طلال سلمان

غابت المرأة فغرق جودت فخز الدين وأغرقنا

ينتصب جودت فخر الدين بقامته العالية كمنارة للغريق: قد تؤنس وقد تشجع وقد تؤمل ولكنها تبقى عاجزة عن الإنقاذ!
في لحظات يأخذك الشجن عند جودت الى حافة الغرق، ولكنك سرعان ما تكتشف انه انما يخاطبك من قلب اللجة ويتخذ منك شاهدا على غرقه، بل قد يحملك المسؤولية عن هذ الغرق »الارادي«.
لكأنه يريد أن يغرق!
وعلى امتداد سطور وجده، في ديوانه الأخير »منارة للغريق«، يسيطر شعور بالاشطهاد والوحدة والخوف من العمر، وترفرف طيور الندم، ويتصاعد دخان حرائق كثيرة تلتهم المدن والامكنة الحميمة، وقد تمس السنتها الكاوية الصادقات والاصدقاء.
الأخطر ان المرأة تكاد تكون الغائب الاعظم عن هذا الديوان.
ولقد يتساءل من يرى المرأة منبع الشعر ومصدر الالهام: وكيف يكون شعرا ما يغيب عنه الحب او ما تشحب فيه صورة الحبيب؟!
»ما اقصر الحياة،
ما أطول يومي هذا«؟!
لكأنه يتعجل الرحيل، هذا الممتلئ شبابا
»ها انني منذ اكثر من خمسة وثلاثين عاما أقول، ولا قول لي،
كم احب استماعي الى صحبتي من ثعالب هذا المساء«.
واذا كانت الثعالب تأتي اليه كالذكريات الحبيبة، فانه يحزم حقائبه للرحيل:
»قليلا ونمضي
ويبقى الذي لم نقله وقلناه دوما
نعد اذن للرحيل«.
وهو لا يرى وجه الحياة، من فوق قمة الاربعين:
»وقفت على شرفة الأربعين/ على قمة العمر
لم أر وجه الحياة
وأبصرت هول المسير الى الموت وحدي،
كيف امضي ولم ابتدئ
أين الفتى؟!
لا ارى غير ظل يذوب/ على زرقة نائية«
لا النهار يفرح جودت ولا الليل، وعنده »لا شيء ينهض حتى الكلام.. ومضى كل شيء الى مستقر له في الكلام«:
»الى أين سوف تجرجرني أيهذا النهار؟
أنهض بعد قليل لأشهد موتك فوق القفار؟«
……
»تعال اذن ايها لليل
عما قليل سيبدأ ما بيننا سمر يتكرر في كل يوم
ستأخذني تحت ثوبك في خفر
وتلقي بنفسك في وهن كالرماد
… وأبقى أنا للسهاد«!
أما إذا لامس الشأن العام فإن الشجن يتحول الى ما يشبه اليأس، ويكاد جودت يصير الناعي:
»يا بلادا/ أمست بنا مقفرات
وغدونا/ فما هناك نجاء
يا بلادا/ نقولها ونسميها
فتبكي الاقوال والاسماء
كلمات، هي الديار
هي الأرض لنا، والسماء
كلمات، هي الديار
هي الأرض والسماء والاشياء«.
….
»كتبنا لأبنائنا/ نحن لسنا منائركم
لا تكونوا خطانا/ وكونوا سرائركم«
….
»أقول: المدى قشة«!
….
»كيف لي ان ارى من مكاني هذا؟
وجوه الروابي التي بزغت في العراء؟
وهل اخذت بيد للغريق منارة؟
هنالك ايامنا في البعيد/ وليس هنا من يزف البشارة«؟!
فقط حين يصل جودت فخر الدين الى اليمن يتخفف من شجنه، ثم حين يلتقي »مؤدبها« الأستاذ عبد العزيز المقالح في مقيله و»يخزّن« معه، يستعيد »حطام الليالي«، حين يجلس فوق المساء، اذ له شرفة في السماء ونبتته يقظة تتوهج فيها الرؤى.
»لصنعاء وجه قديم
ونحن الذين جلسنا اليه/ نحدق من شرفة السماء
تخطفنا سحره/ فسقطنا معاً في البهاء الحميم«.
يجيء الانبهار، في اليمن، من الطبيعة، كما من الناس، من الجغرافيا كما من التاريخ:
»جبال لا تنال.
أرسى أناس فوقها سكنا لهم حتى يغيبوا في غياب شاهق.
لاحت اعاليهم وهم غابوا
كأن بيوتهم حجب أقاموها على قمم الجبال.
… كأني قد اتيت اليك مستهديا/ بل هائما
فوجدت عندك اضلعي الاولى/ وفيها خفقة الحزن.
اعالج هالة الأيام أبكيها
كأني قد اتيت الى هنا في غفلة الزمن
فوجدت أيامي تقطر ذوبها
في أدمع اليمن«.
نذهب الى الشعراء لنعبّ من نهر الحب فنفجع حين يأخذنا الشعراء الى الشجن وما يشبه اليأس من المحاولة.
واحدى أنبل مهام الشعر ان يقضي على اليأس، وان ينبت في قلبه زنبقة الامل وفرح الحياة.
لعلها »مرحلة«. لعلها هنيهة رمادية وتمضي.
أين قيثارة الحب يا جودت؟!

زواريب الأحد الذي تراه كثيرا

ذهبت الى »الزواريب« وفي يدي »المفتاح« فلم اسمع الا »جرس« رفيق علي احمد يلعلع من جديد، مستكملا ما كان قد بدأه من المناجاة التي يتحول فيها الشخص تدريجا الى »مجموع«، ثم ينفرط عقد المجموع تدريجا ويضيع كل فرد عن الآخرين فيرجع الشخص وحيدا يطلق »مونولوغه« سياطا حارقة لظهور الذين غابوا برغم حضورهم، او لوجوه الذين يستحضرهم حزنه من قلب الغياب!
في لحظات دهمني الاحساس بأن رفيق علي أحمد ما زال فوق خشبة المسرح في المركز الثقافي الروسي منذ سنتين او ثلاث، منذ جيلين او ربما اكثر!
ان لديه الكثير الكثير ليقوله، ليس مهماً العنوان. ليس مهما الاخراج.
الحزن المعتق ولود مخصاب!
والحزين يحب ان يسمع نفسه!
اهل الشجن يغنون اشجانهم، لا سيما في غياب الجمهور.
ورفيق علي أحمد يظل في همومه عامليا حتى وهو يستعير النص من الشاعر السوري ممدوح عدوان.
اين الحدود في الهم بين ابن جبل عامل وابن مرج بن عامر في فلسطين وابن الساحل السوري، وابن الصعيد المصري او ابن اليمن السعيد؟!
ولو قرر أي منهم ان يروي رحلته في قلب الهم (القومي، الوطني، السياسي، الاقتصادي، الديني، والذاتي) لظل يحكي الى ما بعد الموت.
ان المونولوغ العربي يمتد في عمق التاريخ الى ما بعد بعد بعد الغد، وهو يسحبه الى ما قبل قبل قبل الأمس.
ورفيق علي أحمد يشبه رفيق علي أحمد الذي يشبه كل رفيق وكل علي وكل أحمد وكل الذين تخلو أسماؤهم من هذه الاسماء.
وأي نص يمسرحه رفيق علي أحمد مهدد بأن يجيء »كمالة« للذي قبله!
القصة تجيء في المقام الثاني. وسواء أكانت مركبة ام بسيطة ملبننة أم تحمل شهادة ميلادها في رقبتها، فان رفيق علي أحمد سيحملها الى جبل عامل لكي »يعمّدها« بأحزانه ثم يكرزها على المسرح بلهجته ذات الشراشيب!
الفكرة البسيطة تبهر، اما اذا راكمت فوقها الاسقاطات تغدو مهددة بأن تقارب أيا من البراج الرديئة لتلفزيونات المتعة ودواليب الحظ وخيام الهنا.
تجيء الموعظة من الموت او تأخذك اليه.
رفيق علي أحمد لا يمثل. انه يفيض، يطوف، ويأخذك بطوفانه الى الواحد الذي تراه كثيرا، فتنسى ممدوح عدوان والمخرج والمسرح وتغرق في دوامة همومك أنت.
في أي حال، الحمد لله اننا نُعرف من زبالتنا وليس من سياسيينا!
واللهم إنّا لا نسألك رد القضاء، بل اللطف فيه.

 

أتوغل داخل حبي الأكبر: الحياة

قال متباهيا: نصبت ارجوحة لعشقي بين امرأتين، تتخطفني الاولى متلهفة فتستعيدني الثانية وقد شفها الوجد، وانا جذل امضغ لذائذ الثواني والدقائق والساعات واتعاظم في نظر نفسي حتى لاراني اول العشق وآخرالعشاق.
لم اعلق، اكتفيت بأن اجلت بصري في ثنايا وجهه، فعاد يقول:
آه، النساء! لو لم تكن الحياة امرأة لما أحببتها، ولما رغبت فيها. اتعرف، يدهمني شعور منعش بأنني مع كل شمس جديدة اتوغل اكثر فأكثر داخل حبي الاكبر: الحياة!
لم اغادر صمتي، ورآني ارفع حاجبي فقدر انه قد استثار اعجابي فأضاف يقول:
أما انتم فتتعاملون مع الحياة وكأنها رجل، كأنها مذكر مثلكم! واجب، عمل، رزق، تعب، ارهاق، همّ، مال، مجد. من أين سيجيئكم الحب إذاً؟! لا تنتظر حبك وانت سجين اوهامك او غرورك، اذهب اليها، اقتحمها حيثما كانت، لا شيء يسعد امرأة اكثر من أن ترى رجلا يطلبها خلف الخطر وقبل الفضيحة بقليل.
استوضحت بكثير من الاستغراب: الفضيحة؟!
قال بلهجة الخبير المحلف: اجل يا صديقي! لولا قدر من التحفظ لقلت لك ان النساء يتعشقن الفضائح وان تجنبت كل منهن ان تكون البطلة مباشرة. هل تأملت مجموعة من النساء وهن يستمعن الى من يروي لهن بعض الفضائح عن »الأخريات«؟! لو فعلت لرأيت الشبق يتقطر من عيونهن، وكلما اوغل الراوية في الوصف استزدنه، وهن يضعن أيديهن على افواههن ويغضضن أبصارهن ادعاءً لحياء موهوم… والحقيقة انه حسد لتلك التي تمتعت بما يرغبن فيه كثيرا ويعجزن عن بلوغه، ولو بالفضيحة!
استفزني التباهي اكثر مما احزنني تناقض الاخلاق فقمت منصرفا وأنا أقول له:
انتبه الى حبال الارجوحة! انها قد تتحول الى مشنقة ايضا!
غير بعيد رأيت بعض النسوة يتهامسن وهن يشرن اليه، ثم تتفجر القهقهة مدوية، بينما يهرب صاحبنا متلفتا حوله ليطمئن الى ان احدا لم يضبطه لابسا ثوب الفضيحة!

 

قراءة…

علمتني عيناك القراءة، فأبحرت في خضم السؤال ابحث عني، بينما انت ما زلت تكتبين عمري بقلم التعب، وتختزنين السر ملفوفا بتلك اللثغة التي تطرز السندس وتمنحه بعضا من صخبك الدافئ…
هل كنت تعرفين؟ هل قرأت العاصفة من قبل ان تجيء، والتجأت بدفاترك الى كوة الوجع تكتبين نفسك بنفسك، بينما الذين من حولك يأخذهم الجهل الى غربة الظن وبلادة الاستكانة الى غرابة الطبع او عجائبية الظلم القدري؟!
أهرب من عينيك الى عينيك. ما اضيق الدنيا لولاهما. في الفسحة بين النظرتين اشتاق اليك.
وفي الفاصل بين قراءتين أحاول ان اكتبك فتعيدين تشكيل الحروف لينتشر الحب في الهواء فينبثق الربيع الثاني وتتجدد الحياة.

من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
عندما تختار امرأتك فإنما أنت تختار النساء جميعا. ليس صحيحا ان الانسان يرى المرأة بقلبه. القلب في العقل، العقل في القلب، ذلك هو الاختيار. والاختيار رجل وامرأة، وكل منهما يريد ان يصدق الآخر انه من اختار.

Exit mobile version