طلال سلمان

هوامش من يتذكر الاتحاد السوفياتي وسولداتوف العربي الذي قتله النسيان؟

هوامش
مَن يتذكّر الاتحاد السوفياتي وسولداتوف »العربي« الذي قتله النسيان؟
******
قرأنا الكثير في كتب السيرة عن وفاء العرب، وكيف كان واحدهم يحفظ صاحبه في غيابه، ثم يلزم نفسه بأن يرعى شؤون عائلته إذا ما ضاق عليها الرزق أو أخنى عليها الدهر.
على أن سيرة »ساسة العرب« لا تتطابق وأخلاق الأولين.
يكفي نموذج واحد: العلاقة بالأصدقاء القدامى من »السوفيات«، وبمعزل عما كان من علاقات التضامن والتنسيق والتعاون ووحدة الهدف بالمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي العظيم.
قلة من بين العرب من ظل »يتذكر« الأصدقاء القدامى في موسكو، أو يذكر فضل الاتحاد السوفياتي وسائر دول كتلته في المساعدة الحيوية لدولنا ولشعوبنا… بل ان بين خريجي الجامعات في ذلك المعسكر، وهم يشكلون الأكثرية من جيلين عربيين تقريبا، مَن بات ينكر أو يموه هذه الحقيقة، فيدعي أنه إنما »بدأ الدراسة« في موسكو ثم أكملها في الغرب »حيث الجامعات حصون أكاديمية وليست مجالات استثمار سياسي«!
حتى الذين طالما قصدوا المشافي ومنازل الراحة والاستجمام في روسيا أو غيرها من دول المنظومة الاشتراكية لم يعودوا يتذكرون إلا »بدائية« العلاج، وتخلف الطب، وحالة العوز الفاضحة التي يعيشها العلماء والأطباء والموظفون، في مقابل استغلال النفوذ واستشراء الفساد والرشوة في أوساط النافذين.
أهدرت القيم، ديست المبادئ، وارتاح المتعبون بأثقال الجميل وأفضال المساعدة، وتمّ التنصل حتى من الذكريات السياحية ومن المغامرات النسائية في لينينغراد أو كييف أو براغ أو لايبزغ أو بودابست أو صوفيا أو فرصوفيا الخ..
صارت »البراءة« هي المطلب، وإلا كان الحساب الأميركي عسيراً!
استصدر كثيرون جوازات سفر جديدة حتى لا يحاسبوا على ما تقدم من شيوعيتهم ومن أفكارهم الهدامة، وتنصلوا من أية صلة »بالأحمر« عموما، بما في ذلك النبيذ، ومسحوا من ذاكرتهم كل ما كانوا يحفظون من صور عن ضريح لينين ومواكب الأحبة والعرسان، وعن »البانوراما« العظيمة في موسكو، وعن مواقع الصمود المجيد أو حتى عن ليالي العشق البيضاء في لينينغراد التي لم يعودوا يعرفونها إلا باسمها القيصري: بطرسبيرغ.
الذاكرة مهلكة، والتاريخ حمل ثقيل، والأمس وثيقة إدانة.
فاهرب من صورتك الأصلية، التزوير مفتاح المستقبل، فارطن بالإنكليزية وارفع »الهمبرغر« بيمينك، وتقدم الصفوف ببنطال الجينز وال»تي شيرت« وصورة مونيكا لوينسكي ومعها »السيجار« الذي اكتشف له كلينتون وظائف جديدة غير التي يعرفها »العامة« ممن يحصرون متعتهم في تدخينه، وهيا إلى فيء تمثال الحرية لتنجو وتُكتب لك الحياة.
لماذا هذه المقدمة»الأخلاقية«؟!
لأن أصدقاءنا القدامى ممن ساعدونا في أيام محنتنا الطويلة، وممن حملوا همومنا في قلوبهم وقاتلوا لأجلنا يمضون إلى أقدارهم من دون باقة ورد أو كلمة رثاء.. بل اننا ندير وجهنا إلى الناحية الأخرى ونكاد ننكر معرفتنا بهم حتى لا نؤخذ بها.
وعندما بلغنا في بيروت خبر وفاة ألكسندر سولداتوف فإن رد الفعل الأولي الذي استبق الحزن كان أقرب إلى الدهشة: وهل استطاع هذا الرجل السوفياتي الكبير الصمود حتى اليوم؟! ألم يمته الانحراف ثم الانهيار كمداً؟! ألم يسقط تحت ركام الحلم العظيم الذي ولد مع بداياته وعاش في قلبه ثم عمل جهد طاقته لخدمة حماية الإنجاز التاريخي الذي تحقق بوهجه فغيّر الكون؟!
ألم يسقطه جحود الأصدقاء وليل النسيان الذي التحفوا به حتى لا يؤاخذوا على صداقته؟!
عرف لبنان ألكسندر سولداتوف سفيراً لأكثر من عشر سنوات للاتحاد السوفياتي وهو القطب الأعظم الثاني في العالم.
وعرفناه في »السفير« صديقا كبيرا للعرب ومدافعا متميزا عن وحدة لبنان، ومحللاً عميقاً للأوضاع الدولية وللصراعات الهائلة التي كانت ترج العالم كله والتي كانت هذه المنطقة واحدة من ساحاتها الأساسية…
فلقد وصل لبنان غداة حرب تشرين أكتوبر رمضان المجيدة، وعشية انفجار الحرب الأهلية والتصادم المريع بين المقاومة الفلسطينية والنظام اللبناني الذي كان قد نخره سوس الهيمنة الفئوية وانحراف المطالب الشعبية كنتيجة إلى حقل الألغام الطائفية.
مرة كل شهرين تقريبا كنا نلتقي في بيته داخل حرم السفارة السوفياتية: يستقبلنا عند باب مكتبه، ثم يدخلنا إلى صالة متواضعة الأثاث، أبرز ما فيها مجلدات من كتب الفلسفة والتاريخ وبينها بطبيعة الحال منتخبات من كتب ماركس ولينين والشاعر المبدع بوشكين وبعض روايات تولستوي.
غالبا ما ذهبنا إليه بجراحنا وآلامنا وخيباتنا القومية التي توالت متواكبة مع تصاعد نيران الحرب في الداخل، فكانت »زيارة« السادات للقدس المحتلة، ثم المفاوضات المباشرة مع العدو الإسرائيلي والتي انتهت بتوقيع معاهدة الصلح المنفرد تحت الرعاية الأميركية في كمب ديفيد.
وكان الرجل الذي يستند إلى تجربة عريضة في العمل السياسي داخل بلاده، ثم في سلكها الدبلوماسي خارجها، يستمع بهدوء، ثم يسأل ويسأل ويسأل… وكثيرا ما كانت الأجوبة متضمنة في أسئلته الدقيقة.
في مرات كثيرة أحسسنا أننا أمام التاريخ، شخصيا، يهدئ من روعنا ويخفف من مراراتنا، ويأخذ علينا استعجالنا أو تطرفنا، ثم يروي لنا بعض التجارب أو يستعيد وقائع منسية لأحداث غيّرت وجه الدنيا، فنخرج من لدنه وقد غمرنا الشعور بالخجل لفجاجتنا…
مرة واحدة استفز إلحاحنا على المطالبة بتدخل الاتحاد السوفياتي في كل شاردة وواردة من شؤوننا، عربيا ومحليا، فرد يسألنا بغير أن يتخلى عن هدوئه: وأين أنتم؟! ما دوركم؟! إننا نساعد بقدر الطاقة، ولكن الكثير من قياداتكم يتصل بنا ويكثر من زيارة موسكو فقط لكي يستدرج عروضا أو دعوات أميركية. اننا معكم، ندعمكم بما نملك… ولكن بعض المسؤولين العرب لا يريدون دبابات أو طائرات أو مصانع، بل يريدون »مساعدات سائلة« لكي يتصرفوا بها كأشخاص، ويريدون صفقات مفتوحة من أجل العمولة لا من أجل تعزيز الدفاع الوطني!
ومرة أخرى تفجرت مرارته وهو يسمعنا نتوجه باللوم كله إلى الاتحاد السوفياتي ونتهم قيادته بالبطء في اتخاذ القرار، ونلمح إلى أن صناعة السلاح الأميركية أكثر تطورا مما يجعل التفوق الإسرائيلي أكيدا ودائما… قال الرجل الرصين بغير أن يغضب: لن يأتي الجيش الأحمر ليقاتل نيابة عن ثوار المقاهي. لقد قاتلنا، خلال الحرب العالمية الثانية، في ظروف أقسى من أن توصف. وكان هتلر يملك تفوقا كاسحا، لكن الإرادة والصمود والتمسك بالأرض، وباختصار: حب الوطن جعل النصر من نصيبنا في النهاية.
ووسط صمتنا، وقد أخجلنا واقعنا، عاد يقول بهدوء: يا أصدقاء، حاسبوا أنفسكم أولاً. اسألوا أنفسكم: لماذا تهزمون وتنتصر شعوب أخرى أقل ثروة وأضعف تسليحا. لن أتحدث عن فيتنام بالتحديد، بل عن بعض بلدان أفريقيا الفقيرة. المشكلة فيكم. أنتم ترفضون أن تواجهوا أنفسكم فترمون تهمة التقصير على الآخرين ثم ترتاحون في انتظار هزيمة جديدة. لا تؤاخذوني على صراحة، لكنني سئمت من سماع مثل هذا المنطق الخاطئ والمضلل والذي لا يبني أوطاناً…
على أن سولداتوف كثيرا ما دعانا إلى الرفق بمصر، والحرص عليها، وعدم القطع معها حتى والسادات يحاول أخذها بعيدا عن العرب: لا تتركوا مصر! العرب بلا مصر ضعفاء. إن الصمود السوري بطولي، لكنه في غياب مصر سيظل يفتقد السند الحيوي المطلوب. ومصر ستغطي أي انحراف فلسطيني محتمل. ان حماية سوريا تستدعي العمل لاستعادة مصر. لا تقطعوا مع مصر حتى لو تاهت قيادتها وأضاعت الطريق.
رحم الله هذا الصديق الكبير، الذي لم يتذكره من اللبنانيين الذين خدمهم لأكثر من عشر سنوات عجاف، إلا وليد جنبلاط.
وشكراً لوليد الذي غطى بذهابه للمشاركة في مأتم سولداتوف إحدى عوراتنا الكثيرة. وأخطرها أننا نقتل الصديق من أجل استرضاء العدو الذي لا يرضى!
a

زهير عسيران وزمان الصحافة الجميل
هممتُ أكثر من مرة بالكتابة عن زهير عسيران ثم أحجمت، بل أجبنت: فهو أقرب إليّ من أن أستطيع إنصافه!! ثم انه بحضوره الشفهي الطاغي، وبضحكته المجلجلة والتي »تفضحه« حيثما وجد، يغطي على »الكاتب« وعلى الذكريات وعلى الكتاب الذي جمع فيه نتفاً مما يعرف والقليل القليل مما فعل.
فزهير عسيران دخل الصحافة مقاتلاً، وخاضها مغامراً وكأنها مهمة انتحارية، ثم تركها مضطراً وبعدما تكسرت النصال على النصال وأعوزته الذخيرة لإكمال المعركة… ولعله أيضاً قد انتبه فجأة إلى أنه وحده في الخط الأمامي بينما انسحب الرفاق إلى خلف الخلف من غير أن ينذروه!
ولقد عوّضني كتاب »زهير عسيران يتذكّر« النقص في معرفتي به كمهني، كزميل كبير، كريبورتر ومراسل متميز، وصاحب »خبطات« صحافية بات يؤرخ بها كمحطات فاصلة سياسيا، أشهرها: نشره الوثيقة الفضيحة عن معاملة بيع أراض في »المنارة« على الحدود اللبنانية الفلسطينية لشركة عقارية يهودية، وتمكنه من »سرقة« ثم نشر التقرير السري للكونت برنادوت، الأمير السويدي المكلف من الأمم المتحدة ملف الصراع العربي الإسرائيلي، والذي دفع حياته ثمنا »لانحيازه« إلى الحق العربي في فلسطين.
وفي لحظة كدت أحسد زهير عسيران الذي عاش عمره »صحافيا عربيا« بينما تتهاوى صحافة لبنان، كما الصحافة في كل قطر عربي، في المحليات البليدة والتفاصيل التافهة عن سياسيي الدرجة العاشرة.
فهذا الصحافي بالسليقة المبطن بمجاهد سياسي »ثوري كما يصفه منح الصلح عرف وكتب عن مصر وسوريا والعراق واليمن وفلسطين بطبيعة الحال… كما عرف وكتب عن أهم رجالات العرب في الثلاثينيات والأربعينيات وبداية الخمسينيات (في صحف بيروت) قبل أن يؤسس »الهدف«، ثم في »المصري« التي عمل مراسلاً متجولاً لها في المنطقة«.
ثم ان زهير عسيران قد عاش حياته بكل ساعاتها ودقائقها، فجمع إلى النضال السياسي عشق الجمال وأتقن فن الضحك والإضحاك، وأمتع أذنيه بنشوة اللحن الجميل والصوت العذب المدغدغ للمشاعر… هذا من غير أن يهمل تدبير »المقالب« للأصدقاء، وهو الذي لم يبخل بخدمة يملك أن يقدمها لصديق ولو على حسابه إلا وأدّاها.
»المؤامرات والانقلابات في دنيا العرب«… هذا هو العنوان التفصيلي للمذكرات، وزهير عسيران يكاد يكون في كل واحدة منها، مرة كشريك، ومرة كشاهد، ومرارا كمنبّه ومحذر ومنذر. وغالبا ما لقي جزاء سنمار.
قديس القطط المحبة!
في ليالي شباط يصعب النوم على مَن يسكن في شقة قريبة من أرض الشارع!
إنه شهر الحب العلني وقصائد العشق »النووي« بين القطط.
لا تعرف القطط السر وهي تمارس لذّاتها، بل هي ترفع صوتها إلى أقصاه لتلفت العالم كله إلى أنها في ذروة النشوة.
هل ترى كان سان فالنتاين قطاً؟!
وهل كانت مواعيده مع حبيبته كلها في شباط!
ملعون أنت يا قيس بن الملوّح، يا جميل بثينة، يا عمرو بن أبي ربيعة.
ملاعين يا الذين سكبتُم حبكم ديوان شعر ولا أبهى ولا أغنى عبر التاريخ، وغنيتم العشق، وجعلتم اللوعة نشيداً إنسانياً رائعاً.
لو أن بينكم مَن عرف الحب فكتب عنه، يا ملايين الملايين من العشاق العرب، لكنا جعلناه قديسا، ولكنا اتخذنا من ذكرى لقائه والحبيب عيداً!
لكن يا حسرة، ليس بين العرب من عرف الحب أو عاشه حتى الثمالة أو غناه حتى البكاء، أو أمتع بسيرته الناس من بعده أجيالاً بعد أجيال!
ليس بين المحبين العرب قط واحد يستحق أن »ننوّي« له في عيده!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أعجب لمن يربط الحب بالغيرة. يغار من لا يثق بحبه.. مَن لم يبلغ مرتبة المحب. وقديماً قيل إن الغيرة تكسر الاناء ولا تخرج منه بالثورة، أما حبيبي فهو انائي، يحفظني في قلبه، يرى بعيني، ويتنفس برئتي. من أين سيدخل »الآخر« ولماذا الحاجة إلى »الآخر« طالما يعطيني حبيبي فوق ما أطلب وأعطيه من قبل أن يطلب. إنه حياتي فكيف أهدرها في عبث المنافسة؟!

Exit mobile version