طلال سلمان

هوامش ## كتابـة علـى جـدار مهنـة الصحافـة (5)

بيــروت.. معبــر الفــرح بالثــورات
قال سليم اللوزي، مفتتحا اجتماع التحرير بلهجة تطفح زهواً: «الحوادث» الآن هي المجلة الأولى في لبنان، بلا منازع… والطلب شديد عليها في البلاد العربية…
قهقه نبيل خوري، ثم قال بصوته ذي الدوي: هذا بفضل روايتي… القراء شعب من المكبوتين، وأكثر ما يشدهم الحديث في الجنس وعنه!
قال شفيق الحوت: من حقك ان تنال زيادة على راتبك تعادل الزيادة في التوزيع.
كان وجيه رضوان يهوم مع أخيلته في فضاء القصة القصيرة التي بدأها ثم عجز عن إيجاد الخاتمة الملائمة، في حين شغل نيازي جلول نفسه بإنجاز كاريكاتور لنبيل خوري وهو يهرب عارياً تطارده قافلة من النساء بالمكانس.
همست شكورة للفتى الذي اعترفت به الآن زميلاً: بل ان تحقيقاتنا هي سبب النجاح. اننا نتابع هموم الناس، وهذا ما يريدون.
ابتسم بينما كان «البيك» يصدر الحكم: «الحوادث» هي أول مجلة سياسية في لبنان، انها سياسية من صفحتها الأولى وحتى آخر صفحة، ولها وجهة نظر في ما يكتب وينشر فيها. قبلها كانت المجلات اشبه بنشرات شخصية، تتحزب لزعيم وفريقه وتنسى الآخرين. ثم انها، عموماً، كانت محلية جداً. «الحوادث» مجلة عربية، وهذا بين اسباب النجاح.
استعرضوا «الأوضاع». كانت سوريا تعيش حالة صراع مفتوح بين الأحزاب والسياسيين من جهة والعسكر من جهة اخرى. وكان الكل يلجأ، بل يهرب إلى جمال عبد الناصر في القاهرة، ثم صار الهرب طلباً للنجدة، وأخيراً تبلور على شكل اصرار على «الوحدة الفورية». وكان بين الذرائع التهديدات التركية لسوريا، التي كانت تستبطن تهديداً غربياً لحركة القومية العربية الناهضة، كما رأى العروبيون آنذاك. وكانت مصر قد استجابت فأرسلت بعض الكتائب العسكرية لتشارك في مواجهة الضغوط التي تمارسها دول حلف بغداد الذي أقيم لمواجهة العروبة التي باتت لها الآن ترجمة سياسية واضحة، ممثلة في نهج عدم الانحياز ودعم حركات التحرر في أفريقيا أساساً ثم في آسيا وأميركا اللاتينية، انطلاقاً من القاهرة ومعها.
وكان يحلو لمنح الصلح ان يستعيد لقاءه بين الحين والآخر، مع الرئيس عبد الناصر، على هامش مؤتمر باندونغ للتضامن الآسيوي ـ الافريقي، بصحبة عمه تقي الدين وحميد فرنجية.. ولعله لم يجد في ذلك القائد المصري، الشاب، آنذاك، ما يبرر التسليم بزعامته للأمة.
[ [ [
÷÷ في 22 شباط 1958 قامت «الجمهورية العربية المتحدة» نتيجة اندماج مصر وسوريا تحت قيادة جمال عبد الناصر، والتهب الوطن العربي حماسة، ونزلت الجماهير في مختلف الأقطار إلى الشارع ولم تغادره.. وعاشت بيروت ومعها طرابلس وصيدا وصور والبقاع والجنوب ومعظم الجبل أيام عيد مفتوحة، قبل ان يزحف اللبنانيون إلى دمشق التي جاءها عبد الناصر اول مرة فعاشت معه أياماً اسطورية، سرعان ما تمددت إلى مختلف انحاء سوريا. كانت الجماهير، فعلاً، رمل البحر وصخر الجبل وغابات متصلة من البشر، رجالاً، شيوخاً وشباناً وفتية ونساء.
وعاشت «الحوادث» فرحة هذا العيد القومي العظيم، وكتب الجميع عن الإنجاز التاريخي، وعن عودة العرب إلى الحياة، وإلى الإمساك بقرارهم وصنع غدهم.. وهكذا سمح للفتى ان يكتب في السياسة، لأول مرة.
وكالعادة انقسم اللبنانيون حزبين: أكثرية شعبية مع عبد الناصر، وأقلية فاعلة ومؤثرة تعارضه يتزعمها رئيس الجمهورية، آنذاك، كميل شمعون، الذي لم يكن يخفي قربه من الغرب ورغبته في ضم لبنان إلى بعض أحلافه. وبلغ الانقسام حد إدانة من يتعاون مع شمعون في الحكومة وتوقيع الحرم عليه واعتباره «منبوذاً».
بالمقابل كان ثمة اعتقاد عند الطبقة السياسية ان شمعون يسعى إلى ولاية رئاسية ثانية، بدليل انه ابتدع قانوناً جديداً للانتخابات ضمن له ان يأتي بأكثرية عددية وازنة، ثم شكل حكومة لا تعرف ان تقول «لا» له او للغرب عموماً وللأميركيين منه بشكل خاص.
نزل الانقسام إلى الشارع، وتوترت الاجواء، وتباعدت المناطق بحسب ألوانها الطائفية، وصار «حزب الكتائب» الركيزة الشعبية لكميل شمعون، وخرج جناح متلبنن من الحزب القومي، وانشأت السلطة «ميليشيا رسمية» تحت مسمى «الأنصار»، في حين تكتلت المعارضة في جبهة اتحاد وطني جمعت إلى صائب سلام حميد فرنجية وكمال جنبلاط وصبري حمادة وأحمد الأسعد وأحزاباً بينها الشيوعي والتقدمي الاشتراكي والقومي السوري (الأصل) وشخصيات لها وزنها في مختلف المناطق.
[ [ [
في 14 تموز 1958 لعلعت صيحات الفرح في الدنيا العربية: قام عبد الكريم قاسم ومعه عبد السلام عارف بانقلاب عسكري في العراق أودى بعرش الملك فيصل الثاني وحياته ومعه خاله الوصي على العرش عبد الاله، ونوري السعيد وكثير من أركان العهد الملكي.. ودخلت القاموس السياسي كلمة «السحل»، بعدما مورست هذه العملية الوحشية على العديد من أركان العهد الملكي.
[ [ [
÷÷÷… والتهبت بيروت: تظاهرات شبه يومية تهتف ضد شمعون واميركا والغرب، تحيي عبد الناصر وثورة العراق، وفي صفوفها من يهتف للوحدة مطالباً بانضمام لبنان إلى دولتها، خصوصاً وقد انتعشت الآمال باندماج العراق فيها.
نزلت قوات من الأسطول السادس على شواطئ بيروت (في خلدة والمطار أساساً)، وكان القرار بإنزال الجيش إلى الشوارع، كقوة فصل، بعدما رفض اللواء فؤاد شهاب ان يستخدم الجيش كطرف في النزاع الأهلي.
[ [ [
بات على الفتى ان يمر بعدد من الحواجز العسكرية وهو يمشي من خلف قصر فرعون، مروراً بساحة رياض الصلح، صعوداً في الخندق الغميق حتى مطبعة دار الغد.. وكانت المشكلة تزداد تعقيداً إذا ما تأخر في عمله حتى ما بعد الغروب.
توالت التهديدات على «الحوادث» بشخص صاحبها، فقرر سليم اللوزي ان يغيب عن الأنظار ولبعض الوقت، خصوصاً ان طريقه اليومية تمر بمحاذاة القصر الجمهوري في القنطاري. وهكذا صحب عائلته إلى دمشق، فانزلها في فندق سميراميس حيث كانت تنتظره مأساة مفجعة، إذ سقط ولده الوحيد (ربيع) من فوق شرفة عالية فقضى نحبه.
فرغت «الحوادث» من معظم أركانها، ولم يتبق فيها إلا شفيق الحوت الذي بات المدير العام ورئيس التحرير وأمين الصندوق، والمحرر السياسي، في حين بات الفتى ـ بالاضطرار ـ معاوناً له، يحاول ملء الصفحات غير السياسية بإعادة كتابة بعض القديم المخبوء، ويلخص المواقف والتطورات «الميدانية» مضيفاً إليها بطبيعة الحال، عواطفه الشخصية.
كان على شفيق الحوت ان يقصد يومياً منزل صائب سلام في المصيطبة ليتابع حركة الاتصالات والمشاورات والميدانيات، خصوصاً ان «الشباب» قرروا إنشاء تنظيم مسلح يواجه «الأنصار»، ويؤمن «الأحياء الوطنية»، مستقدمين ما تيسر من سلاح (خفيف طبعا) من سوريا.. وهكذا نشأت «المقاومة الشعبية» بقيادة شهاب الدين.
وكان «البيك» يأتي، بين الحين والآخر، فيكتب او يملي بعض مقالاته، ويساعد من يجده في المكتب بالأفكار او بالنصوص أحياناً..
أما الفتى فكان يتلقى الاتصالات، ويتابع اخبار المناطق، ويلخص البيانات والتصريحات، ثم «يخربش» مشاريع اقتراحات للغلاف والعنوان الرئيس.
[ [ [
÷÷÷÷ كان منزل صائب سلام أشبه بمقر لمجلس قيادة الثورة، او ان «أبا تمام» أراده كذلك. يأتي إليه الصحافيون الأجانب ويستقبلهم مستشاره النحاس او الناطق باسمه علي المملوك، فيرسمان اطار الصورة الملائمة لقائد الثورة قبل أن يدخلاهم على «صائب بيك».
ولقد حدث ان كان الفتى بصحبة شفيق الحوت في دارة آل سلام، حين خرج احد مساعدي البيك يسأل: من منكم يعرف الفرنسية؟
لم يتقدم أحد لادعاء المعرفة، وأحس الفتى بشيء من الحرج حين التفت إليه شفيق الحوت سائلاً: ألست تعرف الفرنسية؟!
ارتبك الفتى، فهو يعرف اللغة، لكنه لا يعرف كيف سيمكنه ترجمة ما سوف يقوله صائب بيك.. قال شفيق: ادخل وحاول.. هيا، وقت الصحافيين الأجانب ضيق، ليس كوقتنا.
دخل الفتى مرتبكاً، يدفعه شفيق الحوت، ليسأله صائب سلام: اواثق أنت انك تعرف الترجمة من العربية إلى الفرنسية؟!
هزّ الفتى برأسه، بينما قال الحوت: انه يعرفها تماماً، لكنه خجول، ثم انه لم يتعرّض لمثل هذا الموقف.
أدخل الصحافيان الفرنسيان، فسلما وجلسا وطفقا يسألان، وصائب بيك يركز نظره على الفتى منتظراً منه الترجمة، لكن الفتى كان له رأيه، وهكذا فقد تدخل ليصحح بعض التعابير او أسماء بعض الأشخاص او أسماء المناطق، ولم يطق صائب سلام صبراً فسأله عما يتبادله معهما من المعلومات، وهل هي من طبيعة عسكرية او سياسية، فلما أخبره انها تتصل بالبديهيات تنفس الصعداء، وسأله: هل أنت جاهز؟! فأومأ له ان نعم، فقال: اذن فليبدأوا..
دار «الحوار» سلساً وان تكشفت في ثناياه ألغام، ورد صائب بيك بما يناسب المقام.. ولما انهى الصحافيان مهمتهما وقاما للانصراف أشار «قائد الثورة» إلى الفتى ان ابقَ معي، فبقي..
بعد إتمام مراسم الوداع، باللياقة المشرقية المعروفة، توجه صائب بيك إلى الفتى يسأله: ما رأيك؟! وقبل ان يجيب الفتى، اكمل السياسي الذي اشتهر بالقرنفلة في ياقة سترته والسيكار في يده، فقال: كيف كانت المقابلة؟! كانت جيدة، أليس كذلك؟ وأومأ الفتى برأسه ايجاباً، فعاد صائب بيك يلح: لم تقل لي رأيك. أنا رأيي إنها ممتازة.. أليس كذلك؟
تحاشى الفتى الرد الصريح، مكتفياً بهزة من رأسه، فعاد صائب سلام يلح عليه: هل قلت كلاماً كبيراً؟!
شجع الفتى نفسه وأومأ برأسه ان «نعم»، فبادر صائب سلام قائلاً: بشرفك، بشرفك، شو الفرق بيني وبين عبد الناصر إلا ان بلده أهم من بلدي الصغير هذا؟!
بهت الفتى، ولم يحر جواباً، ثم استأذن في الخروج، وطفق يبحث عن شفيق الحوت، فلما وجده قال له بصوت مشروخ: إنه يشبه نفسه بعبد الناصر!
لم يعلق الحوت، وان جحظت عيناه الواسعتان، ثم قال بعد دقائق من الصمت: نحن في حالة غير طبيعية، فانس الأمر!
لكن النسيان كان شبه مستحيل بالنسبة إلى من كان يرى في جمال عبد الناصر قائداً فذاً يكاد يوازي في مواهبه القيادية الرسل والأنبياء..
كان عليه ان يصمت، فلا يعود إلى رواية ما حدث معه وله خلال هذا اللقاء اليتيم مع قائد الثورة في لبنان الذي استخدم مقاييسه للحكم على حدث محلي هو ـ في نهاية المطاف ـ تفصيل في حركة الثورة العربية التي كانت، آنذاك، تدفع المنطقة جميعاً نحو القطع مع ماضيها الذي تحكّم في صنعه المستعمر لتتصل مع مستقبلها الذي كان في التمني، رهناً بقدرة الثورة على اعادة صياغة الحاضر ليتناسب مع آمالها العراض.
[ [ [
÷÷÷÷÷ قال شفيق الحوت للفتى الذي غدا الآن مساعده: لماذا لا تنام في المكتب، بدلاً من مخاطر التنقل، لا سيما في ساعات منع التجول.
اختار الفتى مع الساعي ابراهيم احدى الغرف لتكون «البيت». جاء ببعض المعلبات والخبز، وتم تعزيز مؤونة القهوة والشاي، وسقطت التراتبية، فإذا بابراهيم يرفض ان يقوم بالتنظيف يومياً، مطالباً بالمداورة.. وكاد الفتى يخضع لقوة الأمر الواقع لولا ان شفيق الحوت ـ الذي كان يطل عليهما من نافذة بيت أجداده، الملاصق للمكتب، ليلاً، لإعادة النظام وحفظ المقامات!
أما جلول، الذي كان ينام عارياً، ربي كما خلقتني، فقد أثار أزمة عندما أمره شفيق الحوت بأن يغلق النوافذ، ليلاً. قال: الدنيا صيف، وبيروت جحيم، وأنا وحدي، من سينظرني؟! من سيلفته هذا الهيكل العظمي الذي أبرز ما فيه نظارتي؟
دارى شفيق ابتسامته، وقال بلهجته الخطابية: أنا أمنعك من الظهور عارياً حرصاً على سلامة الذوق العام، وليس لأنني أخاف على بنات الحي من السقوط في شراك جاذبيتك.
وجاء جلول بجلابية اخذ يرتديها مساء حتى يغادر شفيق، فيطفئ الأنوار ويتجول عارياً بين المكاتب الفارغة، وسط صيحات الإعجاب يطلقها «ابراهيم»، قبل ان يندفع ليراقصه، متحملاً شتائمه واللعنات.
[ [ [
÷÷÷÷÷÷ في المطبعة كانت «الأكثرية» مع النقيب فؤاد، وان ظهرت «أقلية» يتزعمها المعلم جورج الذي يأخذه إعجابه بكميل شمعون إلى التطرف في السياسة. وفي احدى جلسات النقاش تورط المعلم جورج فوصف عبد الناصر بأنه «دكتاتور»، جاء بانقلاب وليس بالانتخابات فإذا بالنقيب يتصدى له متهماً منطقه بالطائفي.
وصلت «هيفاء» في الوقت المناسب، فتوقفت المباراة، قالت: أرى انكم تتحدثون في السياسة.
وسمع «الفتى» اول درس في الديالكتيك، قال فؤاد نصر الدين: ستنا، السياسة هي الحياة. إدارتك لهذه المطبعة سياسة، إدارتي للإنتاج هنا سياسة، الصراع المفتوح في البلاد الآن سياسي، بل ان محاولة صبغه بالطائفية سياسة. حتى ما يكتبه هذا الفتى في بريد القراء في المجلة التي نطبعها سياسة برغم ان ليس فيها كلمة واحدة في السياسة بمعناها المباشر. السياسة هي فن التعامل مع الحياة بقدر ما هي تحمل المسؤولية عن الشؤون العامة.
قالت هيفاء وهي تضحك: انتم أحرار في خلافاتكم، ولكن دعوا هذا الفتى يبني نفسه بإرادته وليس بآرائكم.
وشعر الفتى بأنه قد غدا له جناحان وآن له أن يطير!
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ غبي هو العاشق الذي يدخل حبه في مبارزة مع المال.
الحب إرادة والمال طموح.
قلة من العشاق هم الذين انتصروا بحبهم على وهج الذهب، لذلك نعرفهم ونتناقل حكاياتهم جيلاً بعد جيل.

Exit mobile version