طلال سلمان

هوامش عن الخالئف المخيف وقاتل خوفه ليحيا

هوامش
****
عن الخائف المخيف وقاتل خوفه ليحيا
كلما التقت مجموعة من »العرب« المختلفين في جوازات سفرهم، المتفقين في أسباب تذمرهم من واقعهم المهين، تفجروا بظلاماتهم المتشابهة فلم يسمع أحد منهم أحدا.
هذه عينة لحوار دار، قبل أيام في بيروت، وهو يدور كل يوم في كل يوم، صامتا أو جهيرا، داخل النفوس أو خارجها، وغالبا في لحظة ما قبل الانطفاء سُكرا بقليل، أو بعد الاطمئنان إلى غفلة »العيون« و»الآذان« عنهم بقليل.
ولأن القصد يتجاوز التشهير بأصحاب القول، فقد تركنا الحوار مرسلاً وغير محدد بهوية قائليه، بحيث يمكن لأي كان أن ينسب لنفسه أي مقطع يشاء!
* * *
لا تستمد السلطة قوتها من الذات الإلهية،
وليس على وجه البسيطة سلطة معصومة عن الأخطاء والارتكابات، سواء أتجسدت بمجموعة حاكمة أم بسلطان متحكم.
حتى السلطة المنتخبة، في الأنظمة الديموقراطية، تتورط في أخطاء، أو ينكشف عجزها عن مواجهة المهمات المطلوبة منها، فتستقيل في الغالب، أو تواجه مصيرها في المجلس النيابي، أو تلجأ إلى الحل الاحتياطي: العودة إلى صندوقة الاقتراع، ليتم التعديل أو التصحيح أو تداول السلطة عن طريق الشرعية الديموقراطية، أي الانتخاب.
لكن أهل السلطة في »الأقطار على طريق النمو« (وهو اسم الدلع للمتخلفين سياسيا، أمثالنا)، يستشعرون في نفوسهم قدرة تتجاوز الطاقة البشرية، ويحرصون في سلوكهم كما في أدبياتهم على استعارة شيء من صفات القداسة.
أما إذا انحصرت السلطة في فرد واحد فإن طريقه الى احتلال السماء والتكرم بأن يسبغ أفضاله على الناس من علٍ، تغدو قصيرة جداً، إذ يحتشد »المؤمنون بإلهامه« سلالم ترفعه إلى فوق، حتى تقصر المسافة وتكاد تنعدم بينه وبين »القادر على كل شيء« والذي »إذا أراد أمرا قال له كن فيكون«.
في الغالب الأعم فإن أقصر طريق إلى ارتفاع السلطان الى ما فوق البشر هو التخويف، مشفوعا بقليل من الترغيب والعطايا لجوقة المؤلِّهين والمنشدين والمروِّجين للقدرات الأسطورية التي يتمتع بها هذا الذي أنعمت به السماء على عباد الله الصالحين،
أما أقصر طريق إلى التسليم بعصمة الحاكم، وبمنزلته التي ترفعه فوق سائر الخلق، فهو: الخوف!
ففي كل من ترفعه المقادير إلى سدة السلطة، كل سلطة، »جرو« صغير قابل للتحول إذا ما واتته الفرصة إلى وحش كاسر.
وداخل نفوس الناس البسطاء يكمن شيء من الاستعداد للاستسلام في مواجهة السلطة، مرة بالنفاق طمعا بمكسب أو بمنصب، ومرة بالرغبة في تجنب الصدام مع الأقوى، ومرة انسياقا مع الكثرة أو تحسبا من خرق الصمت المفروض والذي قد يتمظهر على شكل تأييد شعبي واسع..
الخوف هو السيد في العلاقة بين السلطان المتحكم وبين المحكوم.
والخوف حبل رفيع جدا، يكفي أن يهتز مرة حتى تتساقط الضحايا أو تتهاوى الأساطير، فاتحة الدرب أمام افتضاح أمر »المخيف« الذي من شدة »خوفه« هو بالذات قد يتحول إلى سفاح.
هي علاقة صراع آذان بين »خائف« قد يدفعه التحدي لأن يغدو »مخيفا«، وبين »مخيف« قد يكشفه عجز السلطة عن تركيع الجميع والختم على أفواههم بالشمع أو بالدم الأحمر، فينقلب »خائفا« مذعورا، وقد يحاول »إبادة« من تسبب في إعلان حقيقته المخفية وراء جدران الرهبة.
الصمت مقبرة الجبناء.
أما »الكلمة« فقد تكون الطريق إلى الحياة الجديدة، خارج مربع الخرس والتعامي عن العيب، وبشارة الغد.
والصمت بوليصة تأمين السلطان الظالم أو المتحكم المتجبر.
لذا فهو يصادر »الكلمات« ويحتكرها، ويستخدم منها ما يخدم أغراضه ثم يأمر بإعدام الباقي رميا بالرصاص.
انه يحتكر لنفسه، بعد أسماء الله الحسنى، كل تلك الكلمات التي تنطوي على وعد بتبدل الأحوال، فهو »الشمس« وهو »النور« وهو »الضوء«، هو »ربيع الأمل« وهو »مطر الخير« وهو »مصدر الحب«، هو »الحكمة« وهو »الإرادة«، هو »المجد« وهو »الأمان«، فيه »براءة الأطفال« وملامحه »يوسفية الحُسن« وان كان في الصلابة كصخور الصوان.
في ظل »المخيف« تهاجر كلمات الغزل، ويتلطى العشاق بعيدا عن »عيونه« المبثوثة في كل مكان لتصادر »الحب« وتحمله إليه.
أما »الخائف« فإنه سرعان ما يفقد شروط إنسانيته متحولاً إلى »دابة« تمشي على قدمين متحركة بين مصدر رزقها ومهجعها المرصود، يأكل بحسبان ويتكلم بألف حساب، ثم يهرب بخوفه إلى النوم والتناسل لعله يستولد في الآتين بعده أملاً بالتغيير.
وكثيرا ما يفاجئه التساؤل عن هؤلاء الذين ينجبهم، وقد يأخذه التفكير الى الحزن سلفا والى الندم، ويحاول التكفير عن جريمته باستيلاد المزيد من العبيد، بإلقاء اللوم على زوجته أو على شبقه الذي طمس خوفه، وأنساه واقعه المهين.
يسبق الخوف الجنين الى الرحم،
ويطل المولود الجديد لتستقبله عيون مطفأة بالخوف عليه منذ اللحظة الأولى.
الخوف قاتل، إذا ما استسلمتَ له، وأنت المقتول بلا جنازة أو مشيعين: من يدري، لعلهم يغضبون منا إن نحن أقمنا مجلسا للعزاء؟!
هل الديموقراطية، في بعض وجوهها، توازن الرعب بين الحاكم والمحكوم؟!
هل الدكتاتورية توغل من الحاكم داخل خوف المحكومين، يتسع له كلما تقدم فيه فيصعب عليه الرجوع، أو قد يستمرئ النوم داخل استكانتهم، فإن تململوا فأزعجوه حولوا أحلامه الى كوابيس فرماهم بها أو جعلهم وقودها؟!
خوف المحكوم هو العلة في فساد الحاكم،
لكن سيف الحاكم طويل، رهيف الحد، ومطلق السراح إن لم يصمد له أولئك المخيَّرون بين الموت خوفا أو قتل الخوف بالموت.
بعض الجبناء يتعهدون خوفهم بالرعاية، ويعممونه على أهلهم وجيرانهم الأقربين، ثم ينشرونه في الهواء وباء ليصيب الناس جميعا فلا يتحركون!
مع أول كلمة »لا« مباركة ينتقل الخوف الى مصدره الأصلي: المنصِّب نفسه نائبا أو ممثلا للإرادة الإلهية على الأرض.
المجد لله في الأعالي،
والأعالي ليست كراسي السلطان.
والله مصدر للشجاعة وللطمأنينة وليس للخوف،
وفي الكلمات المقدسة ما يحرض ويدعو إلى الثورة والعصيان ومجابهة السلطان الظالم.
فمقاومة السلطان الظالم شهادة،
والسكوت عن الظلم ترد في الخطيئة،
ولله الأسماء الحسنى، وحده لا شريك له.
أما الخوف فنبت شيطاني إن تركته يمتد تحول الى آفة خطيرة تحول الإنسان إلى دمية، إلى شلو يتسلى السلطان بجعله حقل تدريب لرصاصه أو لمباذله أو لشذوذه الذي قد يفرضه قانونا.
كيف يدّعي »الخائف« انه »عبد صالح« لله عز وجل ما دام أنه يحل في قلبه أو في لسانه السلطان الظالم محل الخالق ويتوجه إليه بالعبادة وطلب الرحمة أو الغفران.
الصمت مقبرة الجبناء،
والخوف مقبرة المظلومين،
فانهض حتى لا يأخذك الخوف إلى الموت من قبل أن تعيش حياتك.

عندما تكون الحياة جملة معترضة بين موتين
في بلدتي اللاطية في الحضن الأجرد والمهمل من حنين، وعيت على بدايات حكاية، بل مأساة، لم أستطع برغم كل محاولات الاستقصاء والاستدراج أن استكملها من ذوي الشأن، وبعضهم من ذوي رحمي.
الحكاية المأساة تومئ أو تشير بسرعة خاطفة إلى صبيتين جميلتين لإحدى عائلات البلدة، اختفتا بل أخفيتا في ظروف غامضة ثم لم تظهرا بعد ذلك أبدا.
الكل يعرف أن الصبيتين الجميلتين قد قُتلتا ودُفنتا في إحدى المغاور خلف الهضاب المتدرجة صعودا في اتجاه القمة الثلجية للجبل الذي كان لا يخلع عمامته البيضاء في أي من أيام السنة.
والكل يعرف أن خلف الاختفاء قصتي حب ذاع خبرهما فاستحقت »البطلتان« أن يوقع عليهما العقاب، بإلغاء وجودهما وطمس كل معلم أو أثر يشير إلى أنهما كانتا هناك ذات يوم!
جاء رجال الدرك فاعتقلوا العشرات، وأحالوهم إلى المستنطق القاسي فاستجوبهم مستخدما كل براعته وكل وسائل الترغيب والترهيب.
وجاس رجال التحري في أزقة البلدة المعتمة، تنصتوا، واستدرجوا الأطفال فأغووهم بحبات »الملبس« وببعض القروش، استدرجوا النساء واستثاروا فيهن غيرتهن وحسدهن ممن كانتا أجمل منهن.
لعب الجميع على وتر الخصومات المحلية، وجرّبوا استغلال الأحقاد المعتقة، ونبشوا القبور واستعادوا سيرة من قتلوا غيلة.
غاب الجميع لأسابيع وعادوا بأساليب جديدة.
تم اعتقال العديد من شباب عائلة »المغدورتين« وضُربوا وأهينوا وعُذبوا وهُددوا بمحاكمات تنتهي بأحكام قاسية على الشبهة.
لكن الجبل لم يتصدع، ولم تحدث فيه ثغرة واحدة يمكن النفاذ منها إلى الحقيقة.
حتى اليوم، ما تزال المأساة المزدوجة الضحايا لغزا، ولسوف تبقى لأن جميع الشهود ممن يعرفون، أو نقلوا عمن يعرفون، أو استنتجوا بالقرائن أو بالمنطق فأعادوا نظم الحكاية وقد حددوا »أبطالها« المجهولين، جميعهم انتقلوا إلى جوار ربهم والسر في صدورهم.
وحتى اليوم، تعود إلى الذهن فورا مأساة الصبيتين الجميلتين كلما ذاع أمر قصة حب جديدة بين واحد من شباب البلدة وواحدة من شاباتها اللواتي لم »يتبن« ولم تردعهن »التجربة المرة« التي أخذت سابقاتهن إلى الموت.
استعدتُ هذا الشريط عن المأساة البلا خاتمة وأنا أقرأ رواية رشيد الضعيف الجديدة »ليرنينغ انغلش«.
ربما لهذا، ولولا بعض الفروق التفصيلية المتصلة بأسماء الأشخاص والأماكن، لصدقت أنني إنما أتجول داخل حديقة العواطف والأحقاد والأعراف والتقاليد السائدة في بلدتي وسائر »بلاد بعلبك الهرمل«، وليس داخل »القارة« الزغرتاوية التي تفيض بامتداداتها عن آسيا وأفريقيا مجتمعتين.
بهدوء، ومن ناحية البراءة، تسلل رشيد الذي أثبت بقلمه أنه ليس ضعيفا كما يدل اسمه، لا في مجال الاستذكار واستعادة التفاصيل وإعادة نسجها عملاً فنياً، ولا في التحليل النفسي لبيئة صخرية يصعب الدخول إليها ويصعب أكثر الخروج منها، فقدم لوحة متميزة لبعض جوانب هذا المجتمع اللبناني »الجاهلي« وإن بثياب آخر موضة باريسية وبآخر صرعة أميركية في المأكل والمغنى والسلوك.
أعرفهم رجلاً رجلاً، وامرأة امرأة، كل أولئك الذين حركهم رشيد الضعيف على الصفحة البيضاء فاصطرعوا وتحابوا وتبادلوا العشق والكراهية وتواطأوا حتى لا يدخل بينهم »غريب« كالدولة، أو يشمت بهم »الخصوم« من الأقارب فيعرف »الأعادي« ويتفجر الدم مجددا ليحصد زهرة شباب الخطاة الأصليين الذين تعلموا كيف يموتون أكثر مما تعلموا كيف يحيون.. أو خصوصا كيف يحبون.
الموت أساس العلاقة مع الحياة.
لكأن الحياة جملة معترضة بين موتين.
أما الحب فزهرة بنفسج تتلطى داخل غابات البغض المجهول السبب والممتد عبر الأجيال لأن أحدا لا يجرؤ على رده إلى أصله »الوضيع« ومواجهته بحقائق التحول التي غيّرت في الحجر أكثر مما غيّرت في البشر.
الحب أضيق من أن يتسع لعائلتين، ومن سوء الحظ أن يصيب همسهم كيوبيد واحدا من »الأعداء«، لأن الرصاص سيعرف من ثم طريقه إلى صدر الجانية، والأقرب هو الأولى، بل هو المطالَب بالتنفيذ الفوري، فإن تلكأ نُبذ وكلف آخر من حراس شرف العائلة بأن يذود عن حياضه بقتل »المجدلية« الجديدة.. ولا غفران، وكل الخطاة سيتزاحمون لرجمها، وسيتلذذون بحسن التسديد لإصابة مكامن اللذة في جسدها.
القلب يتسع للدنيا كلها، بالأغراب والأعاجم فيها، ما عدا العائلة المنافسة.
الساحة لا تتسع لأكثر من ديكين، وعلى كل دجاجة أن تلزم خمها فلا تغادره إلا بإذن، وإلا التهمها ذئب الكراهية في الخارج وسط الصمت الأقسى من القتل.

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
كلما صادفت عاشقين غارقين في نعيم حبهما، لاهيين عن الآخرين الجالسين قريباً منهما في المطعم أو في المقهى أو في صالة الانتظار في بعض المطارات، أو على واحد من مقاعد الحديقة العامة، أحسست بغبطة، وأقمت نفسي حارسا لهما، أصد عنهما نظرات الفضول والحسد، وأمنع تناولهما بكلمات جارحة..
كنا مئة هناك.. وكانا الأجمل، تحيط بهما هالة قدسية تظهرهما ملاكين! بل أعظم.. تظهرهما إنسانين كاملين!

Exit mobile version