طلال سلمان

هوامش نداء لانقاذ الفارس العجوز سعد زغلول فؤاد

نداء لإنقاذ الفارس العجوز: سعد زغلول فؤاد
طلال سلمان
يُقتل الحصان الجريح حفظاً لعزة الفروسية وتخفيفا من آلام الذي لا يشفى،
فماذا عن الفارس الذي يُفرض عليه التقاعد الإجباري، فلا تصل يده الى لجام حصان ولا الى رمح أو سيف؟!
إن إذلال الفارس يمس الناس جميعا، لأنه بطلهم، ولأنه يتجاوز بعمله العادي والمألوف فيدخل الأسطورة، ويخرج منها غالبا في الأهازيج والفولكلور الشعبي ويستقر اسمه داخل الوجدان.
سعد زغلول فؤاد فارس عجوز الآن، ظل يُضرب على يديه حتى أُسقطت أصابعه مع الرمح، وظل يُضرب على رأسه حتى أسقطت أفكاره حماسته وأسنانه وكاد ينسى اسمه، وبعدما اطمأن ضاربوه الى انه غادر ميدان الفروسية رموه في الإهمال والعوز والنسيان ومرارة المنفى لكي يموت ألف مرة في اليوم!
والصحيح أن سعد زغلول فؤاد الذي بدأ حياته صحافيا صاحب قضية، وقاده إيمانه بحق وطنه في الحرية الى العمل السري، وإلى ما بات يسمى بلغة اليوم »الارهاب« وكان يسمى في الزمن الجميل »العمل الفدائي«، هو خليط من الفارس والصعلوك، الذي لم يغادر بمشاعره الطفولة فظل فيها حتى اليوم، وهو في الرابعة والسبعين من عمره، والذي حافظ على براءة مريبة حتى وهو يتورط في علاقات مع قوى سياسية لم تكن دائما واضحة الأهداف والمقاصد، ولا هي كانت دائما تستحق تضحياته الجسام.
من قبل الثورة في مصر وإلى ما بعد الثورة في فلسطين، ظل سعد زغلول فؤاد اسما يثير من الإعجاب بقدر ما يثير من الإشفاق؛ فهو مقاتل محترف ضد الظلم وضد القوى المعادية لطموحات الأمة.
ولطالما انتدب سعد زغلول فؤاد نفسه لمهمات انتحارية لم يكلفه بها أحد، ولم يكن أحد على استعداد لتحمّل مسؤوليتها،
ربما بسبب حماسته التي تلغي العقل، وربما بسبب من سذاجته التي تلغي الخطر، وربما بسبب من سرعة تصديقه لمن يثق بهم من القادة والرموز. قاتل سعد زغلول فؤاد ضد من كانوا يصنَّفون بين »الخونة« و»المنحرفين« و»أتباع الاستعمار«، في كل أرض عربية.. وكانت النتيجة انه استضيف في مختلف سجون الوطن العربي من »بغداد الى تطوان« مرورا بلبنان الذي نادرا ما سجنت سلطته أحداً لأسباب بحت سياسية.
ان جسمه خريطة للآلام العربية، مشرقا ومغربا.
قاتل مع »فدائيي القناة« في مصر، قبل الثورة، وقاتل ضد من اتُّهموا في وطنيتهم من رجال العهد الملكي، وطلب مرة من صديق له طيار أن يحمله معه في طائرة شراعية ومعه حقيبة ملأى بالقنابل كان ينوي إلقاءها على قصر فاروق.
وقاتل مع ثوار المغرب العربي الذين هبّوا على امتداد الأوراس لإجلاء المستعمر المستوطن الفرنسي واستعادة وحدة المغرب… فلما تفككت الثورة الموحدة الى ثورات قطرية قاتل فسُجن في المغرب، ثم قاتل وسجن في الجزائر، وقاتل وسجن في تونس، ثم انتقل الى المشرق فقاتل وسجن في بغداد وفي دمشق وفي بيروت (1958).
أما مع الفدائيين الفلسطينيين فقد قاتل في العديد من المواقع، وشارك في الكثير من العمليات الخارجية، وكان جزاؤه ان أرسل إليه بعض »المهرولين« المبكرين الى الاستسلام من القادة الفلسطينيين، بعض »الأشاوس« فحطموا له جمجمته ورموه ليغادر الحياة بهدوء، في سجن »ثوري« في بعض أقبية عمان.
هذا غيض من فيض عن هذا الفارس الذي نال مكافأته ضربا واضطهادا وسجنا وطردا في مختلف أرجاء الأرض العربية…
وحين جاء زمن التقاعد الاضطراري، عاد سعد زغلول فؤاد الى الصحافة ليتفرغ لها، مفرغا في صفحات العديد من المجلات والصحف العربية الصادرة في »المهاجر« الأوروبية بعض تجاربه وأوجاعه ومعرفته بالقيادات وتاريخها وتحولاتها التي كثيرا ما استعصت على كل منهم.
من باريس، حيث تفرغ سعد زغلول فؤاد لرعاية أسرته في بيت ضيق وبرزق ضيق وبهامش للعمل ضيق جدا، وصلتني »رسالة استغاثة« من هذا الفارس العجوز الذي أصبح الآن »فريسة تمزقه بقسوة وبلا رحمة الفاقة والحرمان والحاجة«.
سعد زغلول فؤاد وعائلته مهددان الآن »باجراءات عقابية صارمة«، بعدما تزايدت عليه الديون، فعجز عن الوفاء بالتزاماته، خصوصا وقد استغنت إحدى المدارس العربية في باريس عن خدمات زوجته التي كانت تدرّس فيها..
كان كل ما تبقى لسعد زغلول فؤاد قطعة أرض زراعية ورثها عن والده، وقد ذهب إلى مصر فباعها، وعاد ليسد بثمنها ما أمكن من الديون المتراكمة، خصوصا ان ولديه يتابعان دراستهما الجامعية، ومرتبه الضئيل لا يكفيه لنفقات المعيشة.
»أدعو الله ألا أصاب نتيجة محنتي هذه بسكتة قلبية أو بانفجار في المخ من فرط ارتفاع ضغط الدم أو بسبب ما يغمرني من اكتئاب«.
أما مطلب سعد زغلول فؤاد فهو أن تتيسر له فرصة عمل، ولو مؤقتة، في بعض صحف الخليج، لعل ما قد يخصص له من بدل يساعده في سداد الديون والعودة نهائيا الى مصر..
كذلك، فهو قد ناشدنا أن نوجه نداء لمساعدته، وخص بالاشارة نقابتي الصحافيين في الكويت وسوريا »حتى لا ينتهي أمري في قلب فضيحة فأهان وأسرتي، وأنا الذي عشت حياتي كلها في كفاح مضيء وشريف من أجل أمتي العربية«.
* * *
يُقتل الحصان الجريح، حفظا لكرامة الفروسية،
أما الفارس العجوز فهو يتحول بتاريخه الى رمز، ويحفظ عادة في الوجدان.
ومن المعيب ألا يجد مثل هذا الفارس الذي فرض عليه التقاعد الإجباري، وعزت عليه السبل لكي ينهي حياته بكرامة وهدوء، وفي أرضه وبين أهله، من يساعده على أن يبقى صفحة مضيئة في النضال القومي بدلا من أن ينتهي في قلب »الفضيحة«.
ليس الوقت مناسبا للعتاب أو اللوم أو للتساؤل: ولماذا يعيش سعد زغلول فؤاد في باريس؟!
لقد جاء إليها مضطرا، أو بالأحرى هاربا (من رفيقه في العمل السري وشريكه القديم في محاولات الاغتيال السياسي، الرئيس المؤمن محمد أنور السادات)، وعاش فيها مضطرا، وفي ظروف شديدة البؤس، برغم انه كان يعمل بكل طاقته حيثما لاحت له فرصة عمل.
لقد سقط الحصان فطرح فارسه أرضا في جليد الغربة ووحشة الإحساس بالوحدة،
فلننقذ الفارس، ثم نحاسبه بعد ذلك، ان تبقت فرصة للحساب.
عنوان سعد زغلول فؤاد لمن يرغب في مساعدته:
Saad Zaghloul Fouad
703 – Allژe du Dragon
00019, EVRY – France
عن هموم الانقطاع بين الأجيال والقضايا
جلسا يتشاكيان الهموم. قال أولهما:
علينا الاعتراف بحالة الانقطاع أو »القطع« بين أجيالنا، أو بالتحديد بيننا وبين أبنائنا.
ومع أخذنا بالقاعدة الصحيحة: »لا تكرهوا أبناءكم على أخلاقكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم«، فإننا غالبا ما نعجز عن إتمام الانتقال الهادئ بين الجيلين وبين الزمانين، فتتهدم الجسور، وتتقطع الأواصر، فيذهبون بالتحدي الى نقيضنا، أو نذهب بالقهر والإحباط الى صقيع الغربة بعيدا عنهم. نكاد ننكرهم أو نسبقهم الى التنصل من مسلكهم ومن أذواقهم ومن خياراتهم التي لا نفهمها!
قال صديقه المأزوم في علاقته بأسرته:
ان حالة الانقطاع تكاد تكون كاملة: تمتد من السياسة الى الأدب بفروعه المختلفة شعراً ورواية وقصة ورسماً ونحتاً، إلى الطعام واللباس والأثاث، الى الفن بإبداعاته المتعددة في السينما والمسرح والغناء.
وروى أحدهما، للآخر، وهو يتولى بين الدهشة والألم ما وقع بينه وبين أبنائه قبل أيام، وقد كانوا تلبية لدعوة عائلية في »سهرة طرب«، قال:
في البداية كنا جميعا متجاورين. لم نكن معا، لكن كلاً منا كان قابلاً بالآخر، مسلِّماً بشرعية وجوده. فلما بدأ الغناء وقع الانقسام هادئا في البداية، ثم حاداً، إلى حد التجريح بعد مضي ساعة أو يزيد.
فجأة انشطرت القاعة قاعتين: ما يطرب الجالسين في هذا الجانب منها يزعج الجالسين في الجانب الآخر. وتدريجيا أخذوا يجهرون برفضهم لما نطلب من الأغاني، ويصرون على طلب أغانيهم التي يعرفون أننا لا نستسيغها. وبرغم حرصنا على مجاملتهم الى أقصى حد نطيقه، فقد وجدناهم ينهضون والسهرة »في عزها« وينصرفون وهم »يعتذرون« بهزة من رؤوسهم فيها من الرفض والتحدي أكثر مما فيها من المجاملة.
اننا نتعايش في بيوتنا مضطرين، غالبا، لتعذر الانفصال.
والعاطفة وحدها، على خطورتها، لا تكفي رابطا في زمن التحولات التي تمشي بأهل الدنيا كلهم نحو التماثل في ظل »الأمركة« التي تتخذ لها شعارا يختزل »بالعولمة«.
»العالمي« ليس مواطناً، ولا يمكن أن يكون صاحب قضية… هل أضعنا بعد قضايانا أعمارنا هدرا؟!
لم يجد صديقه الكثير ليجيب به أو يهدئ به قلق صديقه… فاكتفى بأن قال:
دعهم يكبروا، وهم يشعرون بأن لهم حق الاختيار. دعهم يعودوا إليك بالاقتناع مع العاطفة، عبر تسليمك بحقهم في الاختلاف… لعلنا بذلك ننجح. أما القسر فلا يؤدي إلا الى التعجيل بالانفصال في ظل غيمة سوداء من الشعور بالعداء! دعهم يكبروا ولنكبر معهم وبهم.
ولكنه بعد إطلاق النصيحة، وجد نفسه يغرق في حيرته: الأمر أخطر مما نتصور. انه لا يتصل بالشكل، بل بالجوهر. ان أبناء ينسلخون عنا ويبتعدون حتى لنغدو أغرابا.
عاد الصديق وكأنه يقرأ أفكاره، الى القول:
لنبدأ باللغة… لقد قضي الأمر، ونجح الترويج في فرض منطق مفاده ان اللغة العربية لا تصلح للعصر لأنها لا تستوعب علومه وابتكاراته ولا تعبر روحه. إنها لغة البداوة وهذا عصر الكومبيوتر.
بعد اللغة لا بد من وقفة أمام القرية، البلدة، الضيعة، الحي في المدينة. لم تعد لدينا قرى أو بلدات. سقطت »الضيعة« سهواً وتحولت الى ما يشبه »الضاحية« من مدينة بلا قلب ولا رأس ولا ملامح. كل ما كان يفرحنا أو يثيرنا بطرافته أو بفرادته أو بذكرياتنا الحميمة فيه لا يعني لأبنائنا شيئاً.
ماذا تعني »العين« لمن يعطيه »الخلاط« في حمامه الماء بدرجة الحرارة التي يرغب فيها. ماذا تثير في خاطره كروم التين والعنب والزيتون ما دام انه لم يحمل معولاً، ولا تعرّف الى محراث. لا هو فلح أرضاً ولا زرع قمحاً ولا جمع ثمراً، وإنما هو يشتري كل شيء مصنّعاً ومعلّباً و… سريع الذوبان!
أما الثياب، فقد بات للذوق مصانع، ترسمه وتروّج له وتفرضه بضائع جاهزة في مختلف أرجاء الأرض. لم يعد للثوب صلة بالهوية. العربي كما الغربي، والأفريقي كما الآسيوي، الكل يشابه الكل في لباسه بدءاً بالحذاء وانتهاء بتسريحة الشعر. سقطت الكوفية عن رأس الفارس حين ترجل عن حصانه، وبات »العقال« مع العباءة رمزاً لأهل النفط، وأقفل الحجاب عيون الدين بالتعصب فأصيب أتباعه بالعمى.
الأكل في السوق ومن السوق، جاهز، في علب أنيقة، أو في مطاعم تؤمن الخدمة للمنازل، فلماذا هدر الوقت في المطبخ، وهو عنوان استعباد المرأة، في الزمن القديم؟!
لم يعد صعباً توحيد الأذواق ما دامت تصنَّع وتخضع للمعايير والمقاييس نفسها وتمتد لتشمل كل شيء من اللباس الى الطعام، الى الرسم والنحت، الى السينما، الى الشعر الذي تحرر من قواعده ومن أصوله وصار »ذاتياً« بمعنى أنه لا يخص إلا قائله أو قارئه الفرد.
قال الصديق متحسراً:
لم تعد من روابط بين الناس: انتكست رايات النضال وفقدت القضايا قداستها التي كانت تؤجج حماسة الجماهير وتحولها الى قوى تغيير. تهاوت الأحزاب، وتبعثر مناصروها بين تشققاتها المتتالية فانتهوا أفرادا خائبين ومدمري الثقة بأنفسهم.
تحول »الشعب« الى آحاد. لم يعد ثمة من مشترك بينك وبين الآخرين. كل فرد عالم بذاته، لا يجمعه بالآخر إلا ما يؤكد »ذاتيته«.
الفرد عالم بذاته. والعولمة وحدها الجامع بين الأفراد. لا الوطنية ولا القومية، لا التراث ولا الأصالة، لا الموروث ولا المعاصر.. لا شيء يربط بين »عالمك« و»عالمي« إلا ما يميّز واحدنا عن الآخر ويؤكد اختلاف كل »ذات« عن الأخرى.
فأين اللقاء؟!
البيت كرة أرضية، والأبناء قارات تفصل بينها محيطات العولمة التي تعود فتجمعها حول مشترك هجين ومؤقت، ولكنها لا توفر لها معنى الأخوة وتحرمك من معنى الأبوة.
إنها مسألة للتفكير: مسألة للنقاش… هل تتفضل ذاتك بمناقشة ذاتي؟!
تهويمات
} أعظم ما يكون الحب على فوهة مدفع.
لا تهزم هزيمتك إلا امرأة، لا تربح حربك إلا بامرأة!
} وقف في الحفل كالأبله، فلما انتبه إلى أن الجميع ينظرونه أخذ يبحث عن نفسه فما وجدك، وحين جاء دوره ليودع صاحب الدارة قال ببساطة: شكراً لأنك عرّفتني إلى ما كنت أجهله، شكراً لأنك جعلتني اثنين، غائبهما أهم من الحاضر!
} قالت تعاتبه: السياسة أكثر جاذبية، إنها تغويك فتأخذك مني ولا تبقي منك إلا ظل رجل. السياسة مقتلة الرجال.
قال: كلاكما انتحار.. الفارق ان السياسة بطيئة الفعل، اما انتِ فعاصفة تجيء بالنهاية سريعة.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا تصدق أن الحب يفقدك القدرة على الرؤية ويضيّع منك أهدافك. المراهقة تزيغ البصر، أما الحب فهو الصفاء المطلق، ومعه تعرف نفسك أكثر، وتتعرّف الى قدراتك وتتمكّن ثقتك بنفسك فيتهاوى المستحيل. الحب نجاح أوله، نجاح آخره. الحب تفوّق على الذات… به لا تصبح اثنين فحسب، ولكنك تصير الناس جميعاً. في المحب يجتمع جمال العالم كله.

Exit mobile version