت كي تكتبه«؟!
لا بد من ان يقول هذا »العائد من غروب زمانه الى اوله« بعدما »توحش الزمان« و»صار له فك غافق«، ولا بد من ان يهتف: »أعطنا حق اقتراف الجبن كي نبرأ من داء الشجاعة/ كل طروادة ملهاة اذا قيست بيوم واحد في اورشليم«.
شعر هذا الزمان »فلسطين«، فمن غيره يجمع الدم والقيثارة، الوردة والبندقية، لثغة الاطفال وآهة المحرومة من حبيبها، زغرودة الام وهي ترى فتيتها يقذفون الدبابات بأرواحهم ويمضون إلى »الجانب الموجع من التاريخ«.
شعر هذا الزمان فلسطيني، عنوانه الحب والحب سياقه والقافية… ولا يلتهم الموت الحب في صدر مريد البرغوثي فيكمل نشيده الاول:
»لمسة لمستين وشهوتنا تغلق الضوء ضوءين/ والصمت بيني وبينك همس يرن ورعد يذوب…
»وفي غابات التوت ينهمك القز في شغل شال الحرير على كتف اليوم« وعشيقته »ملموسة كالنون في الشيطان/ وتأمر الحدائق ان تخضّر في جهنم«.
اما رغبتها فكاسحة امواج: »جسدها ذنوب تلح لكي تُرتكب/ وطيران يحوم ليحل في طير حبيس«.
على الهامش بين الموت والوطن حيث »يومنا شرفة رخوة/ وغدنا معلق كإكليل الثوم على مسمار مائل«، ينتبه مريد البرغوثي الى الوجه الثاني للصورة: »هنا مستشارون سعداء/ هنا رؤساء المدن/ بأحذيتهم اللامعة؟؟ وجباههم الضيقة وشعرهم المصبوغ«.
لكنه مع ذلك يرى الزمان في المكان: »كان زمانا للقمصان، المثقوبة من الامام/ بلا خوف/ والقمصان المثقوبة من الخلف بلا إنذار«.
العودة الى رام الله عودة الى الشعر. لكننا نفضل رام الله.

تهويمات
انتبه، فجأة، الى انه ينام على سطح بيروت. لم يكن نائماً تماماً، ولم يكن صاحياً تماماً. أحس انه يمشي فوق الغيم. لم يكن يمشي تماماً ولم يكن جامدا في مكانه تماماً. لعله كان يسري به الليل. لعله كان يسري بالليل. لعله كان يقصد الى الاضواء يطفئها لكي ينام الليل. لعله كان يسعى الى الشمس ليأتي بها الى الصحو.
أنا حارس العتم وبين يديك مفاتيح النور.
لا أنت تتوهجين في غيابي ولا أنا اكتمل الا في حضورك.
يطبعني الضوء على وجهك، وأطبع وجهك على صفحة القمر فيصير جميلاً ويبث ضياءك حبا وخبزاً وماء ورد.
يبتعد النوم عابراً بحر الصحو الى الضفة الاخرى لعينيك.
وأسبق الليل لاسكن فيك قبل ان ينام الليل.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب ليس ملكية فردية. يجعلك الحب بعضا من كل الناس، أجمل ما في الحب انه يأخذك الى الناس ويأتي بهم إليك وقد غدوا أرق وأجمل، وكلما داريته كسرّ انتشر كنشوة معدية. يقول لي حبيبي: أجمل من ان نصاب بالعدوى ان نكون مصدر العدوى!.

Exit mobile version