طلال سلمان

هوامش

بسذاجة المواطن: السلطة تنفي الدولة
ليس أفضل من السذاجة في معالجة المسائل المعقدة.
وبسذاجة المواطن الذي عاش عمره خارج السلطة يبحث عن الدولة ليكون لها وفيها، اكتفي هنا ببعض الذكريات الشخصية التي أكدت للفتى الذي عاش صباه الاول خارج قريته وبيئته الاهلية، ان السلطة كانت دائما في هذا البلد الأمين على حساب الدولة وليس تعبيرا عن وجودها وعن دورها كناظم وكافل وضامن للعدل الاجتماعي والديمقراطية السياسية.
ولا مرة كانت السلطة تؤكد الدولة. في الغالب الأعم كان أهل السلطة بممارساتهم ينفون الدولة. وفي كل الحالات كانوا يتجاوزونها بحيث تصير شكلية ورمزية وان بقيت ضرورية لشرعنة ممارساتهم ولتوفر لهم مسرح النفوذ والمنافع… لهم خيرها وشرهم عليها.
كنت طفلا، بعد، بالكاد أعي ما حولي، حين شهدت بأم العين واقعة أعرف اليوم أنها تشكل دليلا قاطعا على ان السلطة قد تكون السبب المباشر في تدمير الدولة كفكرة ثم كمؤسسات.
كان والدي دركيا في فصيلة عين زحلتا في مثل هذه الايام من العام 1947.
على امتداد ساعات النهار كنت قد استمتعت بالفرجة الاولى على العملية الانتخابية… كيف يحتشد الناس أمام المخفر، وكيف تسعى كل حزبية لاستقطاب الناخبين الحائرين، وكيف يتم استغفال الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، وكيف تسخر مهابة السلطة وجندها لتزكية لائحتها والتضييق على لائحة الخصم.
كيف يعتقل بعض الناشطين من جماعة المعارضة بتلفيق تهم تكفي لتعطيل حركتهم، وكيف يستبيح جماعة لائحة السلطة الحرمات جميعا، تحت حراسة بنادق السلطة، من أجل ضمان فوز يعادل التزكية للائحة التي تسمى لائحة الدولة… والدولة بندقية وصندوقة بلا قعر لناخبين مستنفرين بالمصلحة كما بالخصومة التقليدية بين العائلات المتنافسة.
وبرغم ان ساعات الإثارة الطويلة كانت قد أنهكت الفتى اليافع، فقد أيقظتني جلبة في البيت مع خيوط الفجر الاولى… ورأيت مشهدا لا يُنسى: مجموعة من رجال الدرك اجتمعوا من حول طاولة المطبخ في منزلنا الصغير، يرفعون من صناديق الاقتراع مظاريف مختومة بالشمع الأحمر فيبدلون ما في داخلها من أصوات المقترعين للمعارضين الخارجين على السلطة، بأوراق لمرشحي الدولة.
كان عليّ أن أنتظر سنوات لأفهم ان ذلك كان فعل التزوير الرسمي، وان تلك كانت انتخابات 25 أيار 1947، التي كان ضروريا أن يتم ترتيب نتائجها ليمكن تمرير التجديد للشيخ بشارة الخوري ولاية جديدة في رئاسة الجمهورية.
كان عمر الاستقلال أقل من أربع سنوات، أما دولته فقد تعرضت لنوبة قلبية شديدة أظنها لما تشف منها تماما.
بعد حين صار الوالد عريفا في الدرك ونقل الى رشميا، مسقط رأس الشيخ بشارة الخوري، نظريا على الأقل.
في ساحة رشميا، لفتني مشهد آخر يؤكد هزيمة الدولة أمام السلطة: كانت السيارات نادرة، في ذلك الزمن، أما سيارات الاجرة فمحدودة جدا ولا يحظى بنعمة امتلاك اللوحة الحمراء العمومية، الا أهل الحظوة من رجال السلطة.
لكن سيارتين على الاقل كانتا تنقلان الركاب بين رشميا وعاليه، واحيانا بين رشميا وبيروت. ولاحظت ان السيارتين بلا لوحات من أي نوع.
وحين لفتّ نظر الدورية، زجرني والدي بنظرة لوم غطى بها حرجه، بينما همس أحد الدركيين في أذني: الا ترى صورة السلطان سليم على واجهة السيارة واخرى على زجاجها الخلفي؟! من يجرؤ على تنظيم محضر ضبط بالسلطان؟!
كان عليّ ان انتظر سنوات لأشهد »خلع« الشيخ بشارة.
كان الوالد قد صار رئيسا لمخفر بعقلين… وأخذتني حماسة الفتى الى مهرجان دير القمر، والى الحماسة للجبهة الوطنية الاشتراكية التي كانت تقود المعارضة، والى الاعجاب بشخصية قائديها الحليفين اللدودين كميل شمعون وكمال جنبلاط.
ذات يوم من أيلول 1952 عرفنا ان الشيخ بشارة قد استقال تحت ضغط الاضراب الشعبي العام… وأخذتني مواكب الفرح الى بيت الدين، لأشهد ذلك المنظر النادر: كان على المدخل الاعلى للطريق المؤدية الى قصر الامير بشير في بيت الدين، الذي كان يستخدم مقرا صيفيا للرئاسة، تمثال نصفي من البرونز للشيخ بشارة الخوري.
في ذلك اليوم ألبست الجماهير التمثال طنجرة على رأسه، وجعلته يمسك بيده عصا مكنسة، قبل ان تنزعه عن قاعدته وترميه في غياهب النسيان.
بعد سنة تقريبا قصدت المختارة، حيث كان المدرسون في مدرستها الرسمية الابتدائية وعلى رأسهم الفرسان الثلاثة من آل عابد عارف والمرحوم حليم والفارس فوزي شفاه الله، قد اجتهدوا لجعلها تكميلية بقوة الأمر الواقع واجتهادهم وسهر الليالي.
على ان المشروع تلقى ضربة بعد شهرين او ثلاثة إذ عمد كميل شمعون وفي خطوة انتقامية الى نقل المعلمين العاملين في مدرسة المختارة الرسمية، تدليلا على مطاردة حليفه السابق خصمه الجديد حتى عقر داره في المختارة.
لكل عهد سلطانه…
و»السلطان« يكاد يختزل في شخصه الدولة،
ولأن المؤسسات شكلية، منذ الاستقلال وحتى اليوم، فان السلاطين تمكنوا من اختزال الدولة في أشخاصهم… ولم يتعرف اللبنانيون الى الدولة الا في لحظات قدرية محدودة، لعل بينها بدايات عهد فؤاد شهاب، وقبل ان تستخدم المحاولة الانقلابية التي شرع بها الحزب القومي كذريعة لاستيلاء المخابرات العسكرية على السلطة وتنصيب نفسها سلطانا جديدا ومطلقا.
* * *
في البداية، ونتيجة لصفقة التسوية التي حملت اسم الاستقلال، أعطي رئيس الجمهورية السلطة كلها، فاختزل الدولة بشخصه وبمن اختار او أراد من أشقائه او معاونيه.
وعلى امتداد عهود ما قبل الطائف تجمعت أسباب الشكوى من احتكار السلطة ومغانمها، حتى كان لا بد من الانفجار… وبسبب التلوين الطائفي لهذا الاحتكار فقد دفعت انتفاضات الاعتراض ضد احتكار السلطة بالطابع الطائفي، مما سهل بالتالي انحراف العمل من ثورة للتصحيح ورفع الظلم الى مشروع حرب أهلية لعلها ما زالت متواصلة بشكل او بآخر حتى اليوم.
* * *
المسكوت عنه من أسس السلطة انها كانت على الدوام تقريبا شخصية، فئوية، خارجة على المؤسسات بل ومعادية لها، لا تتأكد الا بقدر ما تلغي الدولة.
لا الرئاسة الاولى كانت مرجعا يتسامى فوق الخصومات والاحزاب والطوائف،
ولا الحكومة كانت اتحادا وطنيا بين الأطراف،
ولا المعارضة كانت ذات برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي، يضع قاعدة سياسية للصراع على السلطة،
ولا المجلس النيابي كان او هو الآن يعكس تمثيلا صحيحا للقوى والتيارات والاتجاهات التي تعبر عن الرأي العام، او تقترب من مثل هذا الهدف.
ومن باب أولى ان مثل هذه السلطة لا يمكن ان تسمح للقضاء بأن يكون مستقلا يمارس قضاته مهماتهم بما يمليهم عليه الضمير وبغير خوف من السلطان.
* من مداخلة في ندوة لاتحاد الكتاب اللبنانيين حول »المسكوت عنه من أسس الدولة والسلطة في لبنان«

بول شاوول: عودة المسافر الى الشعر
أخيرا أخرجت القواقع سرها، وكتب الموج بحروفه الزرقاء حكاية رحلتي الشتاء والصيف، فاذا هما »كشهر طويل من الوله والولع والخبل والشبق والالوهة والقداسة والجحيم والرماد والقهر والاستنفار، والحقد والحنان، والقسوة والذل«.
انكشف لعيوننا »اللغز القبرصي« العصي، وانسابت موسيقاه سيمفونية متوحشة النغم، فيها صخب العواصف الصحراوية، وفيها انتصارات جبال الثلج القطبية، وفيها تلاطم كل تلك العوالم الخفية التي تنطوي عليها هدأة بول شاوول المسكون بالجن الازرق والاحمر والاخضر، والذي طوى اعلام الثورة والرفض في صدره لكنه لم يستطع ان يموّهها او يحجبها عن اثنين: قلمه وصوته.
فعلى امتداد سنوات من الزمالة حفظنا عن بول شاوول مجموعة من العادات والاقوال والتصرفات التي قد تدل على بعضه، ولكنها لا تكشفه كله، ربما لان الشعر يختار مواقيته وينتقي جمهوره ولا يرتضي ان يكون فسحة راحة بين تعبين.
كل ما عرفناه عن بول شاوول ان فيه شيئا من الجمل، ليس فقط بصبره، وانما بقدرته على اختزان العواطف والمشاعر، والتقوت بها للزمن الفاصل بين قفزتين عبر البحر الى الزورق ذي الشراع المتلطي عند بعض الشواطئ القبرصية في انتظار الريح الآتية من بيروت لتحمله الى ما خلف الغيب والوعي والكلمات المكسورة.
كان بول يسافر الى الشعر.. يسافر الى حيث يلتقي بذاته:
»لم تعد الشمس عالية كثيرا عندما رحت تقيس بعينيك ذلك البدن الملتم على خباياه ومأثوراته وتينك اليدين الصامتتين المضمومتين على بذرة العدم الخلاب«.
هذا المتنكر في بيروت تحت صمته المكفهر، هذا المترهب الحابس نفسه في قالب ضيق، الساخر، المعترض، الرافض، الذي يكاد لا يعجبه احد او شيء، المتوحد الذي لا يكاد يعترف بأحد، المتكبر، المتجبر… لا يخرج من محبسه الا هناك:
»راميات من وراء الدغل ما يقذف الديكة والحمام الى مياهها المرتعشة
»راميات من وراء الدغل ما يوحش العتبات ويوقف الاجسام العالية في قمة جذوعها.
»عصيات الرغبة والقبول يستلقين في حجراتهن، بلا سؤال، لحظات سابقة من عشبهن الجاهد«.
كان يذهب إذن ليفجر نفسه شعرا هذا الذي كان صوته في بيروت، وظله يطارده في الشوارع، يتوزعه المقهى والمكتب والفراغ وسيكاره شبه المطفأ:
»وكأنه لم يولد من شيء. كأنه ولد من الهواء. كأنه لم يعرف. كأنه تذكر. كما يصير البرق شجرة تدوم. لما تصير الشجرة برقا لا يدوم«.
ها قد وصلنا الدوي. ها قد تلاقى الصوت والصدى، الاصل والظل. ها قد لعلع الشعر:
»شموس عديدة ترضي ظلالها الباردة عليك.
جدران كثيفة تذوب في شفتيك. تفت على جلدك.
والغرفة بيضاء، باهتة في ذلك البياض الجارح الثقيل«.
اليوم فهمنا بعضا من اسرار قبرص الشاوولية وعرفنا مكمن الشعر الذي يقصده بول ليفرغ شحنات حزن العمر والخيبة وليمتلئ بفرح الطفولة الجديدة التي تنتثر مثل كعك العيد على الفقراء الذين يتسولون كلمة حب.
بول شاوول: اكثر من رحلاتك البحرية. أعطنا بعضا من شهرك الطويل من العشق!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
وضعني حبيبي على شفاه الناس جميعا. جعلني أغنية.
وحين قرأ خوفي في عيوني من ان ينكشف مأوانا ومصدر الامان، طمأنني حبيبي فقال لي: الحب مثل الشعر، حمايته في انتشاره.

Exit mobile version