طلال سلمان

هوامش

مونولوج عربي على أسماع كارل ماركس التشيكي!
حين قصد اليه، لزيارة مجاملة، بعد غياب امتد لسنة، كان واثقا من انه سيجده في موقعه تماما، على الحد مع الغابة التي تتدرج صعودا فوقه حتى القمة الموشاة بالسحاب الخفيف والمندى بالمطر لبدايات الخريف.
لم يكن يقصد الاشارة الى ان الأيام قد أذلت هذا العظيم الذي قلب الدنيا رأسا على عقب بأفكاره التي صارت دينا جديدا اكتسح الاديان جميعا وتجاوزها فغير الناس والمصائر والدول جميعا… ولا هو حاول او أراد الشماتة به والايحاء بأنه تحول الى مجرد حارس للغابة الملكية في هذا المنتجع الذي أقيم فوق دزينة من ينابيع المياه المعدنية التي كانت للخاصة، وخاصة الخاصة، ثم حولها »راس المال« الذي لا يشبع الى حقل استثمار ناجح ومفتوح لكل قادر على الدفع… ولا كان، هو المأخوذ بالشعور القومي حتى الآن، يريد تذكير القائل بالغابة الملكية الخاصة، والمنادي بمبدأ »من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته« بأن ذريعة »العرق الممتاز« و»الارض القومية« قد اتخذت من هذه الارض تحديدا، »السوديت«، التي ترتسم فوقها الآن الحدود بين جمهورية »تشيكيا« وبين »المانيا« التي كانت »فوق الجميع«، سببا مباشرا للحرب العالمية الثانية.
كذلك فلن يأخذه الاستطراد الى ان »العرق الممتاز« الآخر لمن يدعي انه »شعب الله المختار« قد نجح، اخيرا، في ان يقيم دولة »فوق الجميع«، يحرسها الجميع، ويمنعون اتهامها بالعنصرية التي تفاخر بممارستها علنا، حتى لا تكون حرب عالمية ثالثة… والله أعلم!
هو مجرد مواطن عربي، منكورة عليه هذه الهوية على إطلاقها، جاء في زيارة تمتزج فيها السياحة بالنقاهة بالعلاج الخفيف لأمراض لا شفاء منها.ثم انه، ومع تقديره لهذا العجوز عظيم الحاجبين وكث اللحية المخلد هنا في تمثال من البرونز والنحاس، لم يكن في الماركسية صاحب شأن يذكر، ولا هو أخذ عنها ما يبرر الادعاء اليها فكرا او بالممارسة، بمعزل عن الادعاءات التي جعلت الافكار شيئا من »الموضة« تموه الخارج بغير ان تبدل شيئا في الداخل… وبعد هذا فليس له من »رأس المال« الا قراءاته في الكتاب الذي صار لنحو قرن او يزيد محرك الاحداث في العالم المتقدم. اما عن فعل »رأس المال« فليس له منه الا متابعاته لحركته الواسعة التي تصنع تاريخ عالم اليوم والغد، بقدرتها الهائلة على التأثير والتغيير وإسقاط الانظمة وإقامة الامبراطوريات بغير جيوش وأساطيل، وانما عبر إشارات وأرقام ورموز يحملها الأثير وتطير في الفضاء بغير حدود او قيود فاذا المزدهر مفلس، واذا الثابت يسقط ارضا، واذا المتحكم عن بعد هو صاحب القرار في مصير »الحاكم« والحكم في البلاد التي كانت بعيدة والتي قربها حتى ألغاها منطق »رأس المال« واستثماره التتابعي الذي يخرج الثروة من الثروة والحي من الميت والميت من الحي.
ما لنا وللاقتصاد وأسئلته الصعبة… ولكن ماذا ترى جاء بكارل ماركس الى هنا وأجلسه كتلة من البرونز والنحاس تحت الشمس والمطر والثلج وضوء القمر، فوق هذه القاعدة الصخرية الصلبة والخفيضة على طرف غابة السنديان والسنط واللزاب والشربين والتي بها ممرات عابقة بالهمس للعشاق المشاة، وطرق ضيقة لهواة الدراجات، ومعارج خطرة لهواة المغامرات في قلب الضياع؟!
تقضي اللياقة بأن تبادئه بالتحية، فأنت القادم عليه في مجلسه.. ولكن هل ستباشره، كعربي، بتحية الاسلام، »السلام عليكم«، ام بتحية الماركسية »يا عمال العالم اتحدوا«، أم تكتفي بتحية العصر الاميركي »هاي«؟!.. فلا الاسلام قادر الآن على ان يحفظ للمؤمنين به »السلام«، ولا عمال العالم بقادرين على التوحد، بل ان ما كان لهم من نقابات واتحادات ومجالس وهيئات قد تهاوت جميعا او اندثرت، وصار من الصعب توحيد العمال في مصنع رأسه في ديترويت وضلعه في فرانكفورت وأجنحته في اليابان او كوريا الجنوبية او ماليزيا وذيله في تركيا او في اسرائيل!
لا بأس، لا تحرجه بالسلام، اجلس اليه واترك له الحرية في ان يباشرك الكلام، وبالموضوع الذي يفضله.
عبرت سيارة عليها علم، ثم توقفت أمام مبنى لا يبعد كثيرا عن التمثال الأبكم، وترجل منها قنصل روسيا الاتحادية ودخل المبنى الذي يرفرف على مدخلها علم مثلث الالوان: ابيض، أزرق وأحمر. لم يكن لدى القنصل شعور بالذنب وهو يعطي ظهره، بغير التفاتة، للذي تحت راية أفكاره صارت روسيا ذات يوم امبراطورية عظمى باسم الاتحاد السوفياتي. الماضي مضى، وها هو »القائد المؤسس« لاجئ متحجر في أرض كانت له مرتين، ولم تكن له أبدا.
تذكر العربي: ما زال علم دولة الوحدة العربية التي لم تعمر لأكثر من ثلاث سنوات معتمدا في واحد من »اقليميها«.. فعندما تخلت عنه مصر، محلة »صقر قريش« محل النجمتين الخضراوين استعادته سوريا ملغية مرة اخرى علمها الذي كان يعطي قلبه لنسر صلاح الدين.
خجل العربي من سؤال كارل ماركس عن هذا القنصل للدولة الخارجة من الماركسية وعليها، وعما اذا كان يزوره، ولو بدافع إظهار الاحترام لتاريخ بلاده. لماذا الاحراج؟! من يزور ضريح جمال عبد الناصر في القاهرة، هذه الأيام، فضلا عن ضريح شكري القوتلي المجهول في دمشق؟! من الافضل لرجال التاريخ ان يقيموا فيه فلا يغادروه أبدا! ان هم خرجوا منه حرقتهم شمس فضائح الواقع!
ترى هل اقيم التمثال هنا على الحدود مع المانيا إشارة الى جذور »الجرماني« القديم الذي وجد ان الانتماء الطبقي هو الهوية وليس الانتماء الى الارض، والذي حرضته »يهوديته« ربما على الخروج عليها الى حد اعتبار »الدين أفيون الشعوب«؟! الله اعلم!
لماذا إذن، وبعد سقوط النظام »الماركسي« الذي كان تسلم السلطة ديمقراطيا هنا، في الدولة التي كانت ثنائية القومية، لم يرفع هذا التمثال من مكانه ويُدخل الى احد المتاحف، ان لم تحطمه حشود »الها÷ليين« المنتصرين ديمقراطيا بعد خمسة عقود وبثمن حده الادنى إسقاط النظام وتقسيم الدولة دولتين فقيرتين وديمقراطيتين؟
خاف العربي ان يسأل كارل ماركس عن أسباب انتكاسة الشيوعية فسأله عن أسباب النكسة والتراجع الى حد الضياع عربيا، والغرق في وهدة الانحطاط الشامل.
وخاف ان يسأله السر في انتشار الاعلام الاسرائيلية فوق كل هذه الفنادق المصحات في هذا المصح التشيكي، فيسأله ماركس عن سبب العجز العربي عن مواجهة اسرائيل في الحرب كما في الاقتصاد، في الزراعة كما في الصناعة، في ساحة الرأي العام العالمي كما في ساحات الرأي العام داخل أقطارهم حيث كادت »نخبهم« تتوزع في مراهناتها المستقبلية بين يسار الليكود الشاروني ويمين حزب العمل البيريزي وبالعكس!
لم يكن في الشوارع الا اعلام اسرائيل ودعايات المنتجات الاميركية والاموال السوداء الروس البيض واللحم الطري لنساء الدول التي كانت تشكل الامبراطورية الماركسية المندحرة!
اما ناس هذه البلاد فهم هم على حالهم مع فارق واحد. كان الخوف يجعلهم اتباعا خائفين للسوفيات، وها هو الانبهار العاجز يجعلهم عبيدا للأميركيين!
جاء زوار تجاوزوا سن الكهولة، تأملوا التمثال ثم جلسوا من حوله على المصطبة شبه الدائرية، وقال فصيحهم: لقد غير هذا الفيلسوف العظيم العالم مرتين بعد ان غادره الى مثواه الاخير بسنوات طوال.
كانت نبرة الفخر الالمانية واضحة في خطاب العجوز المتحمس.
في الركن الآخر كانت عجوز اوكرانية تهمس لزوجها الاطرش بأمر الحركة، قم بنا الى براغ فنكون اول من يصل الى القنصلية الاميركية مع الصباح، لعل خدمتنا العسكرية في اسرائيل تفتح لنا باب الجنة عبر المحيط.
ومد العربي يده يتحسس في جيبه جوازه الكندي الجديد!

ربيع جابر: من أين لك كل هذا الصمت المتدفق؟!
مع كل انتاج جديد لربيع جابر أشعر أنه انما يفرض على جمهور قرائه امتحانا في الثقافة العامة، كما انه يتحدانا بأن يطول نفسنا بقدر ما تطول عجلته، وبان نثبت قدرتنا على استيعاب الافكار والدلالات والاستنتاجات بقدر غزارته في طرحها وفي اعادة تشكيلها ليستولد منها حياة جديدة مثالثة مرابعة حتى تتعب يده ولا يتعب خياله المتدفق.
انه لا يكتب، انه نهر ينبجس من قلب احلامه ورؤاه ويهوي شلالات في قلب غابة متوحشة تستعصي على الشمس لكثافة شجرها، يركب الضبع احيانا، ويتعلق بجناح باشق احيانا، ويركب ضفدعا احيانا، يتعلق بأهداب فراشة احيانا، ويمرق من جانبك وانت مبهور، يفحص طاقتك على الاستيعاب فاذا ما تبين له انك قد استغرقت في تواطؤ معه دعاك الى عرس لوط ودخوله ببنيته بعدما استحالت امرأته عمودا من ملح، ثم سحبك الى رحلة التيه بين ممالك إيطاليا القديمة او اخذك مع »يوسف الانكليزي« من عبيه الى الجامعة الاميركية في بيروت ليرميك في لندن، او سحبك من شهوتك الى المزيد من المعرفة في مزيد من العوالم التي يعيد تركيبها او بناءها او استنباطها من خلال المزيد الباهر من القدرة على الاستيعاب والهضم والقدرة على الخلق واستيلاد العوالم الجديدة.
يغرقك ربيع جابر في كتبه المتوالية التوالد في بحر من الاسئلة مستفزة لبلادتك. من اين له الوقت لكل هذه القراءات الصعبة، ثم من أين له الوقت لإبداع كل هذا الانتاج الغزير والمتميز؟!
ترى هل يساعده »أبطاله« الذين »يستولدهم« في النسخ وترجمة الافكار في كلمات؟!
ثم، اذا كان مستغرقا طوال اوقات صحوه في القراءة وأوقات نومه في الكتابة، مستفيدا من قدرات »سيد العتمة«، فمن أين يتوفر له الوقت لملاحظة كل هذه التفاصيل التي تشكل الناس بأخلاقهم ونزواتهم وتصرفاتهم الرصينة والخرقاء، الهينة والمستحيلة، المنطقية والعجائبية التي يقدمون عليها لكي يكتبوا له ومعه رواياته المدوية بالعذابات والطيش والحنين والقليل من الحب والكثير من الرغبات الجموح؟!
انه يدخل مع »شيخ الخلوة« الى »جحيم دانتي« ويخرج مع فؤاد علامة (الاول) ورفاقه الطفار لمواجهة الاتراك في مطهر وادي التيم الرازح تحت جراد لم يعد يجد ما يلتهمه، ثم يتفرغ لتشريح الضفدع الذي كان أميرا خدعه صديقه وملاعبه الوحيد في الشطرنج فخانه مع حبيبته ماريا، لكأن قدره ان تعيش عائلته مسلسل الخيانات، فلا يعرف هو ابن من، من أميه اللتين وطأهما أبوه في البحيرة المقمرة.
»من هي أمي؟
هذه المرة كان الرب يسوع هو الذي جاء اليه في المنام:
أنت قل يا أوفيد… أنا، من هي أمي«؟!
ربيع، انت قل لنا يا ربيع، من أين لك كل هذا الابداع أيها المتدفق كقلم وحشي لا يملك فائضا من الوقت ليهدره في الصمت.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب هو الله. انه الواهب المانح، الباسط، المعطي، الحنون، الغفور، الرحمن الرحيم، الجميل، الكريم، الخالق، المبدع… كانت الأم توصي ابنتها: »احفظيه، انه ربك الصغير«! اما هو فكان يناديها: »معبودتي«… ولم أجد أحدا منهما مشركا.
انه الحب لأنه يعطينا هذه النعمة التي لا تنتهي.

Exit mobile version