طلال سلمان

هوامش ## كتابـة علـى جـدار مهنـة الصحافـة (2)

يوميات منسية عن بدايات رحلة لا تنتهي:
ابن الدركي يدخل الصحافة من باب الشهيد نسيب المتني

بمصادفة قدرية، دخل الفتى عالم الصحافة فعلاً… وهكذا انتقل من عمله الهامشي كمخبر حوادث في صحيفة ظهرية، يوفر له الحد الأدنى من أسباب العيش في بيروت، إلى «محرر تحت التمرين» في مجلة فنية سيكون لها شأن في مسيرة الصحافة في لبنان، وستكون مدخله إلى مهنة لحياته.
كان والده الرقيب الأول في الدرك قد نقل، بغير طلب وخلافاً لرغبته، من رئيس مخفر لبلدة جميلة ووادعة، هي المتين، إلى سجن مستشفى الكرنتينا ليكون رئيساً لمخفر مهمته «رعاية» قلة من سجناء الدرجة الأولى.
الحال هي الحال في «الخارج» كذلك داخل السجن: فالأعيان والوجهاء من أبناء البيوتات والأغنياء وأصحاب النفوذ لا يجوز ان يعاملوا وأن يكونوا في مكان واحد مع مساجين الرعاع وأبناء السبيل من رعاياهم. ومع ان «القاتل» من أولاد العائلات يُحاكم، أحياناً، وقد يصدر الحكم بسجنه إذا ما تعذر «شراء» بديل من الفقراء، الا انه من المعيب ان يذهب كما الفلاحين والأجراء من النكرات إلى السجن العمومي كحبس الرمل… ومن هنا كان يتم ترتيب الأمر بهدوء: يدعي صاحبنا انه مريض وان مرضه خطير بشهادة تقرير من طبيب شرعي مخلص ليمين أبو قراط، فيصدر الأمر بنقله إلى هذا السجن الذي أنشئ في قلب مستشفى الكرنتينا لأمثاله: له غرفته المكيفة، وله مقعده في الصالون الذي يستقبل فيه الأهل والضيوف، وله طعامه الخاص الذي يعد في المنزل أو يؤتى به من أفخم المطاعم ساخناً، وله الشرفة التي يمكنه ان يتمشى فيها إذا هجره النوم، ثم ان له كتبه أما الصحف فتأتيه صباحاً ومعها ما صدر من مجلات.
ولأن رجال الدرك من «المأمورين» فليس من حقهم أن يناقشوا فكيف بأن يعترضوا… ثم ان أمثال هؤلاء المساجين «كرماء» على «سجانيهم»، وقد يشركونهم في طعامهم المحمول ساخناً من البيت، بل وقد يتشفعون لهذا الدركي أو ذاك العريف إذا ما طاولته عقوبة او رغب في الانتقال إلى موقع آخر في «الجمهورية اللبنانية الفاضلة».
÷÷ في تحية الشهداء..
كان الفتى يزور والده مرة كل يومين، يحمل اليه بعض ما عرفه من أخبار البلد والمنطقة، ليضيف إلى معلومات «صف الضابط» المسيس الذي كان يتابع الأحداث وتطوراتها في جوار لبنان، ولا سيما في سوريا وفي مصر جمال عبد الناصر الذي كان قد غدا بطل الأمة إثر الانتصار السياسي الباهر الذي سجله بتأميم قناة السويس، ثم بالتصدي للعدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا ومعهما اسرائيل على مصر، بذريعة حماية الملاحة الدولية في ذلك المعبر المائي الاستراتيجي الرابط بين البحر الأحمر ومن خلفه المحيط الهادي وأوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط.
يوم 8 أيار 1957 جاء الفتى إلى أبيه بخبر سيغدو نقطة تحول في تاريخ لبنان السياسي: لقد اغتال «مجهولون» أبرز الصحافيين الشعبيين في لبنان، نسيب المتني، صاحب جريدة «التلغراف» ورئيس تحريرها، بل محررها الأساسي.
كان نسيب المتني من أولئك العصاميين الشرفاء، وقد بدأ عاملاً في المطبعة، ولم يكن يحسب انه سيأخذ المهنة عن أصحابها فلم يكن له نصيب من الثقافة لكن ضميره كان يقظاً.. وقد باشر كتابة الأخبار ثم التعليقات بالاضطرار، وكان يهتم بإثارة قضايا الناس والتركيز على همومهم بلغة بسيطة وبأسلوب مباشر فيه قدر عظيم من الجرأة. وحين آلت اليه «التلغراف» جعلها على مثاله، وهكذا فقد باتت صوت المعارضة، كل معارضة، وبالتالي صوت العمال والفلاحين وصغار الكسبة والمظلومين والمغبونين والذين لا صوت لهم..
وكان الانقسام السياسي في لبنان يتفاقم، خصوصاً وقد اختار كميل شمعون ان ينضوي في المعسكر المناهض للحركة العربية المتعاظمة شعبية ونفوذاً. وهكذا صارت «التلغراف» جريدة المعارضة، وصار نسيب المتني صوتها القوي، بلغته البسيطة حتى تكاد أن تكون عامية.
وقعت الجريمة صباحاً، واختفى مرتكبوها… واهتز لبنان كله، وسرعان ما وجهت المعارضة الاتهام إلى الرئيس شمعون والسلطة عموماً… بل لعلها وجدت فيها «قضية شعبية» من الدرجة الأولى توفر لها السلاح الأمضى ضد «العهد» الذي كان رئيسه قد أصدر قانوناً جديداً للانتخابات أعاد فيه تقسيم الدوائر وتحديد عدد المقاعد في كل منها، بحيث يضمن إسقاط خصومه السياسيين جميعاً من دون الحاجة إلى التزوير! لقد عدل شروط اللعبة، بالحذف والاضافة، مما حرم كلاً منهم من تحالفاته الطبيعية وكاد يجعله غريباً حيث سيرشح نفسه.
أما على الصعيد السياسي العام فكان كميل شمعون قد أعلن انحيازه إلى معسكر الغرب، وكاد يأخذ لبنان إلى الأحلاف الأجنبية، كما صار طرفاً في الجبهة المناهضة للتيار العروبي بقيادة جمال عبد الناصر الذي كانت سوريا قد انحازت إليه كلياً، وساهم بعض أهل السلطة فيها ـ فضلاً عن جماهير شعبها ـ في معركة السويس، وكان بين تعبيراتها نسف أنابيب شركة نفط العراق التي كانت تحمله إلى مصفاتي حمص وطرابلس.
÷÷÷ رصاصات بدّلت الاتجاه
بات الجو السياسي في لبنان محتدما، وتعاظم نفوذ المعارضة. وهكذا قررت ان تنظم مهرجاناً شعبياً يجمع أقطابها، واختارت «أرض جلول» في منطقة الطريق الجديدة ـ صبرا، مكاناً للحشد.
عقد المهرجان، وكان حاشداً فعلاً، مما زاد من تخوف السلطة ومن توتر رجال الأمن الذين حاولوا تعطيله ففشلوا، فأقاموا الحواجز لمنع تدفق الجمهور، مما أدى إلى اشتباكات دوى فيها الرصاص وسقط عدد من الضحايا وعدد أكبر من الجرحى، كما حصل صدام بين الرئيس صائب سلام وبين بعض الضباط فالتهب الجو.
بعض الرصاص القاتل أصاب منزل سليم اللوزي، صاحب مجلة «الحوادث» التي كانت لمّا تكمل عامها الأول، فقتلت خادمته ووقعت أضرار جانبية فيه.
كانت ردة فعل سليم اللوزي عنيفة.. وهو الصحافي ابن طرابلس الذي «هاجر» مشياً على قدميه إلى فلسطين، في منتصف الأربعينيات، حيث عمل لفترة في القسم العربي بالإذاعة البريطانية، كمتمرن، قبل ان يقصد بعد حين القاهرة، لتقوده المصادفات إلى «بلدياته» فاطمة اليوسف التي كانت تصدر ـ في أوائل الخمسينيات ـ أخطر نشرة معارضة للحكم الملكي: مجلة روز اليوسف.
ولقد عاش سليم اللوزي سنوات في مصر، وشهد قيام ثورتها بقيادة جمال عبد الناصر وانهاء العصر الملكي، وكانت «روز اليوسف» قد أسهمت في فضح فساد ذلك العهد بنشرها الوثائق التي كشفت «السلاح الفاسد» الذي زوّد به الجيش المصري، والذي كان بين أسباب التعثر في مواجهاته مع القوات الاسرائيلية في حرب فلسطين.
ويحفظ العامة في مصر، والعرب عموما، تلك الجملة المهينة التي كان يرددها الجنود المصريون في الجبهة، حين يوجهون بنادقهم نحو الاسرائيليين ويبعدونها عن وجوههم، وهم يقولون «يا ربي تيجي في عينه»… ذلك ان كثيراً من بنادقهم كانت تقذف الرصاص إلى الخلف فتقتل من يحملها من الجنود المصريين، فإذا لم يمت بعض الجنود أجهز عليهم الاسرائيليون مفيدين من الارتباك وانعدام سلاح المواجهة.
انقلب سليم اللوزي من نصير لكميل شمعون، من دون التخلي تماماً عن تأييد جمال عبد الناصر، إلى معارض شرس بعد «معركة أرض جلول» التي اخترق فيها الرصاص بيته وقتل خادمته، وكان يمكن ان يقتل أطفاله.
ولأن الرئيس شمعون مضى في المواجهة إلى أقصاها فقد أحالت النيابة العامة العديد من المعارضين، إلى المحاكمة، وقضت على بعضهم بالسجن، وكان من بينهم صاحب مجلة «الحوادث» ورئيس تحريرها سليم اللوزي.
بعد أيام أمضاها في سجن الرمل، عرف سليم اللوزي طريقه إلى سجن مستشفى الكرنتينا حيث استقبله الرقيب الأول، والد الفتى، بترحاب استثنائي، لأنه كان من غير الصنف الذي عرفه ذلك السجن: فهو صاحب قضية، ثم انه معارض شرس، والأهم انه كان في مصر، ويعرف جمال عبد الناصر ورفاقه الثوار شخصياً.
÷÷÷÷ بين الأستاذ السجين والتابعي
ذات خميس، قصد الفتى ـ كعادته ـ مخفر سجن مستشفى الكرنتينا لزيارة والده، الرقيب الأول… وفوجئ حين استقبله هاشاً باشاً، على غير عادته نتيجة شعوره بأنه نقل اليه تأديباً، ثم سمعه يقول وبصوته إنه فرح: ان بين ضيوفي هنا صحافياً كبيراً، كانت تعجبني مقالاته، وها نحن نمضي ساعات كل يوم معاً. هيا، تعال أعرفك إلى سليم اللوزي، صاحب مجلة «الحوادث».
كان «الأستاذ» في «الصالون»، ومن حوله سابقوه من الضيوف المميزين، وان اختلفوا بأوصافهم وأسباب وجودهم عنه. وتقدم الفتى يصافح «الأستاذ» ووالده يعرفه: انه يحاول ان يكون صحافياً!
أمضى الفتى بعض الوقت يستمع إلى حكايات سليم اللوزي التي تغلب عليها الطرافة. كان أسلوبه مشوقاً وجعبته لا تنضب، وكل واقعة تذكره بأخرى فيرويها وهو يضحك.
يوم السبت، ذهب الفتى إلى «السجن»، لزيارة والده قبل ان يتوجه إلى منزل العائلة في المتين وقد بقيت فيه، في انتظار ان تعرف المركز الأخير للرقيب الأول الساعي إلى الانتقال إلى أي مخفر في اية قرية.
قال الوالد: لقد طلب سليم اللوزي أن يلتقيك. سأستدعيه إلى مكتبي احتراماً لموقفه… ثم قال لأحد الدركيين: افتح لأبي ربيع، ورافقه إلى هنا.
كانت حبال الود قد امتدت بين الرجلين، فلقد لاحظ اللوزي الاهتمام البالغ الذي خصّه به «آمر السجن» تقديراً لموقفه السياسي.
جاء تتقدمه ابتسامته، كالعادة، وسأل الفتى ممازحاً: هل أنجز محمد التابعي مقاله؟!
كان الفتى يسمع عن الكاتب المصري الكبير محمد التابعي، ويتابع بعض مقالاته في «آخر ساعة»، لكنه لم يتوقع ان يستقبله اللوزي بهذه «التحية» التي وجد فيها ما يمس الكرامة، وهكذا فقد رد منفعلاً: ما زلت أتعلم القراءة، وأنا أتابع ما تكتب من موقع التلميذ، فأين أنا من أستاذ كبير كالتابعي.
التفت سليم اللوزي إلى الأب قائلاً: لا أذكر اسم الجريدة التي قلت إن ابنك يعمل فيها..
قال الفتى مستبقاً جواب أبيه: انني تحت التجربة بعد، مجرد مخبر متمرن أدور على مديرية الشرطة والاطفائية والاسعاف لأجمع «الحوادث».
قهقه سليم اللوزي وقد انتبه إلى التورية ثم جلس ودعا الفتى إلى الجلوس ليسأله عن «أحوال البلد»… ودار الحديث وقد كساه شيء من الود. ثم قام الوالد إلى بعض شؤونه، بينما اغتنم الفتى الفرصة ليسأل عن الصحافة في مصر. عن «الأهرام» و«روز اليوسف» و«المصوّر» و«آخر ساعة»، وعن بعض الكتاب فيها.
قال سليم اللوزي: واضح أنك تقرأ كثيراً.
رد الفتى: كل ما أمكنني شراؤه بقروشي. اذهب إلى اللعازارية حيث «يبسّط» بعض الباعة كتباً سبق لغيري قراءتها، فاشتري غالباً الممزقة بعض صفحاته من الكتب التي كنت أسمع عن كتابها، أو سبق ان قرأت لهم. الممزق أرخص، كما تعرف.
صمت قليلاً ثم استدرك فأضاف: ثم انني أقرأ دواوين الشعر. ألم يخبرك الوالد انه «شاعر شعبي» وانه يغني العتابا.
سأل سليم اللوزي: ألم تجرّب الكتابة؟
قال الفتى: قليلاً. لا وقت لدي. انني أبدأ عملي مع شروق الشمس. عليّ أن أنهي جولتي بين مديرية الشرطة والاسعاف والاطفائية وسراي الحكومة التي أضيفت أخبار زوارها إلى مهماتي الجليلة. مساء أتابع الدراسة في مدرسة ليلية… ولا يتبقى لي الا القليل من الوقت ليلاً للقراءة، ونادراً ما يتسنى لي ان أكتب غير ما عليّ كتابته… على أنني أقرأ كثيراً، وغالباً ما أطل الفجر وأنا أواصل القراءة، فأغفو قليلاً قبل أن أنطلق في جولتي اليومية.
عاد الوالد من تفتيشه الدوري، فبادره سليم اللوزي:
ـ مكان ابنك معي في «الحوادث». ليذهب إليّ فور خروجي من هنا.
لمعت عينا الوالد فرحاً، وأطرق الفتى حتى لا يلمح سليم اللوزي في عينيه ملامح الشك في تنفيذ ما تعهد به. قال في نفسه: انه يجامل «السجان»، وحين يخرج سوف يجتهد لينسى كل ما وقع له هنا!
÷÷÷÷÷ بداية الرحلة حتى أحد الأجلين
بعد أيام، ودّع الرقيب الأول «ضيفه» الذي غدا صديقه سليم اللوزي وهو يخرج إلى الحرية، عائداً إلى ميدانه الذي برع فيه فأعطاه مكانته في دنيا الاعلام.
وجاء الفتى يزور والده، كالمعتاد، فلاحظ انه يتابعه بابتسامة خفيفة تشي بانه يخفي عنه أمراً، او انه يتحقق من ان ابنه لا يعرف ما يعرفه. وبعد مناورة لم تستمر طويلاً سأله: هل اتصل بك سليم اللوزي؟
قال الفتى: ولماذا سيتصل. هو لقاء مصادفة، ولقد مضى كل في حال سبيله.
قال الأب بلهجة تنضح بشيء من الفخر: لقد سألني عن رقم هاتف الصحيفة التي تعمل فيها، وقال إنه يريدك معه في «الحوادث».
قال الفتى: هو أقدر منك على معرفة الرقم. فهو يتلقى الصحف جميعا كل صباح، ويقرأها جميعا في نصف ساعة، كما أخبرنا هنا.
قطع عليهما الحوار رنين الهاتف، وقام الوالد يرد، فإذا به يهتف مرحباً: أهلاً، أستاذ سليم، أهلاً، الحمدلله على سلامتك. نعم، نعم، انه هنا، سأعطيه السماعة، شكراً، شكراً، لم أقم بغير واجبي تجاه صاحب رأي أحترمه. إلى اللقاء.. تفضل!
وتناول الفتى السماعة ليسمع ضحكة مجلجلة قبل ان يأتيه صوت سليم اللوزي وهو يهدر: ظننتَ انه كلام في المطحنة، وانني سأنسى، لأنني لم أكن أقصد ما عرضته عليك. كنتَ تخمّن انني طلبت ان تجيء إلى «الحوادث» رداً لجميل والدك. صدقني انني طلبتك في الصحيفة التي تعمل فيها مرتين ولم أجدك، لهذا طلبت أباك ليتوسّط لي معك كي ترد على اتصالي.
ابتسم الفتى ونفخ صدره وهو يقرأ الزهو في عيني ابيه، ثم قال بثقة: حاضر، سوف أقصدك غدا عند الساعة الحادية عشرة.
وكانت تلك بداية البداية لرحلة مع المهنة التي لا تعرف الطلاق ولا هي تنتهي إلا بأحد الأجلين!

ـ من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحب حيي، يفضل الهمس على الأصوات الصاخبة بالرغبة، وتخجله الايحاءات الدالة على الشهوة، لذا فهو يهرب من اللقاءات الصاخبة لينزوي على هامشها في حضن عينين أذبلهما السهر في انتظار الفيضان.

Exit mobile version