طلال سلمان

هوامش ## كتابـة علـى جـدار مهنـة الصحافـة (1)

فصول من سيرة ذاتية لصحافة عصر مضى

حديث شخصي جداً عن «الأستاذ الأكبر» والمقص والوجبة الأولى

حين أُدخلت إلى المكتب الواسع كنت أتعثر برهبتي وقد تاهت مني الكلمات، فهمهمت بتحية لم يسمعها، وتلبثت واقفاً أمامه، خائفاً من أن يضبطني أحدق في صلعته اللامعة، وان كان نظري قد حوم في أرجاء الغرفة فألتقط بعض التفاصيل وأبرزها سلة للمهملات تنفرد بالزاوية البعيدة عن المكتب ذي التاريخ.
سألني «الأستاذ الأكبر» وهو يحدق في وجهي المتعرق من خلف نظارتيه السميكتين: لماذا تريد ان تكون صحافياً؟!
همهمت بارتباك ملحوظ: نشأت في بيت فقير، لكن الكتب فيه كثيرة، واستهوتني المطالعة صغيراً فالتهمت كل ما وجدت من مراجع وروايات تاريخية وقصص بوليسية فتميزت بلغتي بين أقراني وجعلني بعض أساتذتي أحلم.
نهرني بصوته العريض: كفى، كفى.. سنجربك إذن في التصحيح طالما أنك تقول إن رأسمالك لغتك. سنمتحن ادّعاءك فنحكم.
نادى معاونه الذي سأكتشف متأخراً أنه «المدير» و«الكاتب» و«المحاسب» و«مسؤول الدوام» و«السكرتير الخاص».. فجاء متعجلاً. قال وهو يشير إليّ: ـ خذه فجربه كمصحح لمدة أسبوع تبلغني بعده النتيجة، وهل نجح أم انكشف ادّعاؤه كما الذين سبقوه!
ثم التفت إليّ فخاطبني بلهجة رب العمل: ستكون مدة التجربة بلا أجر، فإذا نجحت حددنا لك مكافأة.
أشار إليّ «المعاون» أن اتبعني، لكنني كنت مصراً على السؤال: والنقليات؟!
قال المعاون: الترامواي موجود، فرنك للقدوم وفرنك للأياب… هذا مبلغ تافه!
«تافه» عند من جيبه محشوة بالليرات، أما عندي فأمره خطير! تحركت نحو الباب لكن صوت «الأستاذ» جمدني في مكاني. قال: أتعرف تاريخ هذه الجريدة؟!
هززت رأسي وأنا أرفع بصري إليه، فأكمل بنبرة فخر: هذه أعرق جريدة، وهي قد خرجت كبار الكتاب والصحافيين… أترى تلك الزاوية؟ هناك كان يجلس من غدا صاحب العديد من المطبوعات الناجحة، وفي الزاوية المقابلة كان مكتب من صار، من بعد، نقيباً للصحافة.
حدقت في «تلك الزاوية» من الغرفة الفسيحة فلم أر إلا سلة مهملات.
هممت بالتحرك نحو الباب فعاد صوته يجمدني في مكاني. قال: اقترب مني. واقتربت منه وهو خلف مكتبه الخشبي الفخم، وقد جف حلقي.
تناول من على المكتب مقصاً فرفعه في يده وهو يوجه إليّ السؤال: أتعرف ما هذا؟!
قلت بشيء من الاستغراب: انه مقص.
نبر بحدة: مقص؟ هو في البيت مقص، أما هنا فهو بمكانة رئيس للتحرير. المهم أن تحسن استخدامه!
لم أفهم، فاكتفيت بأن هززت رأسي موافقاً، ثم سحبني «المعاون» إلى خارج المكتب وهو يوضح ما خفي عليّ: يا عيني شوف… نحن جريدة ظهرية، وبالتالي فإننا نأخذ مادتنا والصور من الصحف الصباحية، ونعيد تنظيمها.. ولهذا يحتل المقص دوراً أساسيا في التحرير! سوف تتعلم الكثير، هنا، ولولا أنني أقدر تعبك لطالبتك بأن تدفع كلفة تعليمك بدل ان تطالب بمرتب.
أخذني إلى المطبعة القريبة، وطلب إليّ أن أباشر العمل فوراً، لأن «وقت الصدور يداهمنا»… وهكذا اكتشفت أنني مسؤول منذ هذه اللحظة عن انتظام علاقة الصحيفة بقرائها الذين لا بد ينتظرون صدورها بفارغ الصبر.
÷÷ في الصباح الباكر لليوم الثاني كلفني «المعاون» بأن أتولى اختيار موضوعات الصفحة الأولى من الصحف الأخرى. استهولت الأمر، فأخذت أقلب الصحف متردداً، بينما «المعاون» يمد إلي يده بالمقص وهو يتأفف: خلصنا! لقد دهمنا الوقت. لعلك تفترض أن القراء سينتظرون اختياراتك العظيمة. لسوف يشترون جريدة أخرى… هيا! الوقت من ذهب!
دخل باختياراتي إلى «الأستاذ» الذي كان مشغولاً في «اجتماع خاص» كما قال، وهكذا فقد توجه إليّ ينذرني: سأستخدم ما اخترت، وأمري إلى الله، فإن كنت أخطأت فلسوف تطرد شر طردة، أما ان كنت أحسنت الاختيار فلسوف تحظى بمكانة ممتازة.
تمتمت: والمرتب؟!
صرخ: تريد مرتباً وأنت في يومك الأول؟! هيا بنا إلى المطبعة لتتولى تصحيح المادة.
لم يكن أمامي خيار فتبعته إلى المطبعة صاغراً، وانهمكت لساعتين في محاولة تنسيق «المختارات» من بين «القصاصات» التي كان «المعاون» يتفحصها ثم يجيز استخدامها متعجلا عمال الصف ثم عامل الطباعة ان ينجزوا المهمة.
÷÷÷ في اليوم الثالث وصلت مبكراً، فاستقبلني المعاون متجهماً. قال: أدخل إلى الأستاذ ليؤدبك! انه ينتظرك منذ ساعة. عدد الأمس كان كارثة.
ترددت في الدخول فتقدمني المعاون وفتح الباب مخاطباً الأستاذ: لقد شرف الصحافي الكبير.
تقدمت نحو الباب فصدمني الصوت العريض: لم تحفظ الأمانة يا عبقري زمانك. كان عددنا بالأمس فضيحة.
قلت: ولكنني ليست إلا مصححاً تحت التمرين. لم أزعم أبداً أنني أستطيع تحمل مسؤولية الصفحة الأولى.
صرخ: ولكنك أنت من اختار.
قلت: حاولت إفهام معاونك أنني غر، وعمري يوم واحد.
قال بحدة: ولكنني نبهتك إلى خطورة دور المقص.
قلت مستعطفاً: من أين لي خبراتك وكفاءتك… إنما أنا تلميذ مبتدئ.. وقد سمحت لي أن أتدرب على التصحيح وليس على التحرير.
قال منهياً الحوار: ستدفع ثمن غلطك!!
تمتمت في سري: جميل أن يبدأ الأجير عمله بدفعة أولى من راتب لم ينله!
صرفني بإشارة من يده، وخرجت لأجد «معاونه» وقد استعد للقائي بقرار خطير: ـ سنكتفي بأن نحسم عليك أجر أسبوع فقط.
صرخت: ولكنني لا أعرف، بعد، شيئاً عن أجري، فكيف تحسم مما لم أنله أصلاً؟!
قال بلهجة من احترف مثل هذه المهمة: أشكر ربك. غيرك عمل شهراً لإيفاء ما حسم من راتبه، وخرج من هنا مديناً لنا بعشر ليرات.
توجهت نحو باب الخروج، لا أكاد أرى طريقي. وعندما استقرت قدمي فوق الرصيف انتبهت إلى أنني لا أزال أحمل المقص في يدي، لأنني كنت على وشك مباشرة «العمل». ترددت: هل أعود لأعيد «رئيس التحرير» إلى مكتبه، أم أحتفظ به تذكاراً أو… تعويضا!
… وأعدت المقص، ومضيت في رحلة البحث عن عمل يقيم أودي في المدينة التي لا أعرف أحداً فيها، وإن كنت أعرف أقارب ينتشرون في ضواحي البؤس من حولها كانوا كرماء جدا في استضافتي في بيوتهم الضيقة الفقيرة بأثاثها والفسيحة جداً بقلوب أهلها الطيبين.
[[[
÷÷÷÷ المحطة الثانية كانت في جريدة تصدر ظهراً، هي الأخرى.
قادني مدير مدرسة تربطه صلة حزبية بأقارب لي إلى جريدة مؤثرة أيامها. وكان أمله في «رفيق متقدم» يشغل منصبا مهماً فيها. لكن «الرفيق» كان دقيقاً في علاقاته بسائر زملائه فسألهم ان كان ثمة متسع لطالب في مدرسة ليلية يطلب فرصة عمل ولو كمتمرن، فلم يتبرع أحد بقبولي في قسمه، فتمرين المستجد يتطلب وقتاً، ووقت المحترفين أغلى من أن ينفق في مغامرة غير مضمونة النتائج.. ثم انها مجانية!
قال مدير المدرسة الذي رأى نفسه، الآن، ملزماً بإغاثتي: ولا يهمك! سأقصد معك صديقاً لي من «المعلمين الكبار» في سوق الخضرة بالجملة، أعرف أن صداقة تربطه مع صاحب صحيفة ذات طابع شعبي.. فهيا بنا إليه!
رافقته بصمت، فأنا صاحب حاجة، وبالتالي فلست أملك حق الاعتراض. غصنا في سوق الخضار بين الصناديق والحمالين والشاحنات الصغيرة والآتين بطلبياتهم ليشرفوا على اختيار البضاعة، حتى وصلنا إلى مقصدنا: كان «المعلم» ضخم البنية، جهوري الصوت، مضيافاً وله حضور كثيف ينعكس احتراما واضحاً في تعامل جيرانه وزملائه وزبائنه معه.
رحب بنا وهو يأمر لنا بكوبي جلاب، ثم سأل عن حاجتنا. قال المدير: نريد شفاعتك مع صاحب الصحيفة فلان، وهو صديقك، كما قيل لنا، لكي يعمل هذا الشاب فيها، فهو يريد أن يكون صحافياً.
لم يطرح «المعلم» أسئلة أخرى. أمسك بسماعة الهاتف وأدار القرص بطلب الرقم الذي يحفظه غيباً.. ثم سمعناه يسأل عن الصحة والعائلة والشغل، قبل أن يباشر مهمته:
ـ سأرسل إليك فتى مؤدباً وذكياً ومتعلماً ونشيطا، ويريد أن يعمل في الصحافة..
توقف عن الكلام لحظة، ووضع يده اليمنى على سماعة الهاتف قبل ان يسألني:
ـ ما اسمك يا بني؟!
نقل الاسم إلى صاحبه على الطرف الآخر من الخط، ثم ودع محدثه شاكراً، قبل أن يلتفت إلي قائلاً: ـ إذهب إليه غدا صباحاً في مكتبه… وتوكل على الله!
حاولت أن أسأل عن موقع المكتب فقمعني «الوسيط»، وودعنا «المعلم» وخرجنا من سوق الخضار بالجملة إلى حيث كانت سينما ريفولي.. وبحث صاحبي عن بائع صحف فاشترى منه نسخة من الجريدة التي تم ترشيحي لأباشر تدريبي فيها لكي نعرف منها عنوان مكاتبها والهواتف.
في الغد، كان عليّ أن أصحو باكراً لأقطع المسافة من ساحة جديدة المتن إلى الدورة سيراً على الأقدام، ليمكنني أن أركب «الترامواي» إلى حيث مركز الجريدة.
وصلت بعد محطات عديدة للسؤال عن مقر عملي العتيد، إذ لم يكن معروفاً لكثيرين في ذلك الحي السكني الذي كانت أبرز معالمه مدرسة لبعض الراهبات.
أدخلت على رب عملي الجديد، وكان كهلاً يلمع في عينيه حب الحياة. وسرعان ما تبينت ان الصحافة آخر اهتماماته، وكل ما يعنيه منها انها المدخل الشرعي إلى دواوين الأمراء والشيوخ من أهل النفط، بالإضافة إلى كونها مصدراً للوجاهة واحتلال الصف الأول في اللقاءات مع رجال الدولة.
قال بلهجة حيادية: لست بحاجة إلى موظفين جدد. يكفيني من عندي من أثقال. لكن من أرسلك عزيز عليّ، لهذا سأقبل أن نتولى تدريبك… مجانا!
أطرقت متفكراً، ولم يمهلني فنده على واحد من مساعديه قائلا: خذوه فمرنوه!
كلفت بأن أدور كل صباح على مديرية الشرطة لجمع أخبار «الحوادث» من قتل وسرقة ونشل وخلافه، ثم أقصد مركز الإسعاف والاطفائية للغرض ذاته على أن أعود في موعد أقصاه التاسعة صباحاً لأقدم الحصيلة إلى من هو في موقع «سكرتير التحرير» فيستخدمها وفق حاجته.
كان ذلك يعني أن أقطع كل صباح حوالى خمسة كيلومترات سيراً على الأقدام، مع قفزات متقطعة إلى ومن «الترامواي»… كما يعني ان أستدر عطف رجال الشرطة والاسعاف والاطفائية بصغر سني كي يتكرموا عليّ بما تابعوه أو تضمنته سجلاتهم من وقائع، ثم أعود مسرعاً إلى الصحيفة لأنسقها وأقدمها لسكرتير التحرير. وغالباً ما كنت أجد «الزملاء» وقد التفوا من حول طاولة صفت فوقها بعض صحون الفول وإلى جانبها شيء من البيض المسلوق محاطة بأوراق النعنع وبعض الفجل والكبيس المخلل.
كنت أنتبه عند وصولي إلى أمرين غفلت عنهما خلال مأموريتي: الأول ان العرق يغسل وجهي وعنقي ويرطب قميصي وأحسه يتحدر بطول عمودي الفقري، أما الأمر الثاني فهو أنني جائع، ولا أملك ان أشارك «الزملاء» في الوليمة التي يتقاسمون كلفتها وليس معي ما يؤهلني للشراكة… فيتحلب ريقي، وأتذرع بكتابة ما لدي من حصيلة إخبارية لأنصرف إلى مكتب في الزاوية أجلس إليه مطرقاً حتى يفرغوا من وجبتهم ويعود إليّ من سيتسلم مني ما حصلت من أخبار.
ستمضي ثلاثة شهور قبل ان يتاح لي أن أذهب إلى بائع الفول والبيض فأطلب إليه أن يلحق بي بكل ما لديه، ثم أدخل على زملائي صائحاً بفرح مكبوت: تفضلوا يا شباب، كلوا مرتبي الأول!
[[[
سأتذكر، في ما بعد، أن دخولي إلى عالم هذه المهنة المجيدة قد تزامن، قدرياً، مع مرحلة النهوض العربي العظيم التي يمكن التأريخ ببدايتها مع القرار التاريخي بتأميم قناة السويس ثم بمواجهة العدوان الثلاثي على مصر وهزيمته بإرادة الأمة جميعاً التي كان قائد نهضتها الحديثة، جمال عبد الناصر، قد أكد جدارته بقيادة الثورة التي ستصنع غداً عربياً بهياً، بين عناوينه الاندفاع إلى الوحدة ـ بالحماسة كما بالهرب من الصراعات الداخلية، وبالعاطفة أكثر مما بالعلم والوعي بحجم القوى المعادية والنقص في موجبات المواجهة فكيف بالنصر.
وسأتذكر ايضا ان تلك اللحظة قد شهدت الولادة الجديدة للصحافة في لبنان، لتكون، عبر الموقف من عبد الناصر وثورته والوحدة وتداعياتها، كما بالتضاد مع ذلك كله، صحافة العرب الحديثة: صحافة القضية وصحافة الردة، وفي كل الحالات صحافة جديدة ومتقدمة.
ذات يوم سنكمل هذا الحديث الشخصي إلى حد أنه يخص ثلاثة أجيال أو أربعة.

ـ حكاية
انتقام بالطرب!
قالت الأولى: سأدعوك إلى العشاء مع بعض الأصدقاء، إذا ما تعهدت بعدم الحديث في السياسة!
قالت الثانية: إذا التزمت التزمت.
تلاقت «المجموعة» في مطعم ضجيجه عظيم، تختلط فيه الموسيقى الصاخبة بأصوات الزبائن بقرقعة الصحون والشوك والسكاكين، وكركرة النارجيلات..
كان آخر مكان يصلح للنقاش في أي موضوع، فكيف بالمسائل السياسية؟! برغم ذلك وجد الأصدقاء فرصاً للإدلاء بآرائهم التي تدرجت من الطرب إلى المسلسلات إلى قصص حب مكتومة لبعض من غاب من المدعوين والمدعوات…
جاء المطرب فاحتفى به الحضور، ورشقوه بطلباتهم التي تدرجت من بعض الألحان الشعبية إلى بعض الأغاني الخفيفة، قبل ان يفرض جوا من الهدوء كي يستطيع ان يغني فيطرب. وغنى فتأوه الرجال وتنهدت النساء، ثم غمزت إحداهن للأخرى فإذا ثالثة تنتفض غضبا!
بعد دقائق كانت الطاولة قد تحولت إلى برج بابل: صراخ وقرقعة وصيحات تدعو إلى الصمت… حتى لقد جاء المطرب ليلعب دور «شيخ صلح»، وجال يقبل هذه ويحتضن تلك، يباعد بينهن ويستنخي الشباب الذين نأوا بأنفسهم عن الحلبة مستمتعين بعراك النسوة.
قالت الأولى: هل يعجبك المنظر! انت السبب!
قالت الثانية: ولكنني لم أفتح فمي بكلمة. كنت أسمع الطرب.
وردت الأولى وهي تنصرف مغضبة: لقد خطفته مني!. أتظنين أنني لم أنتبه إلى الغمزات والقبلات الطائرة بينك وبين المطرب. ها أنا أحذرك… سوف أنتقم على طريقتي، سأدعوه إلى حفلة في بيتي ولن أدعوك!

ـ من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ مهما أعطيت حبيبك ستظل تشعر بأنه يستحق أكثر.
ومهما أعطاك حبيبك ستظل بحاجة إلى الأكثر.
ليس للحب مدى، ليس له نهايات.
إحفظ حياتك بحبك يكن لك مع كل يوم عمر جديد.

Exit mobile version