طلال سلمان

هوامش محمـود درويـش صـار فلسـطين

محمـود درويـش صـار فلسـطين
مؤكد أن محمود درويش يعيش لحظة صفاء في عليائه، وهو يلاحظ ان القادة التاريخيين من الإخوة ـ الأعداء لم ينتبهوا في غمرة انغماسهم في حروبهم على فلسطين وليس من أجلها، الى الذكرى الأولى لغيابه، هو الذي يستعصي على الغياب او النسيان.
لقد نسوا فلسطين فنسوه.
لو انهم استذكروها قضية مقدسة تستحق ان تقدم لها الأعمار رخيصة، لاستذكروها.
لو انهم قد تنبهوا إلى انهم قد صاروا خارجها لكانوا انتبهوا الى انه قد صار خارجهم، فهو حفنة من ترابها، نجمة من نجوم سمائها، بعض شمسها، وهو بعض عطرها، بعض رنين موسيقى اسمها، من أجلها ولد، ولأجلها عاش، بحبرها كتب وبوحي منها صار شاعرنا الأكبر.
اما هم فقد مزقوها وهم يتناتشون قطعها وزارات وادارات وقيادات بلا عسكر، ومناصب بألقاب مفخمة ولا سلطة.
لو انهم يعرفون القراءة لانتبهوا إلى أنهم صاروا خارج كل المكتوب، وانه وحده القلم والكتاب.
لقد تنكروا لماضيهم فخرجوا من التاريخ، وأهانوا كرامة أرضهم فتحولوا الى عابرين في سلطة عابرة.
القضية هي ولادة الشعر، لان الشعر ابن الارض وبعض هوائها، فكيف سيقرأ الشعر من أنكر أمه، وكيف سيفهمه من صار همه القضاء على أخيه قبل أن يقضي عليه لينفرد بسلطة لا هوية لها ولا أرض تقف عليها؟
محمود درويش هو كل فلسطيني في الداخل، وداخل الداخل، في زنازين الاحتلال، أو في مواجهة وحوش المستعمرين الذين يحاولون إخراج أرضه من صدره، في القرى التي يطرد أهلها لإخلاء مساحة من اجل النمو الطبيعي لمستعمرات المستقدمين من آخر الدنيا ليصيروا «شعبها» فيلغوها ويلغوه.
هي مصادفة قدرية لكن دلالاتها أخطر من أن تضيع في ثنايا البيانات الركيكة الصياغة، المهينة مراميها، والتي تهاوت عند أقدام الذكرى الأولى لغياب محمود درويش.
إنه ما زال فلسطين.
أما المؤتمرون، المتنافسون مزايدة ومناقصة، فكانوا يعملون تشويهاً للقضية المقدسة، وتحقيراً لتاريخ شعبها ونضالاته التي أعطاها أجيالا من شبابه، رافضا أن يسلم بالأمر الواقع، وان يمزق هويته، فينسى أسماء أجداده وينحر حقه في وطنه بيديه.
ما بين المؤتمرين في بيت لحم، في ظل الحراب الإسرائيلية، وما بين الذين اختطفوا غزة وأعلنوها إمارة وهي أسيرة، كانت صورة فلسطين تزداد شحوباً: هل أنست السلطة المحبوسة في زنازين الاحتلال هؤلاء الذين كانوا قد نذروا أنفسهم لهدف التحرير المقدس، من هم، وأين هم وماذا كانت مهمتهم الأصلية؟!
هل أعماهم الغرض أو الكيد أو الحقد أو كل ذلك معا عن طريقهم وعن هدفهم الذي برر وجودهم في المواقع التي كانت تستمد قيمتها من الرايات التي كانوا يرفعونها حين اختاروا طريق العودة الى الوطن بقوة ايمانهم بحقهم فيه، فتاهوا عن الحقيقة البسيطة المشعة بوهج الدم المقدس، ثم تواطأوا جميعهم على اغتيال فلسطين؟
هنيئاً لك محمود درويش لقد صرت الوطن.
كنت حادي نضاله وقيثارة دماء الشهداء فيه ودليل العودة والنجم الهادي لمن ابتعد به الطريق عن هدفه.
ولقد تاهوا في بيداء الاوهام وصراعات الاحقاد اللاغية للقضية وبقيت الدليل والراية وحداء الذين سيتابعون المسيرة ليستعيدوك باعتبارك الاسم الثاني لفلسطين.

عن عرس الزين وقد نثر عليه البدر فضته
من زمان بدأت تلك التي جاءت الى الدنيا أماً بحجم قلب الاستعداد لليلة الفرح الموعود. كل التفاصيل في ذهنها، وقد استذكرتها وأعادت استذكارها، هي التي لا تنسى، عشرات المرات، وتفقدت كل «اللوازم» التي حضرتها منذ أمد بعيد، ووزعت الأدوار بهدوء صارم حتى لا يكون خطأ، مستفيدة الآن من العصا التي فرض عليها الطبيب أن تستند اليها وهي تتدرب على المشي، من جديد.
كانت أمها التي غادرت دنياها من دون أن تغادرها تقف فوق كتفها تنبهها أو تذكرها أو تقترح عليها إضافات ليأتي عرس الزين الأبهى والأبهج. مشكلة واحدة ظلت تقلقها وتكاد تنغص عليها بهجتها: انها لا تعرف فن الزغاريد. لطالما اجتهدت أمها أن تعلمها فما نفع التقليد. حاولت، مستعينة ببعض الصديقات والقريبات فضحكن منها ومن خجلها الذي لم تعرف أبدا كيف تتخلص من أثقاله، وهي تحاول أن تردد معهن ثم بعدهن الكلمات المتداخلة مع «الاوها» التي يجب ان تدوّي معلنة تفجر الفرح مشاعا للناس جميعا. جربت مرة، مرتين، ثلاثا، لكن صوتها ظل خفيضا، وظل نطقها بطيئا، فقررت بحزم أن تكتفي بأن تعبر عن الفرح بدموع عينيها، تاركة للقريبات اللواتي يتقن هذا الفن ان يزغردن بالنيابة عنها، مكتفية بالتصفيق والتلويح بيديها وكأنها تنثر الفرح على كل من جاء يشاركها فيه.
دارت، قبل أن تغلق الباب لتلحق بموكب «الزفة»، في جولة تفقدية أخيرة، فاطمأنت وأسرعت في خطوها حتى تنبهت الى انها ما زالت في طور النقاهة، وان أمامها الكثير من التعب فعليها أن تقنّن في حركاتها حتى تستطيع الصمود متنبهة الى التفاصيل، وما أكثرها.
مرة أخرى تفقدت البخور والحنة والعطر وسلة الورد المنثور أوراقا والذي ستستقبل به الحفيدة العروسين، والعبارة التي ستأخذها كاحتياط اذا ما دهم برد الليل زين الشباب أو بعض رفاقه.
قبل ان تخرج من باب البيت التفتت نحو «الخيمة» فجاءها الصوت الخافت مطمئنا: فلتكن حياتهما عرسا دائما. عند باب الصالة التي ستشهد انفجار الفرح دبكة ورقصا وعناقا مع أحبة استقدمهم الشوق، وقفت تسأل ـ مرة أخيرة ـ عن كل شيء، وكلما داخلها الاطمئنان تنبهت الى تفصيل جديد، ثم اتخذت مقعدها، مجبرة، تاركة لعينيها مهمة التجوال وتفقد الحضور جميعا، حتى اذا رأتهم قد انهمكوا في ما جاؤوا بطلبه ومن أجله، أخذت ترميهم بابتسامات هي أوسع ما عرف وجهها منذ دهر.
ما هي واثقة منه أن القمر سيكون بدرا، وانه سيتربع فوق الصالة بجلال اكتماله مع وصول العروسين، فينثر عليهما من فضته، قل ان تأذن له بأن يكمل رحلته متهاديا كمن يشارك في رقصة العاشقين.
دارت بعينيها على وجوه الحاضرين. هي تعرف من جاء تتقدمه رغبته في مشاركتها فرحة العمر، ومن جاء بدافع الواجب، ومن جاء مجاملا، ومن يتربص بالحفل، في هذه الزاوية أو تلك، كي يسجل النواقص والثغرات. ابتسمت بثقة: لن يجد أحد شيئا يستخدمه من أجل التندر أو التسلي بنا!
.. وحين ارتفع الصهيل مبشراً بإطلالة «زين الشباب» وفي يمينه السيف، سحت دموعها بهدوء حتى غسلت ابتسامتها التي جعلت وجهها مثل رغيف خبز ساخن لطالما أخرجت مثله من التنور بينما وهج النار يذيب الهواء.
اندفعت فرقة الدبكة الى «الساحة» بزخم العافية وطبل الحماسة وكلمات الفخر تستولد الحركة التي فيها من الشموخ ما نفتقده في يومياتنا… وبعد دقائق من التهيب اندفع «شباب العريس» الى الحلبة يحاولون منافسة أولئك الذين لا يقبلون التحدي، فتطايروا بعضهم من فوق رؤوس البعض الآخر، من دون أن يختل الايقاع. الكل أبناء البيئة التي لا تمنح «جنسيتها» لمن يهرب من موقع الحاشية ليقود موكب الايقاع المنغم بخبطات الأقدام التي تتحول في لحظات الذروة الى أجنحة.
… وتهادى موكب العروس آتياً من داخل الحلم، فاندفعت واقفة وتقدمت تريد أن تواكبها، ثم تهيبت موكب الطائرين رقصا، فاكتفتت بأن تصفق بينما دموعها تنوب عنها في إطلاق الزغاريد متوهجة بفرح العمر… ثم التفتت الى زوجها فكادت ألا تتبين ملامحه، وان أدركت انه يمسح دموعه، قبل أن يهز عصاه تعبيراً عن بلوغه ذروة النشوة.
تلاقى العروسان في وسط الحلبة، وأسقط الفرح تهيّب الشباب والصبايا فشكلوا حلقة رقص من خلف فرسان الدبكة، ثم اختلطوا بهم في حركة تعبر عن قبول التحدي، بينما كان الأهل يبحثون لأنفسهم عن موطئ قدم، فإذا ما تعذر عليهم اختراق أسوار من رفعتهم النشوة إلى أعلى عليين اكتفوا بأن يتابعوا بعيونهم موكب البهجة وقد نثر عليه البدر فضته فتسابق الأطفال يحاولون التقاطها فإذا هم نجوم.
وحين غادر البدر الحلبة نزل اليها الذين يدارون خجلهم من عدم إتقان الدبكة، واندفعوا يرقصون حتى نعست النجوم فهبطت الى تلك التي جاءت الى الدنيا أماً بحجم قلب يهنئها بعرس الزين الذي عشقته واحدة منهن فنزلت اليه ومشت معه ليعيشا في قلب الفرح، وسط الطمأنينة: فتلك التي تاجها من بيلسان وياسمين سوف تهتم بكل شيء غداً كما اهتمت بكل شيء أمس، لأنها منذورة لان تهتم بالكل فكيف بمن منحوها فرح العمر.
في طريق العودة جاءها الصوت الخافت رقيقاً: أستطيع أن أنام الآن. فأنت ساهرة لتحمي الجميع بقلبك ـ قلبي.

بيـن حصـان رفيـق شـرف وهـلاله
تطلع شمس نهاري مع حصان رفيق شرف وقد اشرأب بعنقه الطويل فملأ الفضاء بكبرياء الرفعة فيه، وأودع هلاله عند انصرافي مع انتصاف الليل مهتديا بأصداء الصهيل الذي ضربه الخرس بعدما غادرنا ابن الحداد عائدا في لفائف الصمت الى بعلبك ليكمل لوحة الخلود التي منعه قدره من إنجازها.
ليس للمبدع عمر، يبدأ بيوم ميلاده المنسي وينتهي مع نفسه الأخير. ينشئ المبدعون أعمارهم بأنفسهم. ينحتونها في قلب الصخر أحيانا. يزخرفونها بمآقي عيونهم التي ترى ما لا يرى، والتي تملك القدرة على إعادة صوغ المرئيات بتضمينها أخيلتهم المجنحة. يسافرون على زوارق أخيلتهم الى عوالم الدهشة والفرح. ترفعهم العصافير على أجنحتها الهشة وتطير بهم في قلب الضوء حتى ملامسة الشمس فيعودون وقد أمسكوا بأشعتها فإذا اللوحات مزيج من نار ونور.
أليس هو ابن مدينة الشمس…
ربما لهذا كانت الشمس تسكن عينيه دائما، لا هو يغادرها مهما حاولت أمواج الغربة أن تأخذه بعيدا عن أرضه وأهله وذاته، ولا هي تبتعد عنه إلا كي تسكن ريشته فترضعها ألوان البهاء حيث يختلط السندس والزبرجد والمرجان والياسمين الدمشقي وزهرة النار التي تكاد تكون عنوانه الدائم.
عبثي هو البحث عن عيد ميلاد رفيق شرف.
كيف تؤرخ للذي استولد نفسه من نفسه مئة مرة، ألف مرة… والذي ترك بصماته الملونة على امتداد مرحلة كاملة من تاريخ الفن الجميل الذي تقاس الأعمار بالقدرة على تذوقه وعلى تزيين حياتنا به.
ولأنني لا أصدق خبر موت الشمس فقد افتقدت رفيق شرف عندما التف رفاقه ليكرموه ـ غائبا ـ عبر تكريم «السفير» حاضرة ومستحضرة كل من وما أحب: الارض والناس الطيبين في طريق عودتهم من حقولهم ووجوههم بألوان القمح، قبل أن يقتحموا الليل فيضيئوه بصيحات الفرح عند «أبي يحيى» وصحبه الذين تتزايد السنون على أكتافهم فلا يشعرون بأثقالها لان قلوبهم عامرة بحب الحياة.
لقد ملأ رفيق شرف أيام السنة جميعا بألوان إبداعه، فأي من تلك الأيام يمكن ان يكون عيد ميلاده… ولسوف نضيء له شمعة جديدة.

مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا تعامل حبيبك وكأنه أسيرك. لا تطارده بغيرتك أو بمعاتبة مفتوحة حول كل شيء، الحياة أجمل من أن نبعثرها في التفاصيل جلابة السهد. عش حبك، ولا تعكر صفوه بما يهدر الأجمل من أيامك. الحب أن نعيشه كله مدى العمر.

Exit mobile version