طلال سلمان

هوامش عن الجامعات التي تغرّب أبناءنا عن أوطانهم!

أمر مفرح أن ترى تكاثر الجامعات الرفيعة المستوى، عالمياً، في مختلف الأقطار العربية، لا سيما تلك التي تفجرت أرضها وبحورها بثروات النفط والغاز الخرافية.
وإذا كان لبنان قد ضرب الرقم القياسي في عدد الجامعات، العريقة منها والمستحدثة، قليلها الوطني وكثيرها الأجنبي، الرفيعة المستوى او العادية، من تصدر شهاداتها محليا او من تستوردها ممهورة بأختام الجامعة ـ الأم في الخارج، فإن دولاً عربية أصغر من لبنان في عديد سكانها، وبالتحديد في الخليج العربي، قد استنبتت في أرضها جامعات دولية عدة رفيعة المستوى وممتازة التجهيز وإن ظل ينقصها الطلبة، سواء من أبناء البلاد الأصليين أو من الوافدين او من المستقدمين خصيصا كي يسدوا النقص فيرفعوا العدد إلى الحد الأدنى المطلوب.
اللهم لا اعتراض… لا على استيراد الجامعات الأشهر والأغلى والأحدث في برامجها والمربوطة فروعها «العربية» بالمركز الأميركي غالباً، ولا على استيراد الأساتذة وحتى الطلاب.
لكن الأمر اللافت أن «اللغة العربية» تكاد تكون منبوذة وممنوع عليها دخول حرم هذه الجامعات، فيتخرج طلابها الذين قد يبزّون أقرانهم في «جامعة المقر» المربوط إلكترونياً «بفروعه» في الأقطار العربية، وهم لا يعرفون شيئا من لغتهم العربية.
لقد باتت لغتنا الجميلة «عورة» يهرب من الانتساب اليها أهلها، ويهجرونها بتهمة أنها «متخلفة» وغير قادرة على الانتساب الى العصر، ومحدودة بمعنى انها غير مؤهلة لاستيعاب العلوم الحديثة، التي استوعبتها لغات أقل حيوية وأقل أهلية للحياة وأقل قابلية لمجاراة مبتكرات العلوم الحديثة ومفرداتها ورموزها الدالة…
هذه قضية أخطر من أن يترك أمر علاجها للسياسيين: إنه المستقبل! مستقبل هذه الأمة المهددة في وجودها… ولغتها هي وجدانها، هي تراثها، وهي هويتها، بالمعنى القومي، وهي وعاء دينها، كأنه لا يكفينا العجز عن مقاومة الاحتلال، إسرائيليا كان أم أميركيا، واندفاع النظام العربي للاستسلام متخلياً عن الأوطان وحقوق أهلها فيها، وعن كل مقومات السيادة والاستقلال والديموقراطية، حتى نرفع أيدينا مستسلمين ـ بغير قتال ـ لمن يحقر فينا كل مكوناتنا كبشر يستحقون الحياة.
لقد أخذت شعوب أخرى، لها دول تحترم تاريخها وهوياتها، بمبدأ تطوير برامج التعليم لتلحق بالعصر، فقررت مبدأ التدريس باللغات «الحية»، ولكنها في الوقت ذاته طورت لغاتها بما مكنها من استيعاب العلوم الحديثة، خصوصا أن معظمها يستخدم الرموز الدالة أكثر من استخدام الحروف والكلمات.
ليست اللغة العربية عاجزة، ولا هي «عاقر»… وفي عصور سابقة استطاع العلماء والحكماء ان يترجموا التراث العلمي الانساني وأن يضيفوا اليه إنجازات باهرة، بالرموز والمعادلات ـ رياضية وكيمائية ـ من دون عناء، حتى صارت العربية لغة العلم في العالم كله على امتداد قرون.
من باب الاستذكار، أستعيد واقعة جرت معي قبل سنوات قليلة:
خلال زيارة بدعوة رسمية إلى بريطانيا، تسنى لي ان أسعد بجولة في مدينة الجامعات، أوكسفورد.
كان في البرنامج زيارة لمركز الدراسات الشرقية.
ولقد استقبلني المدير، وهو عالم جليل تكاد تحسبه عجوزا بشعره الأبيض الكثيف ونظارتيه السميكتين، ونطقه البطيء.
كنت حريصاً أن استمع اليه أطول فترة ممكنة، ولذا وجهت إليه اسئلة مبتدئ وتركته يسترسل في شرح مهمات المركز وكنوز مكتبته، وإعداد طلابه والدارسين فيه والمخرجين…
ولقد أفاض في شرحه الممتع… ثم توقف عن الكلام للحظة، ونظر إليّ من خلف الزجاج الكثيف لنظارتيه، قبل أن يسألني:
ـ هل تعرف ما هي أول الكتب التي جاءت إلى أوكسفورد، ومن أين جاءت لتصير الركيزة الأولى لمدينة العلم هذه؟ لقد كانت كتبا باللغة العربية، لعلماء عرب، وقد جاءتنا من الأندلس التي كانت عاصمة العلم في العالم. من واجبي أن أشهد لعلمائكم بأنهم كانوا رواداً في مجالات علمية عديدة بينها الطب والرياضيات عموما والهندسة وعلم الفلك والموسيقى، فضلا عن الإضافات المهمة التي قدموها في مجالات الفلسفة..
صمت العالم الجليل قليلا قبل أن يختم بالقول:
ـ لن يفوتني ان أذكر ان العلماء العرب هم من ابتدعوا علم الاجتماع، وكلنا ندين لابن خلدون بهذا الفضل العظيم!
من باب الاستذكار أيضا تعود إلى الذهن صور المتخرجين الأُول من كلية الحقوق في جامعة دمشق، خلال فترة السيطرة الاستعمارية على المشرق (فرنسا في سوريا ولبنان، وبريطانيا في فلسطين والعراق والأردن الذي استولد على عجل)…
… كذلك صور المتخرجين الأُول من جامعة القاهرة، وقد كانت مصر تحت الحكم الملكي، في ظل الاحتلال البريطاني…
إن الدراسة في جامعات وطنية، في بلاد أخضعت للاستعمار الأجنبي، لم تمنع المتخرجين الأوائل من ان يكونوا رواداً للدعوة العربية وللاستقلال الوطني في كل من مصر وسوريا ولبنان وفلسطين ومن ثم العراق…
لقد تعلموا، ثم علّموا، وظلوا أعلاما ودعاة للغتهم الأم. وحتى من ذهب أو أوفد للدراسة في بلاد الغرب، فرنسا وبريطانيا خصوصا، عاد وأنتج بلغته الأم كتبا في العلوم والفنون فضلا عن الآداب.
بل لعل تحدي المستعمر قد دفعهم إلى التعمق في معرفة لغتهم العربية الجميلة، وإثبات أهليتها لأن تكون لغة الهندسة والطب والفيزياء، إضافة إلى كونها وعاء الوجدان، بوصفها لغة القرآن الكريم.
المهم أن يذهب طلبتنا الى الجامعات وهم عرب وأن يعودوا منها وهم عرب… وأن ينفعوا أمتهم بعلمهم الذي لا يهم مصدره بقدر ما يهم مصبه، وفي خدمة من يكون، وهل يزيد من اعتزازهم بهويتهم ويمكنهم من أن يخدموا أمتهم بصورة أفضل، ام سيكون «الطريق السريع» لاغترابهم فكريا وسياسيا، فيتحولوا الى مروجين «للدول» التي تعلموا في جامعاتها ولمشروع هيمنة هذه الدول على أمتهم وتحكمها في صياغة مستقبلها.
لسنا أمة طارئة على الحضارة الانسانية.
وليس حكامنا هم العناوين المضيئة لأهليتنا وجدارتنا بأن نضيف الى العلم باجتهادنا وبجدنا وبقدرتنا على استيعاب روح العصر…
هذه معركة اليوم والغد. وهذا هو المدخل الحقيقي لتحرير الإرادة فلا تجعلوه مدخلاً الى إخضاع هذه الأمة لأعدائها مجتمعين وفيهم الاسرائيلي والمهيمن الاميركي وأهل النظام العربي المتواطئون معهم عليها.
عاشق الخريف
نشأنا على النفور من الخريف، وبادرناه بعداء لا مبرر له…
حفظنا قصائد لشعراء كبار «يشهّرون» بهذا الفصل من فصول السنة الذي يختتم الصيف وحره ويستهل فصل الأمطار والبرد، ويتقوّلون عليه، وينسبون إليه القتامة ويرونه مصدر «السوداوية» وتعكر المزاج وارتفاع نسبة السكر في الدم!
وأذكر انني في بدايات عملي الصحافي في مجلة «الحوادث» كنت أستمع الى ضروب من التندر والمقالب بين الراحلين الكبيرين شفيق الحوت وأحمد شومان، تحت رقابة معلم الجميع منح الصلح.
كان أحمد شومان يمتدح الخريف ويكاد يقول الشعر في مناخه المعتدل، فلا هو «حمارة القيظ» ولا هو مطلق الرعود والبرق بشارة بالثلج والجليد:
ـ انظروا الى ألوان الطبيعة، خلال الخريف، ان كل ما فيها اجمل مما كان ومما سوف يكون. من ورود الأرض الى أوراق الشجر، ومن الأفق الذي لا يسده الغيم ولا تتربع فيه الشمس الحارقة. انه منبع الألوان والشعر والشوق. إنه فصل الحب!
فإذا ما تمادى الخصوم في المماحكة يندفع أحمد شومان مع الحماسة الى مداها الأقصى: كذب من ادعى ان الربيع هو فصل الحب والجمال. انه فصل مصفر. كل زهوره صفراء. بينما الخريف منبع الألوان الخلابة جميعا. تنظر الى الأرض الوعرة فإذا أوراق شجرها بعشرة ألوان… اما ما وقع منها أرضاً فزركشة بهية. لون السماء زرقة يخالطها بعض رماد الغيم وبعض انكسار أشعة الشمس الواهنة عليها. الأرض المستعدة لتلقي لقاحها مع المطر تبرز مفاتنها جميعا فإذا هي مزيج من ألوان البهاء فيها الأخضر والرمادي والأحمر والبنفسجي والأزرق والأصفر. الخريف حديقتي وأريكتي وخميلتي، بل هو جنتي!
اليوم، بتنا أكثر اقتناعاً بجمال الخريف، فانظر حولك ومتع ناظريك بمهرجان لا يستطيع إبداعه غير الفنان الأعظم: الطبيعة!

حكاية/ في انتظار المطر!

لم تترك صديقتها تستكمل أسئلتها عن سبب استدعائها، وبإلحاح مقلق، في تلك الساعة المتأخرة من الليل، بل اندفعــت تقــول وكأنها تحـدث نفسها:
ـ لا طاقة لي على مزيد من الصبر. لم أعد استطيع ان اتحمل عجزي عن القرار. حيثما كنت وكيفما التفت أراه واقفاً يرمقني بصمت، لكن عينيه تشعان بالحب. حتى الحديقة، بورودها وأشجارها التي تنزف الآن أوراقها بعدما اختطفت منها ثمارها، تسألني عنه. حتى العصافير التي تعبر بي أسمعها تترنم باسمه وترمقني بنظرة إشفاق.. أما الركن الذي طالما خبأنا فيه همساتنا والتنهدات، فقد بت أتجنب المرور به او حتى التطلع إليه، وإن كانت عيناي تسترقان النظر، بعد، فتنشط ذاكرتي لاستعادة آخر كلماته.
انحنت فجأة ولملمت بعض وريقات الشجر وقد جعدها هواء الخريف فأخذت تطحنها بكفيها وتشمها وهي تقول: لعل فيها بعض رائحته.
كانت الصديقة تقف مذهولة بفيضان الحب الذي يتدفق عبر كلمات العاشقة التي أمضّها الهجر.. وبعد فترة من الصمت سألتها:
ـ هل تريدين أن أرتب لقاء بينكما؟
ردت بعصبية ظاهرة: لا، لا.. إياك أن تفعلي! سأتركه يتعذب مثلي حتى إذا أمضه العذاب بادر الى الاتصال.. بل لعله يجيء.
ران الصمت مجدداً، قبل أن تقطعه لتسأل بقلق:
ـ هل ترينه سيلبي دعوتك؟ هل تراه يجيء؟! لا، لا، لا تتصلي به. أرجوك لا تتصلي. دعيه يبادر مرة.. بل ربما كان الأفضل أن تذكريه. اتصال واحد ليس تنازلاً خطيرا. لك القرار! تصرفي.
وانصرفت مسرعة، بينما انهمكت الصديقة في ممارسة هوايتها بجمع أوراق الشجر اليابسة التي تعجنها لتستخرج منها ألواناً غير مألوفة سوف تستخدمها في لوحتها الجديدة التي جاءها اسمها متهادياً بغير طلب: في انتظار المطر!

مــن أقــوال نســمة

قال لي «نسمة» الــذي لم تعــرف له مهــنة إلا الحب:
ـ الحب يجعل حياتك ألف ألف حياة. ان وحدة الزمن في الحب هي اللمسة، الهمسة، النظرة الخاطفة والتي ترى ما خلف الظاهر.
في الألف العاشرة من حياتي التفت الى حبيبي فإذا هو يحبو نحو سنته الأولى حبا. اللهم اجعله يكبر بحبي وفي حبي ولحبي.

Exit mobile version