طلال سلمان

هوامش

محضر اجتماع علني لجامعة الحرب السرية!
في قاعة دائرية، ومن خلف مهرجان الألوان المشتركة التي تتوزعها اعلام الدول العربية عرضا وطولا، أفقيا وعموديا، يتلاقى الرجال المسؤولون القادمون على عجل لجلسة طارئة يناقشون خلالها ثم يقررون الموقف من حرب الإبادة الاسرائيلية للشعب الفلسطيني.
لا يحتاج الامر اكثر من ساعات قليلة، فثمة ما هو أهم وأخطر من المداولات الفاضحة للعجز، التي ضجرت منها هذه القاعة التي يحكمها بروتوكول صارم، لا يعترف بالأحجام كبرا ًوصغراً، ولكنه يعتمد الأحرف الابجدية بحيث لا يعتب فقير على غني ومحارب على مهادن ومصالح علني على متواطئ سراً، بما يحقق العدالة والمساواة بين الاخوة الاعداء!
كم هي كثيرة الدول العربية كم هو قليل الرجال!
كم هي كثيرة الطائرات الخاصة للوفود الآتية الى الاجتماع الطارئ، وكم هي ضعيفة ومتهالكة ارادة هؤلاء المسؤولين الذين حضروا حتى لا يسجل عليهم غيابهم، او لا يختلس الآخرون فرصة غيابهم فيزايدون عليهم بقرارات لن تنفذ ولكنها قد تربك الحركة او تحد منها!
كم هي كثيرة وخطيرة القرارات التي سوف تتخذ مجددا، او سوف تعاد صياغتها نسخاً عن قرارات قديمة يحفظها الكتبة غيبا وينساها المسؤولون قبل ان ينهوا تلاوتها!
كم هي كثيرة الدول، وكم هي قليلة القدرة على التأثير.
كم هي كثيرة الأعلام والتشريفات والحراسات والسكرتيريا والحاشية والمواكب الخارقة لجدار الصمت، والتي متى وصلت تكشفت عن مزيج من التفاهة والعبث والشكليات المؤذية.
الضجيج والجعجعة للشارع، والأبهة والفخامة للصورة الخادعة، اما حين يجيء وقت القرار فان الأقزام يتطاولون على الذين تعلموا منهم فن الكلام، والصامتون يلوحون بدفاتر شيكاتهم فإذا الكبار أسرى الخرس فهم لا ينطقون!
»من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر«!
ولكن لا حجارة في المبنى الأنيق الذي أقيم على أنقاض ثكنة لعسكر الاحتلال الانكليزي للقاهرة المحروسة.
اما الخطايا فهي أعظم ارتفاعا من أهرام الجيزة الثلاثة.
لم تعد الخيانة وجهة نظر. صارت الوطنية وجهة نظر لأقلية تافهة تعد ثلاثمئة مليون من العرب العاربة والمستعربة.
إسرائيل تحتل القاعة وتضبط النقاش تحت سقف واطئ جدا، وليس على طوال القامة الا ان ينثنوا على جذوعهم وإن بقيت أصواتهم عالية.
اسرائيل على منصة الرئاسة في الجلسة الطارئة التي يفترض ان تناقش اعلان الهجوم المضاد على حرب الإبادة التي تشنها ضد فلسطين أرضا وشعبا وتاريخا.
بين كل عربي وعربي يقبع اسرائيلي مدجج بالاتفاقات، علنية وسرية، له حق الفيتو على أي قرار وكل قرار.
اما السيد الاميركي فهو داخل الصدر والعين والنفس واليد والقلم وعلى الصفحة البيضاء، لا يملك احد ترف ان يتجاهله ولا شجاعة ان يرفض له طلبا.
وأما الفلسطيني فهو متعدد الى حد أنك قد تفتقده، فهو في المصالح علنا وفي المصالح سرا، في المساوم وفي المقاتل، في الرافض وفي القابل، في الاميركي وفي الاسرائيلي وبينهما وخارجهما.
يريد قرار حرب من أجل الصلح المستحيل، ويريد التلويح بقطع العلاقات لكي يستطيع ان يوطد العلاقة مع عدوه السيد، ويريد الضغط على الاسرائيلي لكي يسمعه الاميركي، ويريد اللقاء مع الاميركي ليقبله الاسرائيلي وليسمعه العربي.
… بعد ذلك تغلق القاعة أبوابها على حشد المجتمعين فيها من اجل اتخاذ القرارات »السرية«!

ليلة الشعر
نزلت علينا ليلة الشعر من حالق، وتقطر نداها فأنعشنا وبدد سواد الليل والأخبار والأفكار التي تجيء من القلق وتأخذنا اليه!
لم يكن مهرجانا ولا هي كانت ندوة او مباراة بجوائز، ولم يكن ثمة ما يستنفر الأنانية او عصبية التنافس، فالمقاعد كثيرة ووثيرة، والوعد الذي يضيء القاعة أكيد ولو مرجأ التنفيذ.
لا بأس من الاستطلاع بالسؤال، وليكن التعارف باب الدخول الى النادي الجديد الذي تلمع ملايينه كالبرق في ليلة صيفية: لا هو إنذار فعلي بالمطر، ولا هو نور يسبق الشمس ليبشر بها.
كان المضيف كريما، وكان الضيوف يعتصمون بأدب اللقاء الاول، فيمشون على الحافة الدقيقة لتقاليد مجالسهم مرجئين النميمة الى صباح المقهى.
دار الكلام دورة واسعة حول الثقافة ومنتدياتها، حول »المؤسسات المانحة« ومعاييرها الشخصية غالبا والسياسية احيانا، حول اللغة والمخاطر التي تتهددها، حول الترجمة والتعريب وضرورة تنشيطهما، حول مراكز البحوث وضرورتها، وأخيرا حول جهد السلاطين لاعتقال الشعر وإفراغ الكلمة من مضمونها.
الشعراء في لبنان يعرفون اكثر مما ينبغي، وهم يتجاوزون المناصب والألقاب، فحين ينفتح باب السحر للشعر فكل منهم »عليك أمير المؤمنين أمير«.
قرأ المضيف الشاعر بعضاً من قصائده، معتذراً عما قد يكون فيها من اختلال، لأنها ما تزال قيد التشكيل.
كان لا بد من الرد على القصيدة بأحسن منها… شعرا موزونا ومقفّى، او زجلا مكثف الصور، مشرق اللفظة، ولو صعب فهم اللهجة المحكية، احيانا.
لكن الشعر هو الشعر، وما لا يهزك فصيحا لا تنتبه اليه »عاميا«، فالجرس والإيقاع والصورة تحمل اليك المعنى وتفسر ما غمض من الألفاظ.
فأما أصحاب قصيدة النثر فقد اعتذروا عن عدم التلاوة كونهم لا يحفظون شعرهم، وكان ذلك اعترافا له دلالته.
وأما الشعراء المجددون فقد وجدوا ملجأهم في قصائدهم ذات الوزن والقافية، المهملة في زاوية النسيان الا لمثل مناسبة كهذه.
كان التحفظ ما زال يرف بجناحيه في القاعة المزدحمة بالدواوين المفتوحة بعد على مزيد من النغم والأخيلة المجنحة وطيور الحب التي تعشش في العيون المكشوفة لها الاحلام.
كانوا بضعة عشر شاعرا وناقدا، ممن يختصمون ألف مرة في اليوم ويتصالحون مرة كل مهرجان، تحت خيمة العصبية الكيانية او تحت راية التفعيلة.
لكن الشعر جعلهم أنقى مما نعرفهم في صورهم اليومية المبتذلة، وفي مناكفاتهم التي لا تنتهي، وهي جميعا خارج الشعر وعلى حسابه.
حين غادرنا المنزل الذي يطوي تحت جناحيه البحر والليل وفرح الإبداع، كنا منتشين كمن استحم بالموسيقى والصوت الذي اعاد اليه حبيبه.
اما مضيفنا الذي لا ينام قبل ان يفتح الباب للفجر فقد غمس قلمه بالليل وهمّ بأن يكمل قصيدته البتراء.

بركة النسيان
لم تكن جميلة، ولم يكن ثملا، ولم تكن تلك الليلة الصيفية مختلفة عن سابقاتها في حرها او في مستوى الرطوبة، ومع ذلك فقد وجد نفسه يندفع خلف نداء الغواية كالمخدر او المسحور.
لا يهم الاسم، وإن طلبته الحشرية والرغبة في الحد الادنى من الألفة، تسهيلا للتوغل في ذلك الحوار العبثي الذي مهمته فتح باب الليل او إغلاقه.
اما مستوى الجمال فيتوقف على كمية الشراب وعلى دفء المجلس، ثم على وجهة الاستعمال.
لم تكن بحاجة الى الإلحاح في دعوتها الى الرقص، كزميلتها التي ككل المبتدئات ادعت انها لا تعرف كيف تهز وسطها، ثم هزت القاعة حين قامت ترقص بغير طلب.
سرى الخدر في المجلس الذي تدوي في ارجائه طبول الموسيقى التي تتوقف عند مستوى الأرداف وتعجز عن الوصول الى الآذان فضلا عن الوجدان… ولكن من هو بحاجة الى وجدانه الآن؟!
ارتجت الأرداف فاهتزت الرؤوس طرباً وفرغت الكؤوس فملئت مجددا وغب الراغب في الغياب حتى لم يعد يرى الا ما يتمايل أمامه حاجبا كل ما عداه.
لا خوف مع السكارى فهم من أهل بركة النسيان، ولا ضرورة في تيه النشوة الى الاسماء. للجسد الاسماء جميعا، اما المتعب او من يسقط في الحلبة فيستعيد اسمه لكي يرتديه وينصرف.
لم يكن لها جسد فأعارها بعض جسده ثم تدثر باسمها المستعار ونام.
وحين صحا مشى عاريا الى الرصيف حيث تركت له اسمه فارتداه ورسم على وجهه ملامح الصحو قبل ان يسحب الشمس من فراشها لكي تنير له طريق العودة الى جلده.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا يقاس الحب بالسنين. انه من يعطي العمر معناه، ان جاء في زمن الكهولة اعادك الى الفتوة، وان جاء في مطلع الشباب جعلك في حكمة الشيوخ. من يخلط بين الحب والمراهقة يضيِّع عمره هدرا، اما المحب فإنه يضيف الى السنين المعنى، فلا تعود مجرد أرقام بل تصير هي الحياة.

Exit mobile version