هوامش
*****
عن المطهرين الأميركيين للفساد اللبناني!
في البيت الأنيق الفخامة، وفي ظل مضيفة رقيقة الحاشية، جلسنا كتلامذة مذنبين لم ينجزوا واجباتهم المدرسية أو ضُبطوا وهم يثرثرون.. باللغة العربية!
قدمت إلينا مضيفتنا ضيوف الشرف، وكلهم يرطن بالإنكليزية بلكنة أميركية: مقدمهم رقيق البنية محدد قسمات الوجه، بشاربين قصيرين وأناقة إيرلندية، تبرز من أسفل ذقنه »فراشة بابيون«، ويتدفق كلامه حاسماً كما حُكم الإعدام تلفظه محكمة ميدانية على فارين من أداء واجبهم الوطني.
قال »المقدم« ذو الفراشة تحت ذقنه: أنتم تعومون في بحر من الفساد!
التفت إلى السيدة عضو اليمين فهزت رأسها موافقة، وإلى السيدة عضو اليسار فرفعت يدها بالتأييد، وإلى »المدعي العام« غليظ الصوت والمزيّن ذقنه بلحية خفيفة تذكّر بنجوم السينما أو بمقلدي ثوار أيام زمان بعدما أمست الثورة زياً فولكلورياً للأغنياء والمهيمنين، فهدر »أخونا« بحيثيات الحكم رافضا مسبقا أي طلب للاسترحام!
أكمل »المقدم« ذو الفراشة تحت ذقنه: كل من في بلادكم فاسد ومفسد، المسؤولون فاسدون، وهم يحتمون بأصحاب النفوذ الذين أوصلوهم إلى السلطة بغير استحقاق!
استمرأ الحاضرون »الحكي بقفا« النافذين الغائبين السهل استحضارهم بأسماء »حركية«، وتوريات… وارتاحوا جميعا الى أنهم قد »رموها بدائهم وانسلوا«!
دخل »المقدم« في التفاصيل: العهد السابق، العهد الحالي، الحكومة السابقة، الحكومة الحالية، ثم انتقل إلى الانتخابات البلدية كواحدة من المحطات الديموقراطية التاريخية، وقدم أرقاماً واحصائيات وسمى بلدات لا نتذكر موقعها الجغرافي، وكاد يضع برنامجا لمحاربة الفساد يمتد حتى يوم القيامة.
كان الحديث عن الفساد وكأنه »شخص« أو »مجموعة معينة« من الناس، وكأنه خروج على الأخلاق والآداب العامة، تكفي »الشرطة« لطي صفحته.
تندّر الحضور ببعض الوقائع الشهيرة، واستذكروا تصريحات علنية لزعماء وأقطاب سياسيين أعلنوا فيها ضلوعهم في عمليات استغلال النفوذ والقيد في دفترين لتهريب الأرباح… ثم انعطفوا، فقال إن بعض أولئك فوق الملاحقة أو المحاسبة لأسباب تتصل بالنسب أو بالزعامة الإقطاعية أو بالمكانة الاجتماعية المميزة، ودائماً بمواقعهم من طوائفهم ومذاهبهم.
تدريجاً، انحرف الحديث في اتجاه الموقف السياسي، فإذا المحاسبة تتركز فعليا على دور لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي، وبالاستطراد يمكن سحبها على المقاومة والصمود ورفض الشروط الإسرائيلية.
واستذكر بعض الحضور وقائع مشهودة حول الفساد في بلدان العالم الثالث، ومن غريب المصادفات أن الأقطار المعنية تديرها جميعا، بالمعنى السياسي، الولايات المتحدة الأميركية.
الطريف أن واشنطن المتطهرة من جميع الخطايا، والتي لا تعرف الاحتكارات ولا مافيات المخدرات، ولا الصفقات المشبوهة وراء وصول هذا أو ذاك من المرشحين إلى موقع الحاكم أو الى الكونغرس، والذي لم يعرف البيت الأبيض فيها أي دنس أو مسّ بالشرف الرفيع…
واشنطن هذه هي التي تحمي الحكّام الفاسدين في البلدان التي ينهشها الفساد.
وواشنطن هذه هي التي تحرّض الشعوب في تلك البلدان ضد حكامها الفاسدين.
وهكذا فإنها تتوسل الاتهام بالفساد لتُخضع الحكّام المعينين إلى حد الانبطاح على أعتابها، فتكتسب بهذا نوعا من الرصيد لدى الشعوب، ثم تتمسك بأولئك الحكام أنفسهم لتذل الشعوب نفسها قبل أن ترسل إليها »خبراء« يدربونها على ممارسة الديموقراطية.
طبعا وُجد من يذكّر بأن المعونات والمساعدات الأميركية التي تقدَّم لبعض الدول في العالم الثالث، وتم الاستشهاد بمثال مصر، إنما تعود فتذهب إلى الأميركيين أنفسهم، تارة كخبراء، وتارة كأثمان لبضائع أميركية، وطورا في صفقات وتلزيمات تخص بها الشركات الأميركية.
على أن الخلاصة التي توصل إليها معظم الموجودين، من وراء ظهر »المقدم« ذي الفراشة تحت ذقنه: ان الفساد لا يمكن أن يحمي الموقف السياسي مهما كان صلبا وسليما ومبدئيا، وان الصمود لا يتأكد بالاختلاس والسرقة والهدر وتبديد المال العام،
وان النصائح والمواعظ الأخلاقية لا تجدي في ردع الفاسدين،
وان معالجة الفساد لا تحتاج إلى خبراء أجانب،
وان الحكام الفاسدين غالبا ما يحتمون بالنفوذ الأجنبي المهيمن، وفي هذا الزمن الأميركي فإن المهيمن واحد لا ثاني له، وهو على شاكلة »المقدم« الأميركي ذي الفراشة تحت ذقنه والمصحوب بسيدتين موافقتين ونائب عام يجلد الناس بصوته قبل الحكم وبعده.
بشارة الربيع … صبية!
يدهمك »العيد« فيسقط عنك الضيق والعجز أمام انسداد آفاق الاحتمالات المؤملة، وترفض فكرة أن أحلامك »العامة« كانت أيسر على التحقق في الأمس منها هذه الأيام. لن تمشي ملوي العنق الى الخلف بحجة أن ما فات كان الأجمل من عمرك.
ها هي »السفير« في ربيعها الخامس والعشرين تحمل الناس في قلبها وتجتهد في أن ترفع صوتهم أو أن تكون منبرهم وترسهم، ويحضنونها فيجعلونها قهوة الصباح ويتخذون منها حجة النقاش ومتكأ الاستراحة للتأمل وهدهدة ما قبل النوم وتنظيم الأفكار وتعزيزها بالثقافة العامة استعدادا للغد الصعب.
ها هي تنتصب شاهداً واعياً مفتوح العقل والعينين على التحولات، لم تحطمها الانتكاسات، ولا أخرجتها من إيمانها الانحرافات والهرولة إلى صلح مع العدو ضد الذات.
إنها تحمل »سجلاتهم العدلية« أو »صحيفة سوابقهم« على صفحاتها، وسطورها تشكل وثائق إدانة في انتظار القاضي الأصيل الذي لا بد سيصل إلى منصته ذات يوم فيحكم وينفذ، ولا من يجرؤ على الاعتراض.
تقلب صفحات العمر… وتستذكر حتى يلجم الخوف ذاكرتك!
تقع عيناك على عناوين الأحاديث والمحاورات والتصريحات التي أدلى بها سلاطين الزمان الذين يغيّرون كل شيء ولا يتغيّرون:
تخطر ببالك بعض الأفكار الساذجة:
ماذا لو أعدنا اليوم نشر ما قالوه (باعتداد) بالأمس؟!
ماذا لو قلدنا محمد حسنين هيكل فقمنا بزيارة ثانية للتاريخ؟!
لسوف نجدهم جميعاً على عروشهم، لكننا لن نجد أحداً حيث قال:
فالوحدوي صار انفصالياً يتبرأ من أمته جميعا، ويهرب من عروبته إلى قطريته فإن صغُرت في عينه هرب إلى قارته ولو سوداء، ما دام يتعذر عليه الحصول على بطاقة دعوة إلى البيت الأبيض.
والإسلامي المتزمت صار في نظر الإسلاميين الجدد في منزلة بين المنزلتين: إما مشرك وإما مرتد، ولا بد من أن يُقام عليه الحد…
لقد أُخلي الشارع من الناس بأولئك الجواميس ذوي اللحى الطويلة والعصي الغليظة، فانتهى به الأمر محاصَراً في قصره، بينه وبين الناس واد عميق من الجفاء، وحراسه هم سجانوه!
أما الذي وصل تحت شعار الديموقراطية وإسقاط عصر الاستبداد فقد بات دكتاتورا صغيرا، يختصر الناس في شخصه ذي المزاج المتقلب، وكلما تبدل المزاج تبدلت الحكومة والسياسة والتحالفات والمخاصمات، وزاد الرصيد في المصارف الخارجية!
كانوا حكاماً خائفين فصاروا جبابرة متألهين وخائفين!
والبلاد جميعاً تعيش في قلب طوفان الخوفين: خوف الرعايا من حكامهم الجبناء أمام العدو، الأقوياء عليهم بجيوشهم ومخابراتهم وتنصتهم على اللهاث وتجسسهم على العشاق ومطارداتهم لكل همسة حب، وخوف هؤلاء الحكام المزدوج من »السيد« الأجنبي، ومن احتمال أن تفلت قصيدة أو أغنية أو ينبلج صبح حلم فإذا العرش خيال أو ذكرى من الماضي!
يتعب مَن يحمل التاريخ على كتفيه.
بعد خمس وعشرين سنة من التجربة والخيبة يصير خيارك محددا: أن تكون شيطاناً أخرس أو أن تعيش بقية عمرك مطفأ العينين مقطوع اللسان!
الحقيقة صديق مزعج، والتجاهل سياسة مريحة بل ومربحة!
لن تفقأ عينيك بيديك!
وأسوار الصمت المسلح ترتفع جنباً إلى جنب مع أبراج المال الحرام!
صارت الأبراج دليل الغلط: ما ارتفع برج إلا بما نزل من الظلم على الناس!
اعتُقلت الحروف، وأُبدلت معاني الكلمات، وتمت مصادرة الهواء، وحُبس الصدى فصرنا نهمهم ونتمتم ولا نفهم ونبرطم فيفهمون!
أنت تعرف أكثر مما يجب، وعليك كل يوم، كل ساعة، أن تطمئنهم بمحاولة إثبات جهلك، أو ضعف ذاكرتك، أو تمكّن مرض النسيان منك.
* * *
ما أغنى ما فات من عمر »السفير«، وما أفقر الحاضر، وما أصعب الآتي.
يتقدم الزمن ويهرول العرب متقهقرين!
هل يعقل أننا كنا أقرب إلى آمالنا، نراها بمدى الذراع، والآن لا نكاد نراها، فإذا ما لمحناها أنكرناها حتى لا يصعقنا الخوف منها؟!
مَن يتحمل تهمة »ظالمة« كالادعاء عليه، مثلاً، بأنه »وحدوي«؟!
مَن يطيق أن يُفترى عليه فيُتهم بأنه »اشتراكي«؟!
بل مَن يقبل أن يُشنّع عليه شانئوه فيتقوّلون عليه انه معاد للصهيونية أو مطالب بتحرير فلسطين، أو ما زال يستذكر القدس؟!
* * *
بعد أسبوع واحد تكمل »السفير« عامها الخامس والعشرين.
ما أقل ما أنجزنا، ما أصعب ما علينا أن نتصدى لإنجازه،
لكننا حاولنا وما زلنا نحاول، وسنستمر في المحاولة.
عشنا من الأحزان أكثر مما طالت أيدينا من لحظات الفرح،
على أنها لم تكن أحزاناً شخصية، ولا الفرح كان شخصياً.
فرحنا المقاومةَ والصمودَ منعاً لاكتمال دائرة الهزيمة، بأمل متجدد بأن الأمة لن تستسلم ولن تندثر ولن تموت.
إنها أمة تشتري حياتها بدمها،
و»السفير« تنتسب إلى شرف المحاولة لكي تستحق أن تبقى ما كانته: »صوت الذين لا صوت لهم«، »جريدة لبنان في الوطن العربي، جريدة الوطن العربي في لبنان«.
وإلى خمسة وعشرين ربيعاً أخرى،
وستظل »السفير« بشارة الربيع.. ربيع الأمل والتغيير والغد الأفضل.
تهويمات
} قالت له: تعطيني نظرك وتعطيها قلبك، ثم تسائلني عن الحب؟!
قال: قلب المحب في عينيه، والغيرة تعمي. سأغيب، ربما يعود إليك نظرك!
} قالت لصديقتها: أراني اليوم قوية كشلال من الحب. أخاف إن التقيت حبيبي أن أؤذيه في عزته، فلسوف يكون عطائي أعظم من قدرته على التلقي.
قالت صديقتها مداعبة: أسمع وقع أقدام.. لعله هو!!
هتفت الأولى بشيء من الذعر: يا إلهي أغِثني… ضعيفة أنا، ومنسحقة… هلا أخّرته قليلاً كي يهدأ روعي!
} قالت الجميلة: لا أحب الشتاء.. أحب الصيف!
قالت صديقتها الأقل جمالاً: تحبين أن يراك الجميع بملابس أقل!
قالت الجميلة: أحب البحر.
قالت صديقتها الأقل جمالاً: .. وتريدين الكل على شاطئك!
قالت الجميلة: أحب الأولاد… لكنني لا أحب أن أتزوج.
قالت صديقتها الأقل جمالاً: سأذهب قبل أن تأخذي كل جميل لنفسك وتتركي لي الثلج والصحراء والرجال الذين مثلك يريدون الحياة نزهة خلوية تمتد بين شاطئين كلما توهمت أنك قاربت أولهما اكتشفت أنك إنما ابتعدت عن الآخر وغاب عنك أفق الوصول.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا تعرّض حبيبك لامتحان يومي مفتوح بسبب من الغيرة أو المقارنة الدائمة بالآخرين. أجمل الحب ذلك الذي لا يحتاج إلى مال كثير. لا يركب الحب اليخوت، ولا يعيش طويلاً في منابت اصطناعية كشواطئ الريفييرا الفرنسية أو فلوريدا الأميركية. ويبرد الحب إلى حد الذبول في القصور الفارغة من العاطفة والمحتشد فيها الخدم. لا يحتاج الحب إلى دفيئات. له حنايا الصدور ومآقي العيون وخلجات القلب وهمسات الشوق. وهذه جميعاً لا تُستنبت ولا تُستنسخ، لا تُعار ولا تستعار، لا تُشترى ولا تؤجَّر. حبيبك فيك وأنت فيه، والباقي خارج!