طلال سلمان

هوامش

عن إسرائيل الغربية وديموقراطيتها الإرهابية
لا يرى الغرب من إسرائيل إلا »غربيتها«. حتى »يهوديتها« لا يراها »شرقية«، بل هي عبر صياغاتها السياسية التي أسست لقيام »دولتها« بعض نتاج الفكر الغربي والمصالح الغربية وإجمالاً: الحضارة الغربية.
بعيداً عن النقاش الفقهي حول »الكتاب المقدس« وجمعه بين »العهد القديم« و»العهد الجديد«، وأثره في التقريب بين المسيحية الغربية السياسية واليهودية الغربية السياسية، فإن تحقيق ما هو »خرافة أسطورية« في نظر العرب إنما هو إنجاز تاريخي للحضارة الغربية في أرض العرب.
ربما لهذا، من ضمن أسباب تاريخية أخرى، بينها الصحيح وهو قليل وبينها المزيف والمركب وهو كثير، فإن الغرب لا يرى من إسرائيل إلا صورة الدولة الغربية القوية وسط بيداء القبائل العربية المتخلفة والمعادية لحضارته.
إن الغرب لا يرى ولا يريد أن يتذكر ما كان على أرض فلسطين قبل قيام إسرائيل. تلك الآلاف من السنين الفاصلة بين »التوراة« وأساطير »أرض الميعاد« و»شعب الله المختار« و»الوعد الإلهي« وبين »العودة« وإقامة الدولة على »أرض لا شعب فيها«، لا تحتل حيزاً مهماً في التفكير الغربي. حتى من يعترف بها، ضمناً أو مباشرة، فإنما ينسبها إلى التاريخ لا إلى الواقع السياسي.
في تقدير آخر فإن الفترة الفاصلة بين سقوط آخر دول الصليبيين في المشرق العربي عموماً، وفي فلسطين ببيت مقدسها خصوصاً، هي فترة انقطاع قسري لمجرى الحضارة الغربية في هذه الأرض التي يدعي العرب أنها كانت لهم على امتداد الزمن.
إسرائيل دولة من الغرب. إنها »غربية« وإن كانت أكثرية سكانها شرقية، بل وعربية.
ثم ان إسرائيل دولة غربية بالمعنى السياسي: أي بالدور والمصالح والعقيدة وتقاليد الحياة الحزبية.
»إنها واحة للديموقراطية«. بمعنى أنها واحة غربية في الصحراء العربية، والصحراء هنا تعبير سياسي، عقائدي، ديني، وفكري الخ.
ربما لهذا لا ينظر الغرب ولا يريد أن يرى القاعدة الدموية التي أقيمت فوقها دولة إسرائيل، بسلاح الغرب، وبالجنود المدربين في صفوف قوات الحلفاء الغربيين في الحرب العالمية الثانية، وبالمساعدات العسكرية والاقتصادية والفنية التي قدمتها دول الغرب مساهمة منها في تدعيم وتعزيز »اختراقها« لهذا العالم العربي الواسع الشاسع، المتخلّف والمملوء ضغينة وحقداً على الغرب والغربيين.
لقد تماهت المسيحية الغربية مع اليهودية الغربية إلى حد التصادم مع الكنيسة الشرقية، كنيسة السيد المسيح شخصياً.
وتماهت دولة اليهودية الغربية مع سائر الدول الغربية حتى سقطت الفوارق بينها، فإذا هي منها ومثلها ومعها ولها: لها نظامها الديموقراطي، ولها هي الدولة ذات القاعدة الدينية المعلنة تقاليدها العلمانية، ولها نظام الأحزاب والصراع الديموقراطي على مقاعد الكنيست، وحكم حزب الأكثرية أو ائتلاف الأحزاب.
… بينما النموذج العربي للدولة أشوه، غير محدد الملامح، لا هو غربي تماماً، ولا هو »شرقي«، لا هو تكرار لدولة الخلافة، ولا هو اقتباس من الغرب بعد »التحرر« من الدين على الطريقة الأتاتوركية. لا الحكم فيها حكم الحزب أو الأحزاب، أما المجلس النيابي حيث وُجد في بعض دولها فمخلوق أشوه، لا يمثل إلا »حزب السلطان«، ولا علاقة له بالناخبين ولا بالبرامج السياسية ولا بأي صورة من صور التمثيل الشعبي.
لا يرى الغرب من إسرائيل إلا ملامحها الغربية، وفي الطليعة منها نظامها الديموقراطي… وهو لا ينظر، ولا يريد أن يعترف أو أن يرى القاعدة الدموية لهذه الديموقراطية القاتلة للعرب عموماً وللفلسطينيين على وجه الخصوص.
وهو لا يريد أن ينتبه إلى أن هذه الدولة الغربية النظام الديموقراطية مع الغربيين من اليهود، قامت فوق أجداث الآلاف وعشرات الآلاف من الفلسطينيين وسائر العرب، وأنها كلفت تشريد بضعة ملايين من أهل الأرض وأصحابها الأصليين… وأن أعداد ضحاياها تزيد عن عدد سكانها من اليهود الغربيين.
من هنا فإن المقاوم الفلسطيني (أو اللبناني أو السوري أو المصري، إلخ) هو إرهابي بينما الإسرائيلي مقاتل شجاع يدافع عن قيم الحضارة الغربية.
إن الديموقراطية الإسرائيلية هي المبرّر الرئيسي لقتل العرب مرتين: مرة لتحصينها في وجه همجيته وعدائه للحضارة الغربية، ومرة ثانية لحمايتها من تعصبه الذي سرعان ما يتحول إلى إرهاب.
العربي إرهابي حتى قيام الساعة، وإسرائيل واحة الديموقراطية والحضارة الغربية حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وذروة الغباء أن يراهن العرب على »تحول« جذري في التفكير الغربي أو في الموقف الغربي من إسرائيل!

عن البدوي الماركسي الصوفي الستاليني الحكيم: نبيه ارشيدات
في لحظة التعارف تصرف وكأننا أصدقاء منذ ألف عام، أما حين قرأت صفحات من سيرته الذاتية التي أصدرها مؤخراً في دمشق تحت عنوان »مذكرات غير شخصية« فقد لازمني الإحساس بأن هذا البدوي الماركسي الصوفي الأممي العربي الستاليني المرهف المشاعر و»الحكيم« الذي يدفع للمرضى »أجور« انتقالهم إليه وثمن الأدوية التي يصفها لهم، ضرورة حيوية لحياة الناس لألف سنة أخرى، على أقل تقدير!
الدكتور نبيه ارشيدات: الطبيب الذي يفتح عياداته حيث لم يعرف الناس الطب في قلب البادية، في الأغوار، في إربد، في عمّان… وحتى عندما نفته السلطات الأردنية، في زمن الملك عبد الله، إلى »باير« على الحدود مع السعودية، فإنه أخذ حقيبة أدوية وطفق يعالج »سجانيه« وعلى رأسهم رئيس المخفر »جزاع« وأبناء القبائل في تلك »المجاهل« التي لم تعرف »حكيماً« قبله وأغلب الظن أنها انتظرت طويلاً قبل أن تعرف حكيماً بعده.
يبدأ نبيه ارشيدات مذكراته بتعريف نفسه ونسبه: عائلة الرشيدات من بين العشائر التي نزحت منذ مئتي سنة عن الجزيرة العربية، من منطقة جبل شمر، والتي تفرعت في ما بعد إلى خمس قبائل: ارشيدات، الصياحين، الطبلان، العودات والكنعان.. مع صلة قرابة بعائلة الغرايبة.
لكن العشائر والقبائل سرعان ما تتوارى حين يجتذب النضال الوطني الفتى الممتلئ حماسة وعداءً للاستعمار واعتراضاً على سياسات النظام وعلاقة الارتهان للنفوذ الأجنبي (البريطاني تحديداً).
ويروي الدكتور ارشيدات حكاية لقاء مع الملك عبد الله اقتاده إليه أبوه، الذي كانت تربطه صداقة ما مع هذا الهاشمي الذي أقطعته بريطانيا الأردن تعويضاً عن عرش أبيه الضائع في نجد، وعن فلسطين المضيعة على العرب جميعا… يقول: »في الصباح، أحضر لي والدي طربوشاً، إذ لم يكن مسموحاً لأحد في تلك الأيام بالدخول على الملك أو حضور أي احتفال رسمي عاري الرأس«.
وقال الملك للفتى الذي كان قد عرف طريقه إلى الحركة الشيوعية: »أنا أريدك عربي مسلم هاشمي، ما تمشي وراء هذا الشيطان أبو غنيمة«!
لكن الفتى استمر وراء الشيطان، فنُفي مع صديقه ورفيقه ضيف الله الحمود، وبعد العفو عنه، استقبله الملك، مرة أخرى، ربما بسبب صداقته مع أبيه، فقال له مهدداً: »اسمعوا، هذه المرة الحكومة استخدمت القوانين ونفتكم، أما إذا حدث مثل هذا الأمر مرة أخرى فسأضرب الواحد منكم على زرد ظهره وأخليه يوقع أمامي«!
بعد الملك عبد الله جاء »الملك الطيب« طلال، الذي لا يخفي ارشيدات تعاطفه معه بل وحبه له.. وهو ينبش بعض الصفحات المطوية عن العهد القصير لذلك الملك الذي انحاز إلى الحركة الوطنية في الأردن، وقاطع عيد الجيش لأنه رفض أن يشهد الاستعراض ما دام الجيش يخضع لقيادة الجنرال البريطاني غلوب باشا.. فكانت النتيجة أن اتهم بالجنون ونُفي إلى تركيا ومات خارج بلاده.
يسجل ارشيدات وقائع من رحلاته جميعاً، الدراسية منها والتي تمت في إطار حزبي، ويظهر إعجابه بتجربة الصين لكنه يأخذ عليها خلافها مع الاتحاد السوفياتي، ويجهر هذا الماركسي البدوي بإعجابه بستالين، الذي جره إلى معاداة تيتو… كذلك فهو يروي صفحات من نضالات الشيوعيين في الأردن وفي سوريا وفي لبنان، من غير أن ينسى الإشارات، ولو بسرعة، إلى من التقاهم من »النجوم« شعراء وكتابا وممثلين، بينهم ناظم حكمت وأحمد الصافي النجفي وفخري البارودي…
كذلك فإنه يحرص على الإشارات المتكررة إلى قصة حبه التي ما زال يعيش فصولها مع زوجته وداد خلف، من يافا، التي عرفها من خلال صداقته مع أخيها سميح، ثم توثقت العلاقة أكثر واكتسبت مضمونها العقائدي الكامل عندما عرف أن خالها المناضل النقابي المعروف، وابن بيروت، مصطفى العريس.
نبيه ارشيدات مناضل نموذجي، حتى وإن اختلفت معه، فليس أرق من مشاعره الإنسانية، ونادراً ما تلتقي بمن يماثله وفاءً لأصدقائه وصداقاته… ولمبادئه حتى وإن أصابها الذبول بعد انهيار دولتها ومعسكرها العظيم.
آخر بدو الماركسية يقدم درساً في الصمود على العقيدة… ولو وحيداً.

حكاية علكة
حين نهر سائق »السرفيس« بائع العلكة المقطوع الذراعين والذي تعوّد أن يتسكع بين السيارات المتوقفة عند الإشارة الحمراء، لم يلحظ أحد »الحادثة« التي تتكرر مرات عدة في الساعة الواحدة. أما حين انتبهت الراكبة الحسناء وأبدت رغبتها بشراء علكة فقد حدثت »عاصفة« بدلت المشهد في الشارع كله: مد السائق رأسه من نافذته وصرخ بالبائع أن »إرجع إلينا«، وبلغت الحماسة بالراكب الجالس إلى جانبه حد النزول من السيارة لكي ينادي على البائع بلهجة آمرة: »يا أطرش، ارجع وله«! كذلك فقد تحمس صاحب سيارة أميركية فخمة مجاورة فحاول أن يرجع بسيارته القهقرى ليدرك البائع فصدم صدمة خفيفة السيارة التي خلفه، وكان عليه أن يتلقى رد الفعل الغاضب لصاحبها الذي ترجل متوعداً »الضارب« بالويل والثبور… ولقد استدعت »العركة« أن يجيء الشرطي وهراوته في يده ليفض »المشكل« الذي كان يزداد تعقيداً بسبب تعطل حركة السير واختفاء بائع العلكة.
عندما نجح الشرطي في السيطرة على الوضع، صرخ بسائق المرسيدس: هيا تحرك إلى ما بعد الإشارة، وقّف الى يمين الطريق.. أنت السبب في هذا كله!
برطم السائق، فتقدم منه الشرطي بالهراوة، وعندها فقط فتحت الراكبة الحسناء زجاج نافذتها وفتحت فمها لتقول: يا أفندي، لو سمحت.. أنا السبب، لقد توقف من أجلي، بعدما كادت إحدى السيارات تصدمني.
قال الراكب الآخر الذي كان يمسح عرقه بعد جولته الخائبة بحثاً عن بائع العلكة: هذا صحيح، وأنا الشاهد.
مد الشرطي عنقه، التفت حوله مستعرضاً نفوذه، فأضافت الحسناء: الحق عليّ، كنت أرغب في مساعدة بائع العلكة، لكنه اختفى.
دوت صفارة الشرطي، فتجمدت السيارات في أرضها، بينما كان الأفندي يمد يده إلى جيبه فيخرج منها علبة علكة ويناولها إلى الحسناء التي ردت عليه بابتسامة ساحرة، فانتشى، ثم انتبه إلى دوره، فرفع الصفارة إلى شفتيه وهو يقول: معلوك الهنا! تحركوا يا بهايم، يللا!!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
حبيبك لك بكليته فلا تطالبه بأن يثبت لك كل لحظة أنك في عينيه وفي أذنيه وفي أفكاره وأحلامه وعلى طرف لسانه. لن يكون لك شريك في حبيبك مهما تزايد المعجبون به والأصدقاء، إلا بقدر ما تتركه لهم… وبداية التخلي لهم عنه أن تغلق عليه سجنك، فلا تسمح له بالتنفس خوفاً من أن يذهب حبه مع الهواء إلى غيرك.

Exit mobile version