عن العلم والعلماء العرب في التراث.. وعلاقتنا بالمستقبل
في كتبنا المدرسية، كما في الشائع من المقولات التي نتداولها وكأنها مسلمات أن العربي شاعر فحسب، وأنه لم يتقن من الصنائع الا التجارة، وأنه صحراوي لا يألف المدن ولا العمران.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإننا ندرس عن شعراء الجاهلية أكثر مما ندرس عن تاريخ العلم والعلماء من العرب على اختلاف مراحل تطورهم… بل إن المكتوب عن هؤلاء العلماء مصاغ باللهجة ذاتها: فثمة نبرة فخر ومفاخرة من دون تقديم رصين للانجاز وأثره في او على الحياة الانسانية، وثمة فجوات هائلة من الظلام والجهل بما كان تردم بادعاءات متسرعة لا نحتاجها لتوكيد الاهلية ولا هي تنفعنا في إثبات الاسهام لأنها مطلقة وتتصل بأشخاص لا بمناهج، وتمتدح الحكام أكثر مما تعرفنا بالعلماء.
ذلك في الماضي، اما في الحاضر فاننا نستورد العلم ونصدر العلماء. نهدي شبابنا، والمجلين منهم على وجه الخصوص، الى الدول الاكثر تقدما، او هي تستقطبهم فتعريهم وتستبقيهم في جامعاتها ومراكز الأبحاث والمعاهد المتخصصة فيها، بينما نكتفي بالتحسر على خسارتهم ثم نتسابق الى شراء الابتكارات والمنتجات التي ربما يكونون قد أسهموا في انتاجها او تحسينها بالاضافة او بالحذف ونرتاح الى واقعنا: لماذا التعب طالما اننا نملك ما نشتري به العلم والعلماء؟!
وأستأذن في رواية واقعتين عربيتين كنت قريبا من مسرحهما فعرفت عنهما التفاصيل التي سأسليكم بها الآن:
في احدى الثانويات، في بلد عربي نفطي، كان أحد الطلبة يأتي متأخرا دائما، ويدخل الصف كمن يقتحم خط الأعداء على الجبهة، ثم ينصرف في اي وقت وبغير استئذان.
مرة، طلبه مدير الثانوية، وهو رجل طيب وصاحب تجربة عريضة وحاول ان ينصحه، وان يغريه بطلب العلم ليضمن مستقبله، فيكون طبيبا او مهندسا او استاذا في الجامعة الخ… على انه أسقط في يده عندما أجابه الطالب الطائش:
ولماذا التعب والسهر وهدر الوقت طالما أنني أستطيع استئجار أفضل طبيب واستخدام أفضل مهندس وتوظيف أحسن عالم بفلوسي؟
وفي بلد عربي نفطي آخر، أظهر الحاكم استجابة لفكرة كان أطلقها أديبنا الكبير الراحل توفيق الحكيم لتحقيق حلم مدينة العلماء.
نشطت اجهزة الدولة، بناء لتعليمات الحاكم، في العمل على تحقيق الفكرة الساحرة، وأوفدت من يتصل بالعلماء العرب المسترهنين في الغرب الاوروبي والاميركي، ورسمت المخططات ورصدت الميزانيات وصرفت تذاكر السفر بالمئات وحجزت الفنادق الفخمة، وأقيمت المهرجانات الخطابية تعظيما للإنجاز وأسبغت على الحاكم صفات مباركات وأطلقت عليه ألقاب لم يحظ بمثلها الرسل وصناع التاريخ.
هل أحدثكم عما جرى بعد ذلك؟
أفترض أن معظمكم يعرف بالمعايشة او بالسمع.
فلقد وقع خلط عجيب بين العلماء والأدعياء، بين الانتهازيين والمجتهدين، بين النصابين وباعة الألقاب العلمية وبين المبدعين.
ثم وقع تفريق فظ ومهين بين الاجانب وبين حملة الجوازات الاجنبية المتحدرين من أصل عربي، وبين العرب العاربة فعرضت على الأولين رواتب تساوي أضعاف ما عرض على الآخرين الذين عوملوا بالامتهان المتعمد في معاملة المواطنين.
وكان طبيعيا ان ينتهي الحلم كابوسا، وان تجهض فكرة ممتازة كان يمكن ان تسد ثغرة وان تفتح في الليل كوة للضوء.
* * *
بعيدا عن الحكام ومباذلهم وأساليب التدريس ومدى تقدمها، يمكن إبداء بعض الملاحظات السريعة حول تاريخ العلوم عند العرب.
أولا: لم يخش العرب العلوم، وخشونة البداوة لم تمنع عنهم آليات الاتصال بالحضارة. والدين الجديد، حثهم على ذلك فأقبلوا على العلوم ترجمة ونقلا، ولكن وفق ما تحدده حاجاتهم المادية والعقلية. وأغلب الظن ان انتقائيتهم للكتب المترجمة، كانت نتيجة إلحاح الحاجات المستجدة لديهم في البلدان التي فتحوها.
ثانيا: لم يكتف العرب بنقل العلوم، بل أنتجوا معارف وعلوما تضاف الى ذخيرة العلم القديم، وأنتجوا علوما باللغة العربية، حتى ان المؤلف كلود كاهن، مؤرخ العرب والشعوب الاسلامية يعجب في المجلد الاول من تاريخه، لقدرة المترجمين على الملاءمة بين لغتين تختلفان من الناحية البنيوية اختلافا كبيرا في وقت لم تكن فيه المعاجم تداولت بعد.
ثالثا: حظيت حركة الترجمة والنقل بالدعم من قبل عدد من الخلفاء والتجار والميسورين، وانتظمت آليات نقل العلم وانتاج المعرفة في بيوت و»معاهد«، وعلى هذا النحو تكونت تراكمات معرفية وعلمية، وانتظمت وفق أنماط انتاج، لا تقل مهارة عما ابتكره الاوروبيون في عصر النهضة.
رابعا: أدى العلماء العرب وظيفتين أساسيتين: الاولى برزت في الابتكار والابداع في شتى أبواب العلوم، والثانية في توظيف هذه الاكتشافات. اي إخراج العلم من نطاقه النظري الى ميدانه التطبيقي. فالطب لم يعد طبيبا يداوي بل »بيمارستانات« متخصصة، تشبه المستشفيات الجامعية اليوم. اضافة الى ما تقدمه من تركيب للعقاقير، واكتشاف للجديد.
أربعة استنتاجات. أين نحن منها اليوم؟
نحن اليوم، نمارس سياسة الأبواب المفتوحة، لكل أنواع العلوم الوافدة، من دون مشاركة في انتاجها او في توظيفها. العلم عندنا معلب من الخارج نستورده كأي سلعة جاهزة. ومن ثم نمارس عليه فنون الشطارة لبيعه في الجامعات والمعاهد والمدارس من دون اي حث على الاكتشافات والابداع.
وليس صحيحا اننا نستهلك العلوم المتقدمة. وقد يكون الأصح، ان هذه العلوم وتقنياتها، هي التي تستهلكنا وتستنفدنا. ودورنا هو دور المتعلم والمتلقي… وقلما ننتج المعرفة وننتج العلم. واذا تيسر ذلك لمجموعة، فأفقها ليس في الوطن العربي، بل في الدول المتقدمة.
وقد استفحلت تجارة العلم في العقود الاخيرة، وتحولت المدارس والمعاهد الى وسائط تعليم تشوبها مخلفات البيئة وإرث الماضي وأمراض الحاضر. واكتفى المعنيون، من رسميين وذوي اختصاص، بدق ناقوس الخطر، حيث أصبحت المعاهد تخرّج عاطلين عن العمل… وعن الانتاج… او عن اعادة انتاج العلم.
كان العلم مادة تنويرية للخروج من التخلف، مع دعوات رفاعة الطهطاوي وطه حسين وآخرين في مصر. ومع بطرس البستاني وآخرين في لبنان. فهل حصل ذلك؟ كم تبلغ نسبة الأمية؟ هل ازداد العرب فقرا أم غنى؟ كيف توزع الثروة؟ كم عدد العاطلين عن العمل؟ وأي نوع من انواع العمل يمارسون وما دورهم في تصدير العلم؟
ثم.. ما دور الجامعات التي نبتت وتنبت كالطفيليات في أروقة الطوائف والمذاهب، والحديث هنا عن لبنان خاصة؟ وهل ما زالت الجامعة إطارا لابتكار المعارف. ام ان هذا الدور اليوم في دول العالم قد انتقل الى مراكز البحث العلمي؟
أغلب الظن ان العالم يتجه اليوم، الى تعميم مراكز البحث وقد يأتي وقت ليس بعيدا، تتعرض فيه جامعات التدريس، من اجل التدريس لصالح »الذكاء الانساني« الموظف في تأسيس معارف جديدة وتقنيات جديدة، في كافة الميادين وما يمكن ان تسفر عنه ثورة المعلوماتية.
تاريخ العلوم عند العرب ليس كتبا صالحة للتدريس، بل هو نماذج وأمثولات، غابت عن أذهاننا، التي فضلت سهولة نقل العلم واستنساخه، بدل ال»تعب« لإنضاجه. فأمة بلا مراكز بحوث، وبلا مختبرات، يتحول علماؤها الى »كتاب مقالات علمية«، كما كانت الحال، يوم نهض يعقوب صروف على »المقتطف«، ليعرّف العرب، بآخر ما أنتجه الغرب من علوم.
(مداخلة القيت في اللقاء السوري اللبناني حول البحث في التراث العلمي)
خواطر درويشية
يدخلك محمود درويش نعيم الشعر حتى وهو يتحدث عن توافه العادات اليومية، او يخوض غمار التحليل السياسي لوجوه الصراع التاريخي المعقد مع الصهيونية وكيانها الاسرائيلي.
تنتبه فجأة الى أنك صرت أحرص على اختيار كلماتك بدقة. انه يفرض عليك ايضا ان ترتقي بلغتك الى مستواه.
الأهم أنك تنتبه ايضا الى ان اللغة بين أسلحتك ايضا، باعتبارها حاضنة هويتك وحافظة تراثك، وانك ان أنت أهملتها او »صدقت« ما تتهم به من انها متخلفة عن العصر وقاصرة عن استيعاب العلم وعاجزة عن توطيد صلتك بالعالم فانك انما تخسر ما هو أهم من السلاح: تخسر بعض أهليتك لتكون جديرا بحقوقك الطبيعية ومنها حقك بأرضك.
على هامش النقاش الممتع مع وجدان فلسطين ومنشدها الأكبر، يفرض السؤال نفسه: لماذا يتناقص الشعر بقدر ما يتزايد عدد من يحملون ألقاب الشعراء؟!
هل اغتالت الذاتية المفرطة الشعر وعزلت الشعراء عن جمهورهم الذي ما زال يعشق المعنى واللفظة الجميلة والصورة الباهرة؟
هل تفرقنا الى ذوات منفصلة الى حد التضاد، بدل ان نتلاقى عبر شعرائنا حول الحلم المشترك والهم المشترك وعشق الحياة في أرضنا ومع أرضنا؟!
لابسة الليل
التحية بالانكليزية، والموعد بدوي، والملابس لإبراز عناوين المفاتن وليست »للستر« كما يقولون في الارياف التي جاءت منها، لكن الليل ستار العيوب وان كان فضاح النوايا.
قال ذكر لذكر: النساء قليلات،
قالت المرأة في سرها: الحمد لله ان الرجال كثيرون.
جالت ببصرها بينهم فغضوا أبصارهم الا »طالب القرب« فقد غمز لها بعينه اليمنى ليهدئ من روعها وليوحي لها ان القوم الى انصراف.
وصلت الرسالة الى الجميع فقاموا فاذا هي تهتف بهم:
أتتركونني لليل؟!
قال قائلهم: أوليست العلاقة بينكما عائلية؟!
خرجوا يلفهم الشعور بالذنب، بينما كانت ترتدي الليل ليحجبها عن العيون التي خلفوها وراءهم جاحظة بالرغبات.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
للحب طاقة سحرية، تعيد تشكيل الناس، فتضفي على من تعتبره قبيحا مسحة من الجمال لا ينتبه اليها الا العاشق. لولا عين المحب لظلت نصف البنات في خانة العوانس. حبيبي يقول ان الحب هو مصدر الجمال وهو منشئ الحياة، واننا ونحن في أفيائه لا نرى للقبح أثرا.