طلال سلمان

هوامش ## كتابات على جدار الصحافة (7)

دولة الوحدة تنتظر العراق والشيوعيون يهتفون «ماكو زعيم إلا كريم»
صار الفتى، إذاً، سكرتيراً لتحرير مجلة من الدرجة الأولى…
برزت على الفور مجموعة من المشكلات التي لم تكن متوقعة، أقله بهذه السرعة. فأما الملابس فقد افترض أن أمرها سهل، لأن زوج عمته خبير محلف في بضائع سوق سرسق، إذ انه يستأجر «باب» محل تجاري معروف يعرض عليه «مختارات» من «الباله» وهي إجمالاً بحالة جيدة حتى ليحسبها الناظر إليها جديدة. وأما السكن والنقل وإعانة العائلة والطعام المقبول فلسوف يرى في أمرها.
ذهب الفتى إلى نسيبه فكساه بليرات معدودات.
برزت مشكلة السكن، وقد تقدم زميله رسام الكاريكاتور نيازي جلول باقتراح لحلها: يعرف صاحب بناية «مقبولة» في برج حمود، وقد عرض عليه ان يؤجره شقة فيها.
ذهبا يخبان في ذلك الحي الذي يقيم ويتحرك فيه نصف مليون بشري يومياً، من مختلف المناطق والبيئات والطوائف، وإن ظلت «السمعة» للأرمن ومعهم أهل الجنوب… وبلغا «البناية» بعد كثير من الأسئلة والاجابات الخاطئة والارشادات التي تتساقط خلفهما لتشابه الأبنية بالإضافات المخالفة والمداخل العشوائية والسلالم التي تستطيع ان تعرف منها ماذا طبخت ربات البيوت المحشورات في الشقق المزدحمة بالأهل جدوداً وأبناء وأحفادا.
لكن المشروع سقط وأسقط صاحبه قبل ان ينتهي الشهر الأول.. ذلك ان العثور على البناية التي فيها الشقة كان أمراً عسيراً، لا سيما في الليل. فلا أسماء للشوارع إلا ما يتعارف عليه بعض سكانها، ولا أرقام للبيوت، والأدلة المتاحة بعض العلامات الفارقة المتصلة بلون الشبابيك او بالقرب من الفرن او محطة البنزين. لكن ذلك كله لا ينفع في الليل.
ولقد هدتهما الصعوبة إلى حل مبتكر: يتركان الطريق العام، ويمشيان مع خط سكة الحديد حيث تتراصف أعمدة الهاتف بموازاته، ويعدان حتى العمود الثالث عشر ثم ينعطفان يميناً، ويدوران من حول المبنى المهمل وصولاً إلى البوابة، فيرقيان الدرج المعتم طبعا حتى الطابق الرابع، وتكون الشقة إلى يمين الصاعد مباشرة.
كان من عادات جلول أن ينام عارياً بغير ان يستشعر أي حرج وهو «يتجول» في الشقة الصغيرة «ربي كما خلقتني»… ولم يكن ذلك مما يمكن ان يألفه الفتى المتحدر من اصول ريفية محافظة، فتجادلا ثم افترقا ليعود كل منهما إلى حيث كان، بينما ظلت اعمدة الهاتف واقفة لتدل التائهين إلى البيت الذي لم يسكنهما إلا أياما معدودة.
[ [ [
÷÷ بعد أيام سيباغت وجيه رضوان زميله الفتى الذي غدا الآن سكرتيراً للتحرير، «ومن الطبيعي أن يرفه نفسه ولو قليلاً»، بسؤال مثير: ما رأيك لو قهرنا الفقر واتخذنا لنا سكنا في الحمراء التي ستكون بيروت الجديدة والجميلة ومقر المشاهير، من رجال الاعمال والمصرفيين، إلى نجوم الفن مطربين ومطربات وملحنين يستضيفون زملاءهم الكبار من المصريين… ثم ان كثيرا من أهل الصحافة بدأوا ينتقلون إليها ليتخذوا سكنا أنيقا في عماراتها الجديدة؟!
بهت الفتى لهذه «النقلة» المباغتة: من برج حمود إلى الحمراء، دفعة واحدة!
سمع شفيق الحوت طرفاً من النقاش فشجعهما على المغامرة. وكان لا بد من استشارة «البيك» باعتباره المرجع. قال منح الصلح: الحمرا هي بيروت المستقبل. لقد جاء كثير من تجار البناء الدمشقيين والحلبيين وانضم إليهم بعض الفلسطينيين العاملين في الخليج، ودخلوا في منافسة ممتازة سيفيد منها اللبنانيون، وأهل بيروت خصوصاً.
قال شفيق الحوت مؤكداً: سمعت ان الأسعار كالصاروخ ارتفاعاً، ومن تدبر أمره اليوم فاشترى او استأجر سيحقق كسبا مؤكداً.
اندفع «البيك» يعدد اسماء بعض الكبار ممن بنوا واشتروا… ثم عاد يستذكر اسماء أصحاب الأراضي من أهل بيروت الذين لم يكونوا يرون فيها ثروة عظيمة.
وعلى طريقته، ختم منح الصلح حديثه ببعض الطرائف عن البيارته والشمس، وعن تمسكهم بزراعة الأرض (التي باتت من ذهب) ببعض أنواع الخضار كالخس والبقدونس والفجل: ان بعضهم لا يصدق الآن الأسعار التي تدفع لهم ثمناً لقطع محدودة من الأراضي التي ورثوها عن الآباء… وبعضهم يرفض البيع، مصراً على إبقاء الأرض للزراعة البدائية التي لا تطعم أسرته. لكن الحال ستتغير حكما خلال فترة وجيزة.
هنا ضرب وجيه ضربته. قال موجها حديثه إلى «البيك» وشفيق الحوت: عرضت علينا شقة في عمارة بيع الملجأ فيها لملهى ليلي معروف.
وحين انصرف «الكبيران» سأل الفتى عن الإيجار، فقال وجيه: أقل من نصف راتبينا!
ـ وكيف نعيش؟!
ـ سنكتب للإذاعة. أما أنا فقد بدأت فعلاً في كتابة مسلسل إذاعي، وأما أنت فالعرض قائم بأن تكتب «مع الصباح» للإذاعة..
وانتهت المباراة بالذهاب إلى الشقة التي أرضها من الخشب اللامع، ومطبخها «بار» عند المدخل! اما عاملة التنظيف فسيدة أنيقة جداً، سرعان ما استقدمت بضع نساء فقيرات، وصارت «متعهدة»، وصار لها سيارة تطلق منبهها كل صباح عارضة على الفتى ان تنقله إلى «الجرنان».
[ [ [
÷÷÷ لم يدم شهر العسل بين دولة الوحدة بقيادة جمال عبد الناصر وثورة 14 تموز في العراق، طويلاً… بل سرعان ما أخرج عبد السلام عارف من مجلس القيادة لاتهامه في ولائه «للزعيم» عبد الكريم قاسم، ثم ركب الشيوعيون، وفئات اخرى كانت مهمشة، الموجة، فإذا الصراع يحتدم داخل العراق، ثم يمتد إلى مختلف العواصم المشرقية، وبيروت على وجه الخصوص.
انشق «الشارع الوطني» على نفسه، وشن الشيوعيون في صحفهم ونشراتهم هجوماً قاسياً على عبد الناصر وصوروه «دكتاتورا» و«فرعون» لا يقبل في زعامته الفردية شريكا، بينما كانت هتافات، رفاقهم في العراق «ماكو زعيم إلا كريم»! أما بيروت فكانت تردد مع المغني المصري محمد قنديل «وحدة ما يغلبها غلاب»!
كان بعض الاعلام في لبنان «شيوعيا». فالحزب عريق، ويملك امتيازات لصحف عدة، بينها اليومي والأسبوعي (الأخبار، ثم النداء) إضافة إلى أكثر من مجلة ثقافية وإن ظلت «الطريق» أهمها.
أما الاعلام القومي العربي، إذا جازت التسمية، فكان محدوداً في مؤسساته وفي الأقلام ذات التأثير.
بالمقابل فإن الاعلام «اللبناني» كان قوياً، تتصدره «النهار» وخلفها معظم الصحف الصباحية والظهرية.. في حين كان «الاعلام الناصري»، كما سمّاه خصومه، الأقوى في الأسبوعيات وأبرزها ـ تاريخيا ـ «الصياد» و«الأحد» وقد انضمت إليهما «الحوادث» الأرقى مهنية بسبب من تميز صاحبها، سليم اللوزي، بخبرة مصرية طويلة شملت مجلات الرأي والصورة ـ الخبر والتعليق والحملة الصحافية ـ إضافة إلى الكاريكاتور والتحقيق الذي كان إضافة ممتازة إلى المجلات.
كان سليم اللوزي صاحب قلم سيال، خبيراً في اختيار الصورة لتكون لها قوة المقال، وخبيرا في الإفادة من كفاءة الآخرين، كما في اكتشاف الموهبة عند رسام كاريكاتور مبتدئ او عند محرر مجتهد. ثم إنه يعرف في السياسة كما يعرف في الفن (سينما وموسيقى وغناء) وله صداقات بين الكبار من أهله (أم كلثوم، عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ، وكان نجما مبشرا، ونجاح سلام ومعها محمد سلمان وثالثهما الذي منحهما قيمة مضافة الملحن عفيف رضوان)… وفوق هذا فإن سليم اللوزي أفاد من صداقة شفيق الحوت «للكتيبة الفلسطينية» التي تولت أمر الإذاعة الرسمية فطورتها وجعلتها مسموعة ببرامجها الشيقة، سواء منها السياسية او الموسيقية او الاسكتشات الضاحكة.
أما «البيك» فكانت له اضافاته المؤثرة في مختلف المجالات.
كان شفيق الحوت قائد الجبهة هجوماً، في حين لعب «البيك» دور المهدئ بإضافة المعلومات وبعض التاريخ إلى التعليقات الحماسية.
وكان نبيل خوري مبدع الشعارات، بعضها يسخر من قيادات الخصوم وبعضها الآخر يبشر بالنصر والغد الأفضل.
وكانت فلسطين القضية والراية والنداء فهي هدف الوحدة ومقصدها وغايتها المجيدة.
[ [ [
÷÷÷÷ لم يكن الفتى يعرف الكثير عن «الصحافة من الداخل». لذلك كان يكتفي بالاستماع إلى من يحلل ويحدد هويات الصحف اللبنانية فيقسمها إلى ثلاث: المدرسة البريطانية ومثلها «الحياة»، والمدرسة الفرنسية ومثلها «النهار» والمدرسة المصرية التي سرعان ما ستغدو الأغزر إنتاجاً مع صدور «الأنوار» عن دار الصياد لصاحبها سعيد فريحة، و«الكفاح العربي» عن مجلة «الأحد» لصاحبها رياض طه، اضافة إلى جريدة «بيروت المساء» لصاحبها عبد الله المشنوق، و«صوت العروبة» لصاحبها حزب النجاده بشخص رئيسه عدنان الحكيم.
وسمع الفتى أحاديث متقطعة عن دور بيروت المؤثر جداً في معركة حماية دولة الوحدة، وصد «الحملة الشعوبية» التي يقودها الشيوعيون متخذين من عبد الكريم قاسم نموذجاً نقيضاً لجمال عبد الناصر… ثم عن التلاقي بين «الشرق السوفياتي» و«الغرب الاستعماري» على قتال الحركة القومية ودولتها وقائدها العظيم.
كذلك سمع الفتى عن تحالف «الانعزال اللبناني» مع الغرب ضد العروبة… ثم قرأ مقالات قاسية عن حزب الكتائب بقيادته (بيار الجميل) وجريدته (العمل) ومحاولات إثارة المسيحيين في لبنان والمنطقة ضد الوحدة وضد جمال عبد الناصر واتهامه بالفرعونية، وبأنه قد هيمن على سوريا فألغى دورها المؤثر وهمش رجالاتها وأحزابها بعدما سلط عليها «المخابرات».
وكان طبيعياً ان يلجأ إلى «البيك» مستفسراً، وأن يسمع الاجابات غالباً من شفيق الحوت… اما التحليل السياسي فمن سليم اللوزي وإن بقي لمنح الصلح ان يصحح بعض الوقائع التاريخية، وأن يحمي بعض الشخصيات ذات التاريخ السياسي في سوريا من التهشيم.
هكذا أخذ الفتى يتعرف إلى الفوارق المهمة بين «الخبر» و«التحليل» و«التعليق» في علوم الصحافة، وأن ينتبه إلى اثر «الكاريكاتور» كسلاح وإلى أهمية «الصورة» سواء استخدمت في التعظيم والتبجيل أو في حملة تستهدف التحقير والتشهير.
[ [ [
÷÷÷÷÷ في هذه الأثناء كان قد برز حي فخم جديد في منطقة الروشة، التي عرفها الفتى في بداية حياته البيروتية حقولاً من الصبار وتلالاً من الرمال، ومصيفاً بسيطاً لعائلات بيروت، ينصب بعضها الخيام إلى جنوب الصخرة الشهيرة في أرض وعرة يعملون على إعدادها ـ على عجل ـ لكي تتسع لمزيد من المصطافين البحريين..
وضاق مطعم فيصل برواده من أهل الجامعة الأميركية، أساتذة ومتخرجين وطلابا متقدمين، خصوصاً وقد تعاظمت الخلافات، وانشق البعض على رفاقه القدامى، ووفد كثير من اللاجئين السياسيين بالأمر أو بالرغبة من دمشق وكذلك من بغداد وأنحاء أخرى من العراق.
فجأة صار لحوار المثقفين والمتحدثين وأصحاب الرأي منتدى جديدا في منطقة الروشة حمل اسم فيلم شهير «الدولتشي فيتا»، أي الحياة اللذيذة… وإذ تكاثر البعثيون، حزبيين وأصدقاء في هذا المنتدى فقد لجأ القوميون العرب والناصريون عموما إلى منتدى في مقابله تماما حمل إسم «الدبلومات».
وامتد العمران سريعاً من الحمرا إلى الروشة موفراً لبيروت المزيد من الأحياء الأنيقة، متسبباً في ارتفاع أسعار الأراضي أضعافاً مضاعفة… وهكذا بدأت تختفي تدريجياً حقول الفجل والبقدونس والخس، لا سيما أن اصحاب الأرض غدوا، في غمضة عين، من الأثرياء نتيجة الطفرة العمرانية التي كان من المؤثرين في اندفاعتها من سمي بـ«السوريين البيض» الذين هربوا من «دولة الوحدة» خوفاً من التأميم قبل صدور قراراته، ربما لأنهم استشعروا خطره فبادروا متمثلين بقاعدة «رأس المال جبان» فجاءوا بأموالهم وخبراتهم في حقول المصارف والصناعة والتجارة إلى لبنان المفتوح لكل صاحب مال حتى لو بدا أحيانا مقفلاً في وجه أهله.
[[[
÷÷÷÷÷÷ عبر اجتماعات التحرير كانت تتبدى خطورة الأوضاع التي تعيشها المنطقة، لا سيما وقد تفجر الخلاف بين «الرفاق القدامى» عنيفاً… وخرج البعثيون تدريجياً من معركة الدفاع عن الوحدة، تمهيداً لأن يباشروا نقدهم «لفردية جمال عبد الناصر» ورفضه الأحزاب واعتماده المبالغ به على المخابرات، والمصرية منها تحديدا.
ونشأ «حلف» سياسي بين مختلفين فكريا في الأصل، إذ تلاقى الشيوعيون مع من كانوا يسمونهم «الانعزاليين» بقيادة حزب الكتائب، في حلف سياسي ضد جمال عبد الناصر والوحدة، لسوف ينضم إليه البعثيون بالصمت بداية، ثم «بالنقد البناء» قبل ان تتفجر الخيبة هجوماً شرساً من موقع صاحب القضية وحامل راية الوحدة…
وهكذا شهد الفتى مباراة محمومة بين القائلين «وحدة حرية اشتراكية» والمنادين بـ«حرية، اشتراكية وحدة»، وكان «الانعزاليون» و«الشيوعيون» يصفقون فيها للطرفين ويمضون في حملتهم على الجميع معاً.
… وجاء اليوم الموعود: جمع سليم اللوزي أسرة «الحوادث» وأبلغهم بأنهم سيذهبون خلال الأسبوع المقبل إلى دمشق للقاء مع رئيس دولة الوحدة ومحقق أحلام العرب وبطل معركة السويس وقائد الأمة جمال عبد الناصر!.
وذهب الفتى إلى زوج عمته في سوق سرسق ليشتري ثياباً تليق بالمناسبة التاريخية، وليحظى بدورة خاصة تعلم خلالها كيف يعقد ربطة العنق، بعد مجهود خرافي بذله زوج العمة بطول أناة وإخلاص في التدريب حتى اطمأن إلى ان ابن الدركي سيرتدي ما يليق بلقاء «حبيب الملايين!».
[ [ [
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ كاذب من قال ان للحب عمراً محدداً إن أنت تجاوزته تجاوزك ذاهباً إلى غيرك.
شهدت أمس عناقاً بين رجل وامرأة في نحو الثمانين. كان حاراً في صدقه حد ذوبان الملامح، وكان رقيقاً ودافئاً حتى إن بعض من رأى العاشقين بكى شوقاً إلى مثل حبهما.
ليس للحب عمر. عمرك حبك، فاحرص على أن تبقيه فتى يبقِك مراهقاً توزع حباً على قبائل المحتاجين إلى الحب ليحبوا!

Exit mobile version