طلال سلمان

هوامش ## كتابـة علـى جـدار مهنـة الصحافـة (4)

الفتى يدخل جنة الصحافة من باب الكبار:
«البيك» يملي على «الأستاذ» و«الحوت» يخطب و«الخوري» يهرب إلى الجنس

حين جاءه الساعي إبراهيم الحلبي ليبلغه ان «الأستاذ» يريده ارتبك وداخله خوف عظيم، والتفت إلى شريكه في الغرفة وجيه رضوان فابتسم وهو يشير له ان تماسك وارفع رأسك… لكنه كان غارقاً في تساؤلات القلق: هل أخطأ في تصرف؟ هل قصر في التصحيح؟ هل تكشف خطأ فادح في الصفحات، في العناوين أو في الأسماء أو في النصوص؟
مشى في الطرقة مطرقاً، طرق الباب متهيباً والعرق يغطي وجهه، وحين سمع صوت سليم اللوزي يأمره بأن يدخل زاد ارتباكه وانسل إلى داخل المكتب ووقف قريباً جداً من الباب كأنه يتأهب لأن يهرب.. كان «الأستاذ» واقفاً أمام مكتبه تغطي وجهه ابتسامة لم يعرف كيف يقرأها: هل هي ساخرة تمهد لتهكم جارح، كما ألفت «الاسرة» من «أستاذها»، أم هي مدخل مريح لقرار مزعج؟!
قال سليم اللوزي بلهجة رب العمل: أخبرتني انك كنت تتقاضى، في آخر عهدك بالجريدة اليومية التي عملت فيها، ثلاثين ليرة في الأسبوع، أي مئة وعشرين ليرة في الشهر. ستقبض هنا، في فترة التجربة، ولمدة ثلاثة أشهر، مئة وخمس وعشرين ليرة شهرياً. أما ما سوف يكون عليه مرتبك، إذا ما نجحت، فذلك يتوقف عليك.
لم ينبس الفتى ببنت شفة. كان وجهه ينضح عرقاً وبعض السحاب يغطي عينيه. هم بأن يعترض، ثم قرر ـ بسرعة ـ ان يعتصم بالصمت بوصفه جدار الأمان. قال سليم اللوزي: أنا بدأت بمرتب قدره بضعة قروش.. وها أنت تراني صاحب مجلة «قد الدنيا». غدا سوف ينسيك النجاح البدايات الصعبة وستتقاضى مرتباً ممتازاً. أبوك أحسن حالاً من أبي. أبي مات وصدر المعلل فوق رأسه. يدور في أحياء طرابلس ليبيع حلوى مكشوفة في المدينة التي اشتهرت، أكثر ما اشتهرت، بحلوياتها المميزة.
غاص في قلق ممض، ثم انتبه إلى ان «الأستاذ» ما زال يتحدث إليه، وسمعه يكمل فيقول: … ولقد هجرت البيت ومعه المدينة، ثم لبنان كله، وقصدت فلسطين التي كانت جنة العرب، واللبنانيين أساساً، قبل احتلالها، وأنا لا أعرف أحداً فيها. قصدت يافا. كنت قد سمعت عن موظف طرابلسي في محطة «القسم العربي من الاذاعة البريطانية» وكانت تعرف باسم «إذاعة الشرق». كنت مستعداً لأن أعمل حارساً أو خادماً أقدم القهوة لضيوفها. وحدثت المفاجأة.. عطف عليّ بعض العاملين فيها، واحتضنني واحد منهم. قال لي: خذ هذه الكتب فانسخها! لم أفهم قصده قال: تنسخها فتعرف اللغة.
كان الفتى يستمع مطرقاً، يحاول تجميع أحلامه المتكسرة، ويجري في ذهنه عمليات حسابية معقدة… وانتبه إلى سليم اللوزي وهو يرفع صوته بالقول: ألم تسمع حبيبك عبد الناصر وهو يقول «ارفع رأسك يا أخي».. هيا إرفع رأسك. أفهم خيبة أملك، لكنها الخطوة الأولى. هيا إلى عملك، المستقبل أمامك فلا تضيعه بالتسرع وحسابات الفقير!
لم يكن يملك أن يتسرع. كان يحسب، بصمت نفقاته اليومية. من بيت عمته، حيث حل ضيفا ثقيلاً على صهره الطيب، في شارع مارون مسك، في الشياح، حيث كانت اسطبلات الخيل تحتل مدخله، إلى المقاصد ـ البربير، ثم في الترامواي إلى ساحة البرج، ثم مشياً على قدميه إلى الشارع الذي خلف قصر فرعون. الغداء فلافل، أو ما يعادلها.. ولا بد من ميزانية للكتب القديمة يستعرضها ثم يختار منها المنزوعة أغلفتها لأنها الأرخص، ثم نفقات الرحلة الاسبوعية إلى بيت العائلة الذي غدا الآن في طرابلس، بعدما نقل الوالد إلى «الفوج السيار» فيها، وهو أمر أزعجه كثيراً، ومن العيب ان يصل بيد فارغة. وأحياناً يستغرقه العمل فينسى ان يتغدى. يعزي نفسه: سأشتري السندويش مساءً.
انتبه فجأة إلى صوت «الأستاذ» الذي ارتفع حتى غدا أقرب إلى الصراخ: أين سافرت؟! ألم تسمعني، طبعا. تريد مرتباً محترماً وأنت تكاد لا تعرف شيئاً. ستدفع ثمن المعرفة، كما دفع كل الذين سبقوك وكل الذين سيأتون بعدك. هيا إلى عملك… وقد أفكر في ان أعوضك قروش النقليات!
[[[
في المطبعة لاحظ «النقيب» فؤاد نصر الدين ارتباكا في حركة الفتى، فاقترب منه يسأله: ما الأمر؟! ولم يكن بحاجة لأكثر من هذا السؤال كي ينفجر: قرر لي مثل ما كنت أتقاضاه في عملي السابق، وهذا ظلم.
أخذه «النقيب» إلى الغرفة الزجاجية للإدارة، واندفع يشرح له كم ان البدايات تكون صعبة. روى له وقائع من حياته وحياة زملاء له. وقال ان عليه ان يصبر، وان يفصل بين أدائه لعمله وبين أجره عنه: أنت تعمل لنفسك. أنت تؤسس نفسك. عليك ان تدفع الآن لتجني في ما بعد. هذا هو قانون السوق. وأنت فتى والفرصة التي أتيحت لك ممتازة، العمل في مجلة ناجحة يزيد في رأسمالك للمستقبل. خذ، نفخ هذه السيكارة واهدأ، ثم عد إلى عملك فأتقنه.
وصلت «هيفاء» فقاما يعتذران عن اللجوء إلى مكتبها. قالت: لا بد أن الأمر خطير!
للحظة، تمنى لو أنه يستطيع ان يعرض لها شكواه، لكن «النقيب» طمأنها: أبداً، كنت أحكي له بعض حكايات نضالنا النقابي.
وابتسمت هيفاء، ثم ضحك الثلاثة، لأن «الكذبة ـ الذريعة» لم تجز عليها.
[[[
بعد الظهر، جاء «ابراهيم» يستدعيه للقاء «الأستاذ»، وكان صخب الأصوات التي تخالطها القهقهات يدل على ان اجتماع التحرير لتحديد موضوعات العدد المقبل منعقد. دخل فرحب به «الأستاذ»: ستحضر معنا، كل أسبوع. هذه مكافأة بألف ليرة!
جلس يستمع إلى المناقشات التي كانت تتخللها أخبار تكشف أسراراً وأحياناً فضائح شخصية لبعض الطبقة السياسية، رجالها والنساء. وكان نبيل خوري متخصصاً في الفضائح الجنسية، وله أسلوب ممتع في روايتها، مع الاضافات والهوامش التي سرعان ما يشارك فيها الآخرون. وكان سليم اللوزي يستذكر فضائح مماثلة حدثت في مصر، بينما شفيق الحوت يغتنم الفرصة لإدانة السياسيين في لبنان لأنهم بلا أخلاق. أما «البيك» فكان يستمتع بالسماع، مطلقاً بين الحين والآخر تعليقاً طريفاً، أو مضيفاً وقائع منسية عن «أبطال» الفضيحة الجديدة.
كانت التشكيلة التي تتكون منها الأسرة فريدة في بابها: سليم اللوزي صحافي محترف وصاحب خبرات معتقة، له أسلوب قصصي ممتع وان خالطته المبالغة «وهي من حق الراوية». اما شفيق الحوت فحامل صليب فلسطين، مع حرص على امتيازات بيروت، أما الأمل فمعقود على جمال عبد الناصر، بطل الثورة… وغالباً ما يقاطعه «الأستاذ» مذكراً بانه لا يخطب في حشد لطلاب الجامعة الأميركية، مع التنويه بقدرته المميزة في تعبئة الجماهير، بينما ينتبه نبيل خوري الفلسطيني هو الآخر إلى ان عمله في «صوت أميركا» يمنعه من الكتابة في السياسة فينتقم بأن يكتب في الجنس!
قال لي سليم اللوزي: ستذهب غدا، بصحبة شكورة، إلى فكتور ومي موسى. هناك مشروع كبير يشرفان الآن على إنجازه هو كازينو لبنان. الموقع بعد جونيه مباشرة، وفي الدعاية يقولون انه على بعد اثني عشر كيلومترا من بيروت، قاطعه نبيل خوري بضحكته المجلجلة: يعني خلال ربع ساعة في السيارة تصل إلى حيث تخسر كل مالك، ثم تعود ماشياً.
قال اللوزي: لا تأبه لما يقول. هذا مشروع مفيد للبنان. سيأتي أغنياء العرب والنفطيون خاصة فيلعبون… ما همنا ان خسروا طالما أنهم يستمتعون!
[[[
في اليوم التالي قصدنا إلى حيث سيقام مبنى الكازينو (الحالي). كان الزوجان موسى في انتظارنا، وبهرت شكوره بجمال السيدة مي، ولم أكن أملك ترف الانبهار. جلنا بين الشوك والصخور في الوعر، والمصور يلتقط الصور، وعدنا مجرحي السيقان، لنكتب ما سنكتشف انه اعلان مدفوع. وكانت مكافأة كل منا: غداء في المكتب على حساب «الأستاذ»!
جلست أحاول الكتابة وشكوره تقرأ ما سجلته من ملاحظات. أقرأ فتعترض ثم تعود فتوافق، وبعد «عراك» طلبت ان تتركني أنجز ثم تقول رأيها دفعة واحدة. ومر بنا سليم اللوزي فاصطحبها قائلا: دعيه يكتب، وسأراجع النص معك.
بعد ساعتين من الكتابة والتشطيب والاعادة، انهيت العمل، وقمت والموضوع في يدي لأعرضه على «الأستاذ»، فوجدته قد كتب التقديم ووضع العناوين… وتناول ما كتبت فشطب، وحذف، وأضاف، وشكوره تروي بعض مشاهداتها، وتستدرك بعض ما كانت نسيته، فيضع الأستاذ إشارة، وبعدما فرغ من مهمته طلب إليّ ان أعيد الكتابة مع ملاحظة وجدتها قاسية. قال: عليك ان تتعلم كيف تكتب بلغة أبسط. هذا أسلوب أدبي احتفظ به لأعمال أخرى. استفد من عين المرأة أيها الخنشور! انها ترى ما لا نراه. ألم تنتبه إلى ملاحظاتها حول ثياب مي موسى وتسريحتها، وحول نظرات الوله في عيون زوجها. استفد من غيرة الأنثى!
وكان ذلك أول درس في الكتابة الصحافية!
[[[
لم يكن لي في المكتب، أول الأمر، الكثير مما يشغلني، فصرت أتسلل إلى مكتب «قائدي» شفيق الحوت، وغالبا ما أجد معه منح الصلح وهما يتداولان في ما سوف يكتبه «الفلسطيني الثائر» ويهدئ من تطرفه «البيك» بغزارة معلوماته التاريخية مشفوعة بتعليقاته الطريفة، غالبا، والساخرة أحيانا.
كان للبيك الذي رفض دائماً ان يوقع ما يكتب، او يستكتب فيه غيره، أسلوبه المميز، بحيث يمكن ان تعرف نصه حيثما وجدته. فلغته خاصة به، وثقافته واسعة تمكنه من الابحار براحة، ويمكنه ان يلجأ إلى الايماء والتلميح والايجاز من دون ان يخل بالسياق، ومن دون ان يفصح عن كل ما يعرف. وكان سليم اللوزي يلجأ إلى ادخال بعض تعبيراته الخاصة فينكشف أمره أمام رواد مطعم فيصل الذين غالباً ما سمعوا شفاهة بعض المقالات التي ستصدر في «الحوادث» بعد يوم او يومين بتواقيع عدة.
وكان نيازي جلول يتسلل إلى مكتب شفيق الحوت فيسمع ما يغني ريشته عبر التوصيف الكاريكاتوري الذي يبرع فيه منح ويضيف اليه شفيق، للشخصيات السياسية او الاجتماعية، اللبنانية منها والعربية.
توقف «البيك» فجأة ليسأل جلول: من أي بلدة أنت؟
قال نيازي بلغته الخاصة وترجمت اسم بلدته: راس مسقا، في الشمال، قبيل طرابلس، ومدخل الكورة البحري.
اندفع المفكر الكبير الذي يعرف البلاد العربية جميعاً، وله أنسباء في معظم مشرقها، فضلاً عن تركيا، مسقط رأس والدته، يشرح لنا معنى اسم الكوره، ولماذا أطلقت عليها هذه التسمية، ثم أبرز العائلات ذات الوجاهة، سياسياً او اجتماعياً فيها، وقبل ان يهم بأن ينتقل إلى طرابلس، طلب شفيق الينا ان ننصرف كي يكمل عمله، وانصرفنا وقد غرق نيازي جلول في ذهول سيتطلب منه وقتا غير قصير ليهضم الوقائع التي سمعها عن منطقته وموقعها في تاريخ لبنان الحديث.
[[[
كان الفتى في المطبعة، منهمكاً في عمله، حين اقتربت منه «هيفاء» وهي تقول: اسمح ان أهنئك! لم أكن أعرف أنك تكتب، وان لك أسلوبك المميز. اعتبرت أنك مصحح فحسب. ومع ان لغتي العربية ليست ممتازة الا أنني قرأتك فاستمتعت.
كاد يطير فرحاً، وتمتم يشكرها من دون ان يرفع رأسه، فهتف به النقيب فؤاد: أنظرها وهي تتحدث اليك او تتحدث اليها!
رفع رأسه، ونظر، ثم أطرق مجدداً وهو يقول: كلماتك ستشجعني كثيرا.
قالت: لك اسلوبك، لغتك مختلفة عن الآخرين. برافوا!
في المكتب لم يخبر أحداً الا جلول الذي لم يهتم إلا بسؤاله عن ثروتها، في حين بادره وجيه رضوان الذي سمع الحديث بالمصادفة: حظك طيب، فأنت ترى ـ حتى تحت الأرض ـ وجها جميلاً، وتسمع مديحاً من امرأة عندها عقل وذوق.
بعد ساعة كان شفيق الحوت يستنطقه: هل أنت من سألها رأيها؟ هل أثقلت عليها بغرورك؟
أما في جلسة العصر فقد صارت حكايته مع هيفاء موضع تندر الجميع. ومع ان «البيك» شارك في «الحفلة»، الا انه همس في أذنه: لا تهتم لما يقولونه! انتبه إلى أسلوبك ولغتك. هذا رأسمال عظيم!
في اليوم التالي، فاجأته هيفاء، بينما هو منهمك في تصحيح بعض المقالات بأن تقدمت لتهديه قلماً أنيقاً. قال متلعثما: ولكنني لا أستطيع أن أرد بهدية! ضحكت وهي تقول: غدا بعد ان تصير كاتباً معروفاً يمكنك أن ترد التحية بأجمل منها!
عادت هيفاء إلى مكتبها، فطار فرحاً إلى المعلم فؤاد ليخبره همساً سره الحميم، الذي رأى وقائعه وسمع كلماته عمال المطبعة جميعاً.
في طريق العودة إلى بيت عمته، ماشياً من عند المقاصد إلى شارع مارون مسك، في المياه المشتركة لبلديتي الشياح ـ الغبيري، انتبه إلى انه لن يستطيع غداً ان يشتري سندويش الغداء، إلا إذا وافق جلول على «إقراضه» ليرة لسداد «مصاريفه» في انتظار راتبه الأول الذي انتبه ـ الآن ـ إلى انه «ثروة هائلة»!

من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ المحبون متطلبون. هي تريد أن تسمع منه اعلان حبه كل دقيقة، وهو يعتصم برجولته كي تعترف أولاً.
أما أنا فأعلن حبي، كل لحظة، وبوسائل متعددة، ليس بينها الكلام!

Exit mobile version