طلال سلمان

صبي مشغرة يقضم تفاح القرامطة وترياق الأندلس!

ممتع أن يشركك إنسان في حميمياته كأن يدخلك على أمه وهي تصلي أو على أبيه وهو يستعيد قصائده الغزلية في بنت الجيران، أو يفتح لك الأحضان الدافئة لقريته فتراها بعينه مغلفة بالحنين، موشاة بالفخر، منداة بطيب الحب الأول ومباركة كمنبع لارتباطه بالأرض وناسها والاعتزاز بالتاريخ.
ليس للبقاع آخر لتكون مشغرة تخمه، ليس للجنوب أول لتكون مشغرة نقطة البداية، فمنذ نصف قرن على الأقل انتثر الدم الفلسطيني على الجهات جميعاً فصار الناس بين قاصد إلى فلسطين أو هارب من إسرائيل، وتداخل التاريخ بالجغرافيا حتى لم يتبق من حد إلا الحد..
وإذا كانت فيروز قد اختارت من سماء مشغرة قمرها فإن فواز طرابلسي قد مشى بنا في نبض مشغرة، بأفراحها وتعاساتها، بمدابغها والبائسين من عمالها، وينابيعها وأعياد الفرح من حولها، والانقسامات السياسية للأهلين فيها التي تجاوزت طوائفهم ومذاهبهم لتضيف إلى هذه البلدة بعضاً من المعنى الذي تفتقده بلدات أخرى.
قلم »الصبي« أطوع وأرق من قلم المنظِّر العقائدي والقائد الحزبي،
وحين ينفلت قلم »الصبي« على سجيته تشرق الصفحات بسرد روائي ممتع ينطلق من السيرة الذاتية ليلامس سيرة الوطن والأمة في »أيام من السلم والحرب« التي قد يمكن تحديد بداياتها لكن النهايات ستظل مفتوحة لأجيال أخرى من الصبيان الذين يجيئون فيعرفون وقد يحزنون أو يحبطون ثم سيكون عليهم أن يتجاوزوا الخوف والحزن والخيبة ليؤكدوا حضورهم فوق الجغرافيا وفي قلب التاريخ.
في صورة كل فتى من جيل فواز طرابلسي شيء من »الأحمر«، لكن صورة فواز جمعت ألوان قوس قزح قبل أن يحتل »الأحمر« مساحة عريضة فيها،
فالإسم مستعار من شيخ قبيلة الرولى، والكنية الآتية من الشمال عبرت دمشق في الطريق إلى مشغرة، والفتى »فك الحرف« في زحلة قبل أن يعيد تركيبه في برمانا ثم بريطانيا، وتعلّم »الفندقة« في بحمدون الضيعة قبل أن يصير أستاذاً يعلِّم باللغات الأجنبية في بيروت، وارتحل من القومية إلى أقصى اليسار قبل أن يشارك بتثوير الحركة الشيوعية العربية في »وهج الأزرق من حزيران 1967«، قبل أن تتراخى وتتلعثم بالحرج في مدار »الظل العالي« للرمز الفلسطيني الذي لم يلبث ان انكفأ على ذاته بوهم »الدخول« فإذا هو يُخرج الجميع منه.
الأخوال معالفة، والمعالفة شعراء، والبطل جمال عبد الناصر، وعمال الدباغة في البال دائماً، ومع انفتاح الفكر بالثقافة والسفر استقر في الوجدان جان بول سارتر كمعلم، وهكذا صار فواز طرابلسي »شيوعي شعرياً، عروبي سياسياً، على شيء من التوجه الاشتراكي اقتصادياً ووجودي فلسفيا«.
الإضافة العظيمة التي أضفت جواً أسطورياً على هذه السيرة الذاتية لصبي مشغرة جاءت في باريس مع ترياق أحمد فارس الشدياق.
بإرادة مباشرة قرّر فواز أن يتقمص »الفرياق«، واتخذه رواية ودليلاً وقارئ غيب رأى، قبل قرن تقريباً، ما سوف تعيشه بلاده، وما سيعرض لهذا »الصبي«، فأعطاه بعضاً من قبسه لكي يستنير فينير.
كمال جنبلاط يحتل موقعه قبل »الأحمر« وفي قلبه وبعده في سيرة الوطن وصبيه الباحث دائماً عن اليقين، والذي حمله الضياع أو الوهم أو الرغبة في المعرفة إلى قرامطة، الأطراف بديلاً من جمال عبد الناصر، فاستفز ذلك الثوري الأممي الصعلوك العفيف الأخضر، وجعله داعية إلى العقل بامتياز.
ومع كمال جنبلاط وإلى جانبه تندرج أسماء أليفة كثيرة وكأنها بعض ملامح فواز نفسه، أبرزها محسن إبراهيم وجورج حاوي، ومعهما العديد من قيادات الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان،
بالمقابل يحتل بيكاسو ولوحته المجيدة التي خلّدت وحشية الاحتلال وبسالة المقاومة »غيرينيكا«، والأندلس وسائر إسبانيا، وفيديل كاسترو وكوبا الثورة، مساحة في يوميات »الصبي« الذي تشرد بالأمر أحياناً وبالرغبة أحياناً كثيرة حتى بكى مع »الكلوشار« في مترو باريس، وكاد يغني الموشحات في رثاء ملوك الطوائف المتجددين أبداً، بالمعيار اللبناني،
طويلة هي الرحلة، جميل هو الجنى،
الفتى الآن يحمل وثيقة ولادة جديدة، ولعلَّه قد غادر موقع الموله، فأفاق من سكره البلا خمر، ولعله لن يتمثل بذلك الكئيب المشوق الذي يندب الأوطان، ولن يسأل (الآخرين): »هل تستعاد، أيامنا في الخليج«.
لكن مشغرة تبقى المنطلق والمبتغى:
»تفاحك الخطيئة الأولى،
تفاحك البراءة الأولى
تفاحك حياتنا الأولى
يا أرملة الوداعات
يا قلعة الصخر فوق عروق الزلازل
ويا قمر مشغرة
يا قرص العسل البري
اسهر عليها..«.

 

دوَّن يدوِّن ديواناً!

تتزايد معارض الكتاب فيتناقص عدد القراء.
يتناقص عدد الصفحات ويرتفع ثمن الكتاب.
الدواوين كثيرة لكن الشعر قليل.
يتضاءل عدد الكلمات، يتعاظم عدد النقاط، يلمع بياض الصفحة بالفكرة المشرقة التي عجز صاحبها عن إطلاقها، فترك لك أن تعلنها بصوتك أو بقلمك.
قرأت لمائة من شعراء دواوين الهواء والنقاط والجمل المثقلة بالأخطاء الإملائية.
وقفت على باب هاته الدواوين أتسوَّل بيتاً من الشعر فلم أسمع إلا ثرثرة رجل يحلق ذقنه في حمام جاره بصابونة مسروقة من الجامع القريب،
جرفني الهذيان المشطَّر إلى بحر من الكلمات المتقاطعة، فلذت بحرف الجيم ليسكنني نقطته الجزيرة التي يحميها بذراعه الحاضنة من عواصف الركاكة والتوغل في بذاءة الاعتراف بمباذل اليوميات السوداء.
أليس من جهة تصدر قراراً فتحدد »كادر« الشعراء، فلا يبقى مفتوحاً للهواء والخواء وثرثرة الذين يملكون فائضاً من الوقت ونقصاً في الموهبة؟!

 

تهويمات

} تقولين ولا أقول. ماذا ينفع القول!
أقول ولا تقولين. ماذا ينفع الصمت!
الصمت لغة الحب؟! بل إن الحب ثرثار خطير، يتكلم بألف لغة: بالعين، برمش العين، بالحاجب، بالعنق، باليد، بذلك التيار المتفلت من أطراف الأنامل، بتسريحة الشعر، بالخطو، بالالتفاتة المعاتبة، بحمى اللقاء، بقشعريرة الوداع، بالقمر، بغروب الشمس، بإطلالة نجمة الصبح، بتنهيدة السهل وهو يستفيق مع الفجر مطلقاً السنابل إلى الأعلى لتحجب العناق وترطبه بالعليل من النسيم.
يقول جدي الحكيم إنه قرأ القواميس جميعاً ولكن الحب ظل ناقص التعريف، آه من هذه الكلمة الصغيرة التي لا يتسع لها الكون بسماواته السبع، بينما هي تتسع لجميع المخلوقات والكائنات وتحجز من ذاتها مساحة للآتين!
كلمة »حب« هائلة الامتداد بحيث يستحيل تشطيرها أو الاجتزاء منها أو قسمتها على اثنين!
} النساء كثيرات. المرأة قليلة.
الرجال عديدون. الرجل نادر.
ما أقصر الرحلة بين رجل واحد وكل النساء، بين امرأة واحدة وكل الرجال.
ما أشق الرحلة الممتعة حتى الغياب بين رجل واحد وامرأة واحدة،
} هذه التي تتحدث عن نفسها بصفة الغائب كم ترتاح لو أنها حضرت!
فالاعتراف الناقص أسوأ من الصمت. والحب يقتله الخرس وأن يبنى للمجهول!
} معلق على حافة الزمان، لا أسقط عنها فأرتاح، ولا ينفتح الباب لتدخل إليَّ حياتي، ويحجزني العجز خلفه فأتهاوى خارج الشهادة.
} تناومت حتى تمطى الليل نعاساً فأخذتني إلى الشمس نغسلها بقبلاتنا حتى تفيق… وحين انتشت ثملاً خرجت إلى الناس تتعثر بطيفك وتنشر ملامحك فوق وجوههم، بينما أدور أستعيدك نطفة نطفة.
أقول: إنني قد أعدت خلقك، وأنك لن تكوني إلا بي.
أقول: هذه التي أنت تحمل بصماتي وأنفاسي وخاتمي؛ أنا مولاك وحريتك وغيري الضياع والعبث.
أقول: لو أنك تهدأين قليلاً إذن لأعطيتك اسماً،
أقول: أنا متعب اليوم. ما رأيك أن نفتح فيء ظلك لننسى.

 

عتاب الأخيلة!

تخرجين من كهف الذاكرة وفي عينيك أمسي، وأنا في قلب الدهر أصارع بعين مفتوحة على الغد فيعز اللقاء: لا أنت تتقدمين ولا أملك أن أرجع أو أُرجع الزمان القهقهرى.
الحب ليس ذكريات. الحب اللحظة المفتوحة عمراً. ليس للحب ماض. زمنه فيه وليس خارجه. به يتحدد الزمان: ما قبله أيام وأرقام، وليس له بعد، فإذا ما ذوى انطفأ الزمان وامتد اليوم الواحد سقيماً كالحاً نستعجل الراحة في غروبه.
مَن يعاتب الأخيلة؟!
مَن يستطيع تحنيط الوهم والجلوس للتعبّد على أعتابه؟!
سيدتي: أنت تطلبينني في عنوان هجرته وألغاني منذ وقت.
سيدتي: إنك تقمعين حضوري طلباً لظلك، تمسحين عن مرآتك ملامحي، تغتسلين لتذهبي عن جسدك مسار أنفاسي، تغمضين عينيك لكي تستعيدي الآخر الذي كنته وتعانقين السراب.
سيدتي: هل تعذرين ضعف ذاكرتي إن أنا سألتك عن اسمك؟!

 

يعشق العشق ذاته ..

قالت المرأة للمرأة: لا تندفعي بكل هذا الهوس، لن يكون لك كل الرجال،
ردت المرأة على المرأة: ومَن يطلب الأمان؟! أنا العاصفة، فليصمد أمامي أعظمهم رجولة إن استطاع إلى الصمود سبيلاً!
قالت المرأة للمرأة: ابتعدي عن رجلي، إذن، وخذي من استطعت من الآخرين.
ردت المرأة على المرأة: إنما اقتادهم كطابور من الأسرى، ثم اتركهم في صحراء الوجد وأمضي بعيداً إلى من يحتويني بذراعين كنيلين: قويتين على وداعة، هائلتي الزخم في قلب صمت القوة العميق.
قالت المرأة للمرأة: حبيبي سيبقى حبيبي..
ردت المرأة على المرأة: إنما انتقم لكل النساء المهجورات، لكل اللواتي حطم كبرياءهن غرور الرجال.
قالت المرأة للمرأة: ابتعدي عن حبيبي، أحب غروره، وأتشوّق لحظة انحطامي على صدره،
ردت المرأة على المرأة: لست أميّز بين الرجال. سأريك أن الرجال أيضاً لا يميزون، يكفي أن أرفع طرف ثوبي حتى يتهاوى غرورهم عند سفحي، وأولهم هذا الذي تسميه حبيبك.
قالت المرأة للمرأة: يعشق العشق ذاته، والقاتل مقتول.. وأنت ضعيفة لأنك لا تحبين وأنا بجنون حبّي أقوى منك بحماقتك. لا أخافك، وأنت تتحدين ذاتك ألف مرة كل ساعة.
سيقتلك الجفاف والحقد حتى لو سحقت ألف رجل. كل انتصار هزيمة، أما أنا ففي كل لحظة يزقني حبيبي الزبيب والجوز من على صفحة كفه، ثم يسقيني من عصيرك فأرتوي.

 

من أقوال نسمة

قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
للحب لغات عديدة، فلا تطلبه بأسلوبك. قد يجيء تظاهرة عاصفة، وقد يتسلل إليك كالنعاس، قد يعلن عن نفسه قبل ألف عام، وقد يتأخر في نطقه. ولكنه دائماً أسرع وصولاً من الصوت. لا تتلفت باحثاً عنه خارجك، إن لم يكن داخلك فاستمتع ببعض وقتك ثم واصل رحلتك إليه… فيك.

Exit mobile version