طلال سلمان

هوامش

أحمد الخطيب: عروة وثقى بين أمس التجربة وغد الأمل
في القاعة الفقيرة الرياش الغنية بذكرياتها وبأسماء الكبار الذين جلسوا إلى منبرها، كان عدد من الكهول المثقلين بتجاربهم السياسية يتحلقون من حوله، وفي القلوب كثير من الشوق والحنين بينما الأفكار مشغولة »بالأخبار« التي أطلقت سلسلة من الزلازل بامتداد الكون كله تنذر بتحولات أخطر من أن يمكن حصرها وتقدير نتائجها المحتملة.
وكان إيلي بوري، وقد أنساه فرحه المرض، يستقبل ويودع ويعرّف ويحيّي ويستذكر ويقدم الحفل الحميم بكلمة تنضح بالحنين.
وكان الرجل الذي قلبه على وجهه، والذي يغالب المرارة بابتسامة تضيء سمرته وتمتد بالعدوى الى رفاق سلاحه المتلاقين بعد طول انقطاع في مهجع الحنين، »حارس الزمن الجميل«، النادي الثقافي العربي، ينهض مهلّلا لكل وافد جديد يطل من الباب المفتوح على ماضي أيام »الجهاد الأصغر« بالقياس مع »الجهاد« المطلوب لحفظ »الجنس« وليس الذات فقط، هذه الأيام.
كوكبة من الأسماء كان الواحد منها يختصر »قطرا« أو »إقليما«، أما مجموعها فكان، ذات يوم، يعني الوعد بغد أفضل على امتداد هذا الوطن المنداح ما بين »المحيط الهادر« و»الخليج الثائر«..
»للنسور.. ولنا الملعب
والجناحان الخضيبان بنور
العلى والعرب..«.
للنشيد حكاية تتقاطع مع حكايات هؤلاء الذين تلاقوا في أفياء »العروة الوثقى« ليباشروا أو ليستأنفوا أو ليكمّلوا الجهد من أجل الحلم السني: »الوحدة العربية«، يستطيع من نظمه أن يتنصل منه الآن بلا خوف من محاسبة هؤلاء الذين ما زالت قلة منهم ترغب في إنشاده.
***
لم يعد لدى الدكتور أحمد الخطيب إلا الأسئلة والمزيد من الأسئلة.
لقد انتهى زمن ادعاء المعرفة بالأجوبة القاطعة لكل الأسئلة الصعبة والمحيّرة والمقلقة والتي تبدأ بالتفاصيل البيتية ثم تنتقل الى أحوال المجتمع لتصل الى »حال الأمة« في كونها المضطرب والمشتعل بالصراعات لتوكيد الهويات.
تتسع الابتسامة ويشع الوجه الأسمر براءة تعكس نقاء الروح: كنا نعيش في قلب السذاجة، ولعلنا قد نجحنا في إنجاز الكثير من خلال إيماننا بالبديهيات واستعدادنا غير المحدود للعمل. ثم جاء زمن الصعوبة مع التوغل في لعبة السلطة. ما أبعد الحكم عن النضال والمناضلين.
تدور عيون رفاق »الخلايا الأولى« تتفحص آثار الأيام على وجوه بعضهم البعض وعلى أجسادهم المتهالكة بمعظمها الآن: ثمة من يتوكأ على العصا، وثمة من يتباطأ في مشيته حتى لا ترهقه خطاه، وثمة من شحبت ذاكرته أو غابت عنه ملامح رفاق الصبا فما استطاع التعرف اليهم في حالتهم الراهنة إلا بعدما أعلنت له أسماؤهم.
التاريخ يثقل كواهل المشاركين في صنعه.
وهو يغدو أثقل بعدما يكتمل دافعا ببعض صناعه بعيدا عن دائرة الفعل والضوء، لأن غيرهم قفز الى عنقه فألوى المسيرة، أو لأن الإنجاز كان يتجاوز طاقة الوعي عند المجتمع لحمايته: كيف البدوي سيتحول الى »مواطن« في »كيان« له حدود ويسمّى »الدولة«، هو الذي كان رعية في »ديار الإسلام« التي حدودها مدى السيف، والذي كان يحلم بأن يستعيد معظمها بقوة التاريخ وحده، ثم ثبت له أنها بحاجة الى ما يتجاوز قوة الذاكرة وجزالة النص العتيق في وصف »بستان هشام« أو فتوحات ذلك »الرشيد« الذي تحدى الغيمة أن تمطر حيث شاءت »فإن خراجها عائد إلي«.
***
يأخذ الاستذكار الدكتور أحمد الخطيب الى محطات المواجهة الصعبة مع »ثوابت« الواقع ومع طبائع الحكام ومع »تحول« الرجال في مواجهة الذهب والسلطة والموروث الديني وتقاليد التخلف المزمن.
وحين تستغرق مراجعة التجربة احمد الخطيب يتبدى الهمّ جليا في عيني هذا الطبيب، الاول بين ابناء منطقة الخليج العربي، والذي طالما اكتشف بنظرة منهما الى فقراء المرضى العلل التي يشكون منها من قبل ان يضع سماعته على صدورهم المنهكة بالسل او بالربو او على ظهورهم المثقلة بهموم العوز والحاجة الى الهواء النظيف وشيء من الظل الندي.
منذ بضع سنوات حرر الدكتور احمد الخطيب نفسه من نفسه، من تاريخه السياسي الحافل، من حلاوة الانتصارات في »الزمن الجميل« ومرارة الاخفاقات والهزائم التي تعاقبت في ما بعد كاشفة الكثير من وجوه التبسيط او السذاجة او الارتجال او التسرع في القرار تحت ضغط التعب والاستغراق في التحليل.
ما أجمل الشعار، ما أصعب الممارسة. ما أبهى النضال، ما أبشع السلطة. في لحظة قد يصدمك ما تفترضه تغلغلا لليأس في نفس هذا الرائد من رواد العمل القومي، في العروة الوثقى بداية، ثم في حركة القوميين العرب مع رفيقي دراسته الطبيبين جورج حبش ووديع حداد، ثم في قيادة العمل الوطني والقومي في الكويت ومنه في معظم الجزيرة العربية، من ضمنها اليمن بشمالها والجنوب التي تولّت »الحركة« الحكم فيه مع اعلان »استقلاله«، ثم تطلبت عودته الى »يمنيته« حربا على انفصال ورثة »القوميين« الذين اخذتهم الهزيمة الى الماركسية ثم اخذتهم السلطة الى الحرب الاهلية!
لكن احمد الخطيب ليس يائسا وليس متعبا، انما هي الحاجة الى مراجعة شاملة لكل ما كان يُعتبر بين البديهيات، في منتصف القرن الماضي، والذي تبدّى في اواخر الخمسينات وتحت قيادة جمال عبد الناصر احلاما قابلة للتحقيق، ثم جاءت الهزيمة لتكشف كم ان واقعنا تعيس وبعيد عن الاهلية لمواجهة اعدائنا الاقوياء في الخارج، والذين يستندون الى هشاشة اوضاعنا الداخلية، فكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا… فالفكر المترجم المتماهي مع الحلم سرعان ما بعثرته التجربة، والموروث السلفي تبدّى أقوى من الدين، والحاجة الى الخبز تبدت أعظم تأثيرا من الوعد الغامض بجنة ارضية.
ليس عند الدكتور احمد الخطيب الآن الا الاسئلة:
هل ابتعدت »الطليعة« عن جماهيرها اكثر مما يجب؟! هل كانت الاحلام اثقل من طاقة السواعد على إنجازها؟! هل انغلقت على ذاتها اكثر مما ينبغي فاغتربت عن واقعها، ثم اغرتها هذه الغربة بالسفر الى رؤى وفلسفات وبرامج عمل حققت نجاحا في بلاد اخرى لها ظروف اخرى وتجربة مختلفة تماما؟!
المسافة بعيدة بين العروة الوثقى والماركسية اللينينية بنسخها المتعددة: السوفياتية والصينية والكوبية الغيفارية ثم الهوشي مينية في فيتنام..
المسافة بعيدة كمثل بُعد نشيد العروة الوثقى عن ناظمه، أو بُعد الكويت ما قبل عبد الكريم قاسم وما بعد صدام حسين عن حصيلة جهد المناضلين القوميين وسط بحر جماهيرهم فيها في الخمسينات، وبُعد القاهرة اليوم عن عبد الناصر، وبُعد جورج حبش عن فلسطين، وبُعد الجزائر عن بن بله، وبُعد النادي الثقافي العربي عن بيروت ما بعد الحرب الأهلية.
المسافة بعيدة، والعدو أقوى بما لا يقاس مما كان التصور، والسياسة الدولية أكثر تعقيداً من التصورات الأولية المبسطة، والاحلام المحطومة تكاد تسد الطريق إلى المستقبل.
لكنها ليست نهاية الدنيا.
وربما ان »أبناء« أحمد الخطيب لا يشبهونه كثيراً، لأنهم يحملون ملامح ظروفهم هم المختلفة عن تلك التي واجهها.. لكنهم ينطلقون من أسئلته الجدية الثقيلة بحثاً عن جواب يشكل أرضاً لليقين.
تستقر العين على الذراع المقطوعة لهاني الهندي: أحد أوائل ضحايا الإرهاب الإسرائيلي، والذي قد يكون اسمه مدرجاً الآن على لوائح الإرهابيين المطلوبين أميركياً…
المسافة طويلة مع الماضي، المسافة طويلة مع المستقبل، لكن الجمود هو الموت، أما الالتحاق بالحلف الأميركي الإسرائيلي لمكافحة الإرهاب الدولي فلا يعني غير الانتحار!
أحمد الخطيب لا يقبل بالانتحار ولا يقول به.
يبتسم، فتشع الابتسامة نوراً يضيء سمرته وتشعرك ان الأمل كامن وراء مراجعة التجربة، وان »الاستقالة« لا تعني غير تحريض الجيل الجديد على ان يتعب ليعرف الصح في عالم مختلف.

الذين يجيئون باسم العدل لإحياء ذكرى شهداء الإرهاب!
من خلف النافذة البلا زجاج، في الغرفة المبنية بأحجار الباطون العارية، بلا طلاء، على أرض المخالفة القانونية، كان يطل على الضجة التي انفجرت فجأة في قلب صمت »المقبرة« التي كانت إلى ما قبل عامين فقط مزبلة ومكباً للنفايات وملعباً للأولاد الذين بلا أهل وبلا بيوت وبلا ملاعب.
لم تكن الدهشة وحدها تملأ معه النافذة الصغيرة، بل كان يخالطها شيء من الحبور بأن الذكرى لم تمر بغير من يتذكر، وبأن »الشهداء« قد توفر لهم الآن المزيد من »الشهود« الذين سيواجهون القتلة الذين قادهم ذات ليل أرييل شارون ووفّر لهم العتمة المطلقة ليرتكبوا جريمتهم بلا خوف »مستأصلين« كل من وجدوه في مخيمي اللجوء من الفلسطينيين وفقراء اللبنانيين، بغير تمييز بينهم على أساس العمر أو الجنس أو الهوية أو… السجل العدلي.
رأى الرجل من خلف النافذة البلا زجاج عشرات من الرجال والنساء يدخلون في صفوف منتظمة وفي أيديهم الورود ليضعوها على الضريح الرمزي… وتمنّى لو ان دخله يفيض عن ثمن خبزه إذن لاشترى وردة ومشى في هذا الموكب »الأممي« الذي ترفرف اعلام »حزب الله« على المشاركين فيه الآتين من جوار الفاتيكان حيث يقيم ويعمل رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم.
»إذن فلقد جاؤوا مرة أخرى«، قال الرجل عاري الصدر في نفسه وهو يتأمل المشهد الذي سبق له ان رأى مثله قبل عام… »انهم أفضل منا، فهم يتذكرون على البعد، ونحن ننسى مع اننا نعيش في قلب الموقع«.
نعم، جاؤوا بالعشرات، كما قبل عام، من احزاب اليسار في ايطاليا وبعض المنظمات الشبابية والهيئات المهتمة بالبيئة والعدالة وحقوق الانسان: صبايا وشبان وكهول تثقل كواهلهم التجارب السياسية في نجاحاتها وإخفاقاتها، وبينها تجربة »الأنصار« في مقاومة فاشية موسوليني المساندة بنازية ادولف هتلر في المانيا.
جاؤوا محمولين على جناح التضامن مع الضحايا في وجه القتلة، لإحياء الذكرى التاسعة عشرة لمذبحة صبرا وشاتيلا بضحاياها الالفين وخمسمئة من اللاجئين الفلسطينيين وفقراء اللبنانيين.
دفعوا من دخولهم البسيطة اثمان تذاكر السفر، وتحدوا ما روجه ويروجه الاعلام الاسرائيلي الاميركي والغربي عموماً حول بيروت كمركز للارهاب الدولي.
ركبوا الحافلة الى الجنوب المحرر، وانتظموا في مسيرة الى »المقبرة الجماعية« فغرسوا النصوب التي كان أعدّها »ابو سعيد الخنسا«: زيتونة فشجرة ليمون، لكي تنمو فلسطين مرة اخرى في ارض لبنان، الاخ الشقيق والجار وشريك المصير.
تأملوا الاكواخ الفقيرة التي تحاصر المقبرة بناسها الذين يشبهون الشهداء الذين سبقوهم. قال »ابو سعيد«: لقد استملكت بلدية الغبيرة هذه الارض، ونأمل بأن نزيل هذه الاكواخ بعد التعويض على المُعدَمين من »سكانها« الذين يفتحون نوافذهم على المذبحة التي لا يموت قتلاها.
وقال لي الصديق ستيفانو، احد فرسان التنظيم لهذه المسيرة السنوية، من موقعه في جريدة »المانيفيستو«: ان المجزرة مستمرة وبطلها واحد. ان شارون يكمل »إنجازه« في قلب فلسطين الآن، ولا بد من ان نرفع الصوت بالاعتراض على إرهاب الدولة الذي تمارسه اسرائيل.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
عندي من الحب ما لو وزّعته على البشر جميعا لقضى على الشر والجريمة. ليس أغنى من المحب، وليس أفقر ممن أمضى حياته في صحراء الحسد أو الكراهية أو الخوف من الناس. الناس أعظم مصدر للحب، وحبيبي يأخذني دائما إلى الناس لكي نتزوّد بالمزيد من الحب، ولكي تكون حياتنا أجمل وأبهى.

Exit mobile version