26 مرة 13 نيسان: آن أن تشيخ الأحقاد!
لا مجال لأن تنسى جراحك الغائرة. لقد صارت بعض وجهك.
لا مجال لأن تحمل أحقادك، عبر السنين، وتُثقل بها حياتك، كمن يجلس فوق لغم، خائفا من أن يبقى فوقه، خائفا من أن يبتعد عنه فيلحقه الانفجار.
آن أن يشيخ الحقد، بعد ربع قرن، وأن يصالح الكفُّ الذراع. آن أن تخرج من دائرة الحصار وأن تستعيد علاقتك بالشمس والوردة، وأن تحمل هدية إلى الحفيد.
ها قد جُرفت البيوت المبقورة بطونها بقذائف الأغراض والمصالح المصفّحة بالغرائز، واختفت المتاريس التي قتلت أطياف الذين كانوا سيصيرون بعض ملامح الغد.
دفن القتلى القتلى، واقترع القتلة مع القتلة على ثياب ضحاياهم فتوزعوها، واقتسموا الأرض والبحر والسماء… لكنهم ما زالوا يخافون من قبضة ذلك العجوز الذي رأى فما سكت، وذلك الفتى الذي لا يخفي اليوم ازدراءه لألقابهم الفخمة التي تفضح صغارتهم.
* * *
لطالما طاردك الموت وطاردتَ حياة المصادفة. لطالما حاصرك القصف في زاويتك الموحشة، تتأمل نفسك، وإنسانيتك تتهاوى، وأنت تتكور وتداري خوفك بالاندفاع للتوحد مع الخائفين الآخرين.
لطالما حاصرك الدوي في خانة العدم، حتى إذا ما دوت الفجيعة بصرخة الوجع أدركتَ أن الحياة مستمرة، فعاد إليك شيء من الفرح السادي بأنك لست بين ضحايا اللحظة الفائتة… ولربما أخذتك هستيريا الضحك وأنت ترفع الأشلاء وتنزف روحك فوقها.
لطالما انتبهتَ، والحصار يُطبق عليك، بأن وحشا ينمو في داخلك، وأن هواءً فاسداً يزحف على مشاعرك فيصحّرها، فهربتَ إلى الموسيقى وإلى الشعر في انتظار أن يتدخل الحب لإنقاذك.
* * *
ليس أمرّ من أن تنشب الحرب في صدرك.
ما الحرب الأهلية؟ تلك التي لا يقتل فيها الأهل غير الأهل.
تلك التي تنعدم فيها البراءة، ويدخل الشك قلب الأم، وتتهاوى القيم والمبادئ والمثل تحت جزمة المقنّع الذي يتاجر بالأعضاء البشرية.
تظن العدو بعيدا فتلفحك أنفاسه وهو يتقدم منك وبعض ملامحك فوق صفحة وجهه المعفّر بالخطايا.
كم العدد اليوم؟! لم تعد للأرقام صورة البشر. أشطب من خانة الأحياء عدداً، أضفه إلى الخانة الأخرى يستوِ ميزان الحساب صحيحا!
لا مجال للترف: من التراب وإلى التراب تعود، ولا يهم موقع التراب.
وصندوق السيارة يصلح سجنا، ويصلح طاولة للتفاوض على الفدية، كما قد يصلح قبرا لمن لم تعرف حتى اسمه، ولا اعتنيت بأن تسمع شيئا من حكايته.
* * *
»إنهم يمطروننا بالموت الأزرق، فلنمطرهم بالموت الأصفر«.
… وأنت ضحية الموتين.
لطالما أنكر المواطن نفسه ليعيش. لطالما ترك التزييف ينهشه حتى لا يغدو ضحية إضافية. عندما يكمن الموت في الحقيقة فلا مانع من أن تأخذ الحقيقة إجازة قصيرة.
للحياة طرقها الخاصة عبر حقول الموت، أو عبر أرض النسيان التي ليس فيها أثر للحياة. تخادع القتلةَ بأن تمر من تحت عيونهم مباشرة، أو تعبر من خلال أنوفهم، أو تكون أبرع فتمرق بين الرصاصتين.
* * *
من قتل زهر اللوز؟! من اغتال شجرة البيلسان؟
من أخذ مني حبيبي وأعطاني إفادة بأنني صالح للحياة؟
من أحرق الياسمينة، ونثر دمها في الهواء فدار نعمان يبحث عن شقائقه، أما الخزامى فقد أخفت نفسها في نهر دموعها، وعندما مر تيس ماعز أجفله الدوي تصدت له فزجرها ولسان حاله يقول: أموت بجوعي ولا تقتلني شراهة هذا الذي يطارد الحياة.
وقالت سحابة لقبرة: أتعيريني جناحك؟!
وهدلت حمامة فنهق بها الحمار: ألم تتعبي من نثر النذير بالموت؟! لقد نحتِ على كل الذين سيموتون، كفى يرحمك الله وجارك الذي كان وما يزال أولى منك بالدمع.
أما الجدة التي تقرأ الزمان فالتفتت الى أبنائها وزمجرت: أعطيتكم للحياة، فلماذا ترمون أحلامكم للخنازير.
***
ليس بينكم بريء. كلكم باع الدم واشتراه.
كلكم ترك لسانه خارج قلبه، ورمى قلبه خارج عقله، ثم جلس يسامر الليل ويسقيه حتى يثمله فما زاد إلا صحواً، وحين أطل الفجر أغمض عينيه حتى لا يرى النور. سلام على الأبرياء.
***
ها هو 13 نيسان السادس والعشرون يأتينا ونحن لمّا نغادر مناخه تماما. لكأننا ألفنا معايشة ما نكره، أو لكأننا بتنا نكره أنفسنا، ونندفع نحو تعذيب الذات متلذذين بأننا قد تجاوزنا الخوف ألف مرة، وأننا سنتجاوزه ألفاً أخرى.
شيّعنا القضية والضحايا، لكن الموت باق يجوس في الطرقات وفي الصدور.
هربنا بأطفالنا إلى أقصى الأرض، وإلى أعمق الحفر في الأرض، وإلى أعلى الذرى في الأرض. لكننا أخذنا مع الخوف البغض، وها هم يتقلبون بين العلتين، وكلتاهما مرّة.
خلال جنون الهرب نسينا أن نأخذ معنا الأرض… ولأننا عشنا في كل أرض، وفي أي أرض، لم يعد للأرض معنى.
كان علينا أن ندفع مزيدا من الدم لكي نستعيد احترام الأرض لنا.
كان علينا أن نعاني مرارة الانقسام إلى حد التقاتل لكي نكتشف من جديد أن الإنسان بأرضه، وأن الإنسان بغير أرض بعيد عن الاكتمال، وبعيد عن سلامة الحس.
* * *
26 مرة عبَر بنا 13 نيسان وعبرناه. لم نتعلم ما يكفي بعد.
لم نتعلم أن الوحدة هي المانع الحقيقي للحرب، وأننا لكي نتوحد يجب أن نتنازل عن بعض كبرياء الخطأ، وعن بعض عنجهية الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة.
نحن نصفان، لا اكتمال لواحدنا من دون الآخر… فكيف أهجم عليك بالساطور لأقتل نفسي فيك؟!
الأنانية تقتل صاحبها أولاً.
بين الأنانية والعنصرية صلة نسب.
أقتل عنصريتك تربحْ وطنك، والعكس صحيح.
وما دمتَ تعيش بالمصادفات فلماذا تسعى إلى الموت قاصداً؟!
مثوى الظلال
ضاق بهما النهار ولم يتسع لهما الليل. قالت تحرضه: ألا تعرف مكاناً لا تصله الشمس لنختلس عناقاً في بعض الحنايا التي لا تطالها العيون؟!
دار يسأل عن مثوى الظلال، فدلوه على باب أسود لمكمن أحمر المصباح على شحوب، يمكن للمتلهف فيه ان يعلي صوته بغير خوف من ان يسمعه الوشاة او يفسده الحساد من »خاربي اللذات«.
عندما صارا شبحين داخل الكهف الذي استعار اسمه من الجحيم، جاءهما شبح خادم المتعة الذي تقرأ عيناه الوجوه بغير ضوء، فتقدمهما بابتسامة قصيرة تدل على انه عرف فيهما قلة الحيلة، الى ركن في واحدة من فجوات الليل المصطنع على عجل.
تحاضنا في هدأة الطمأنينة، وأخلى الهمس المساحة للهاث اللهفة المحبوسة في الصدور منذ حين، بينما كان الخادم حسَنَ التدريب يأتيهما بما يرسم من حولهما المدار ويرسم ضمنه خطوط الطول والعرض المفترضة.
الكلام ترف نهاري لا يطيقانه في الخلوة التي طال انتظارها، والملابس عبء ثقيل.. لكن الخبرات تفتح طرقاً خلفية للتسلل الآمن. يلتمع في العيون الشبق، ثم يتركها تدور مستكشفة، مرة اخرى، مطمئنة الى ان الرائي لا يرى.
مع الطمأنينة يحلو البوح. لكن التظلم ضروري لتبرير الخلسة واقتطاع مساحة للذات من داخل الآخر.
تهدأ الغريزة، فيرجع العقل متعجلا الى طرح أشواك الاسئلة على طريق العودة، فتكاد تجرح ذكرى اللقاء المختلَس. ويجيء الافتراق متسرعاً تحت ثلوج الندم الأسود التي تنهمر فلا تطفئ من الحريق إلا مظهره، بينما يتوهج مثوى الظلال في مهجع التمني.
قصص مبتورة
} جربت المطرية الغناء بكل فساتينها الجديدة والغالية، لكن الجمهور لم يكن يُظهر طربه إلا متى انحسر الثوب عما دون الحنجرة وما فوق الساقين. وقال »السمّيع« المجرّب: اللحم أكثر إطراباً من القماش المزركش والشعر المستعار!
} الذين يعيشون في ذاكرتهم يُتعبون أنفسهم.
والذين يعيشون بلا ذاكرة يُتعبون الآخرين!
} قالت وهي تعني ما تقول: حين تغيب أخاف عليك، وحين تجيء أخاف منك.
قال وهو لا يعني ما يقول: من يحبَّ لا يخف.
وحتى لا يُهلكهما الخوف توحدا في النوم.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
عندما يطل حبيبي أستذكر الجنة. في الحب شيء من روح الله. إنه يجيئك بشيء مما حفظتَ عن المقدّس. ألا يقولون إن الحب مطلق، لا أول له ولا آخر، ولا حدود، مع أنه الزمان والمكان والبدء والمنتهى.