طلال سلمان

رسالة من خارج الموكب…

خطوة، خطوة، تتقدمين فوق رموش العين ونتقدم معك نحو الشمس.
كيف يتحمَّل هذا العنق النحيل أثقال ما يضج في رأس القلق؟!
وأنى يتوفر مخرج للنجاة من براثن أسئلتك المزلزلة، والكون كله يسبح في خضرة العينين حيث تختلط البدايات بالنهايات لتصطنع لك الفرادة؟!
تنسين ولا ننسى، ويفرحك التذكر الموجع للمناسبة المنتظرة التي ألغيتها لأنك لا تحبين الانتظار، ولأنك تتجاوزين التوقع، ولأنك تقرّرين فتعرفين..
يأخذنا الزهو بك الى حيث كان يجب ان تكوني يوم الجمعة البيضاء المكللة بتاج الختام، نراك وأنت هنا تتصدرين الموكب هناك. من غيرك الموكب؟ وحدك الموكب والباقي هو الحشد المصفِّق لهذه التي جاءت محلّقة، رافعة معها أرضها السمراء واسمها المتدفق بداوة، وعادت مخلفة وراءها أمجاد اللقب للذين يعوضون غيابهم بألقابهم الجاهزة للتصدير…
* * *
لا الحب قابل للزيادة ولا الخوف قابل للنقصان،
والحلم يزركش نفسه بألوان الحقيقة ويتنزل من عليائه ليمشي بيننا كالهلع. ماذا سيصيب يديك الهشَّتين. وهما تصرّان على إذابة صقيع الواقع وتخطيه؟! ماذا سيصيب روحك وهي تسعى جاهدة للإحاطة بإرادتك المقتحمة؟! وهل سيتحمل قلبك انهيارات الأحلام وتفتت الأماني السَنية؟
أعرف أنك ستغضبين… ولكننا ننظرك حلما وننتظر.
بنورك الأخضر نمخر جبال المقت والضجر وصحراء التروي. نقول: هي تستحق ان نحاول، ان نظل نكرر المحاولة لاستيلاد فجر جديد لحياة جديدة.
ولكنك الفجر والحياة الجديدة؟
بتهيب عظيم ننتظر الاكتمال ونخشى عليك من قسوتك عليك!
أهرول حافياً خلفك فوق جمر الصعب.
تقولين: لا يصنع الآخرون أحلامنا، وعلينا أن ننجح في أن نصنع أحلامنا وعندها نغيّر الآخرين.
تقولين: هيا… واقبل التحدي ويرفضه المستحيل، وتستمرّين.. تطلبين أن يكتمل الواحد، أن يكتمل الكل… ولكنك نسخة واحدة،
تحولين المنفى إلى وطن، وتحيط بك مفردات المنفى في وطنك. وتسألين مغضبة عما صنعنا في أعمارنا الطويلة المسكونة بالجفاف.
نقول لائمين بلهجة الاعتذار: لا يكون الوطن بردّ فعل غاضب على الخارج. وليست الثقافة ان نعرف الآخر، بل الثقافة ان نعرف أنفسنا أوّلاً لكي نعرف أين موقع التخم بيننا وبين الآخر. لن نكون الآخر، ولكن كينونتنا ليست نهاية. الزمن شرط اكتمال، والخطوات القصيرة تنهي الطريق أيضا.
يشع غضبك جوابا، ونخجل مما قلناه فنمشي خلفك ولا نصل.
* * *
قرأت بين برقيات التهنئة أسماء أم كلثوم وليلى مراد وعبد الحليم حافظ ومحمد فوزي ونجيب الريحاني وسائر القاهرة. قرأت إسم العاشق الباريسي الكسندر الذي ينتظر فوق الجسر أميرته خضراء العينين. قرأت أسماء تختصر نيويورك التي لا تختصر لأن كل أماكنها تحفظ شيئا منك.
ولم أستطع قراءة القصائد اليابانية ولم أفهم تماماً الشعر النبطي الذي غزلته لك صنعاء اليمن، وان كنت فهمت بالسليقة الغزل الروماني.
يا التي اجتمعت فيها كل العواصم: متى تعرفين أنكِ أنتِ أنتِ مركز الدائرة،
… وإننا من حولك ندور لنحيا.
.. وان »الورقة« التي وصلتك من خارج الموكب ستتوارى تحت ركام الأوراق المكتوبة بتعب السنين والمحفوظة لك في بطن العين.
أنت الموكب، وأنت القلم الذي يعطي للأوراق المعنى.
هل لنا بموقع في موكبك البهي؟!

 

حكاية امرأة لم تجد رجلها..

مع امتداد اليد للمصافحة، انطلق من العينين وعد غامض بأن اللقاء لن يكون عابراً.
قالت: أبلغني صديقنا المشترك بحاجتك إلى مثلي. ها أنذا. افترض أنني قد أغنيك عن البحث عن أخريات.
أخذه شيء من العجب، ربما الإعجاب بهذه الثقة بالنفس ونبرة الحسم في كلماتها. قال مدارياً حرجه: لعلك أكثر كفاءة مما أطلب، فالوظيفة الشاغرة قد…
قاطعته وقد اتسعت ابتسامتها فشعت من وجهها كله: إنما قبلت لكي أكون في المشروع، فهو ما يهمني، لا الوظيفة. لكل منا حلمه الخاص، وفي انتظار أن تتيسر أمامي فرصة تحقيق حلمي الخاص قد قررت أن أختار من بين أحلام الآخرين ما افترضه قريبا من هواي ومن اهتمامي، فأعطيه وقتي وجهدي. لنقل إنني أحقق ذاتي عبر الآخرين.
ختمت الكلام بضحكة رائقة، وكان بعدُ يتأملها.
عيناها! نعم: إنهما عيناها!
لكم تقول هاتان العينان الراهجتان بعشق الحياة وسرعة البديهة، وهذه الروح الاقتحامية.
إنها بساطة الشجاعة والمبادرة المرتكزة على ثقة عظيمة بالنفس، وخبرة بتصاريف الأيام…
قالت كأنما تقرأ أفكاره: أمّا أنا فأعرفك، لأنني أعرف كيف يختار صديقي أصدقاءه. وأمّا أنت فلا تعرفني إلا قليلاً، ولكنك لن تتعب في التعرف إليّ. سيساعدك أنني حين أقرر الاقتراب أحضر بكليتي، إنني إنسان واحد، لا أخفي من نفسي شيئا. ومع أنني لا أخلط بين واجباتي في العمل وبين مشاعري الشخصية، فإنني لا أعمل حيث لا أحب، أو مع من لا أقتنع بهم.
شجعته صراحتها فقال: أخشى أنك تعدين نفسك بالكثير، أو أنك تعدينني بمحاسبة صارمة للنفس.
قالت: لنبدأ عملنا، ذلك أجدى من نقاش في المطلق.
بعد أسبوع، انتبه إلى أنه لم يعد يعرف كيف يبتّ في أي أمر حتى تحضر فتقرّه على رأي، أو تتصرف هي فتعفيه من عبء القرار.
وفي الأسبوع الثاني، اكتشف أنها باتت تعرف الكثير من تفاصيل حياته وعلاقاته، بل وأنها كوّنت رأيا في من يلتقي من الناس، فأخذت تحجبه أو تحجب عنه من ترى أنهم »ثقلاء« أو »تافهون« أو »انتهازيون« يجيئونه لمنفعة أو للاستقواء به على »خصومهم« أو »منافسيهم« على وظيفة أو نفوذ أو التقرب من أهل السلطة.
في الأسبوع الثالث، انتبه الى أنها »ورّطته« في ثلاث دعوات إلى الغداء، وفي أربع سهرات لم تكن في برنامجه.
ثم انتبه إلى أنها بدّلت له ربطات عنقه مرتين، وأنها قالت ملاحظات عديدة في شأن ملابسه، بحيث بات يمضي وقتا طويلا في الصباح حائراً في اختيار ما يلبس خوفاً منها.
ألح عليه العديد من الأسئلة، وكان يجد في العادة عذراً للتهرب من الإجابة المحددة. ثم ذات صباح، برز له وجهه في المرآة مرهَقاً وعليه آثار الشحوب، وسمع من يسأله: ماذا بعدُ؟! الى أين من هنا؟! هل تحبها؟!
انتفض. لا. ليس ما يشعر به ازاءها هو الحب. أهي الرغبة؟! ليست الرغبة تماماً. هل هو الفراغ والنزوع إلى تعويض ما فات من أيام بؤسه في وحدته التي كان يسميها جنته المحظورة على الآخرين، والتي لا يريد لنفسه فيها شريكاً؟!
حين دخل المكتب قرأ في عينيها وهي تتأمله أنها فهمت ما يصطرع داخل صلعته من أفكار.
قالت وهي تقدم إليه رسالة مغلقة: سأتغيب لبعض الوقت. أمي مريضة في البرازيل ولا بد من أن أذهب إليها. أتمنى لك أياما طيبة في غيابي.
غمغم بكلمات مقطعة المعنى، وهمّ بفتح الرسالة بينما كانت تغلق خلفها الباب، ثم انتبه إلى فحوى ما قالته فقفز يلحق بها، لكنها كانت قد اختفت.
في الرسالة سطور معدودة تفجرت تحت عينيه مباشرة:
»عليَّ أن أعترف بهزيمتي.
»لقد انتصر عليَّ الانسان الآلي فيك.
»جئت بحثاً عن الدفء، لا عن الوظيفة، أما وأنك لا تحتاج إليّ فإنني لا أحتاج إلى عطفك أو إلى مالك.
»أرجو أن تنجح في إخراج نفسك من حطامك.
»وسأبتعد لأنني لا أحب نفسي خاسرة، ولا أحب أن أنظر في عينيْ أبله لم يتعرف بعد إلى نفسه، وليس له في شؤونه قرار.
»أعرف أنك قد تندم، ولكنك ستنسى، ولسوف تلقي اللوم على قدرك والآخرين. هنيئا لك عدميتك، أما أنا فذاهبة إلى حيث أجد الشمس.
»لو أنك تجلس إلى نفسك قليلاً. لو أنك تفتح عينيك. لو أنك تنتبه إلى أن الياسمينة التي في الحوض، عند المدخل، ترشك بعطرها عند الدخول والخروج.
»أعرف. ستحفظ هذه الرسالة، وستدبج مشروع رد لن يكتمل ولن ترسله أبداً… وقد تعتبرني مغامرة مبتورة.
»وداعاً أيها المهزوم، أمس واليوم وغدا«.
انتهى من القراءة الثانية. أعاد الرسالة الى الظرف، وحرص على إعادة لصقه. فتح الدرج أمامه، فدفع بالظرف فيه، ثم طلب فنجان قهوة وجلس يدخن ويفكر في لا شيء.
في اليوم التالي، ومع الصباح، جلس يكتب صيغة إعلان بطلب موظفة تحمل شهادة في المحاسبة وتتقن بعض اللغات وتجيد التعامل مع رجال الأعمال.

 

عقد الخدر..

تركنا البحر وارتقينا معارج القمر مشدودين بالضياء المفضَّض الذي يرسم لنا الطريق.
القمر فوق، يستند الى كتف الدير، والدير يسند الجبل، والجبل يسوِّر البحر، والبحر يستحم في كنف الغفلة.
دخل القمر الدير. دخل الجبل القمر. دخل البحر الجبل. ووقف »الأب« ينظم دخولنا الى »عقد« الخدر.
لم يقرع أحد جرس الصمت المعلق في الضباب، لكن الصبي الصغير العينين شهر ريشته وداعب بها أهداب الليل فانثنى طربا ورش علينا ماءه المقدس فثملنا.
تسأل الروح: »جددت حبك ليه«؟! فتجيب الروح نفسها: »ما دام تحب بتنكر ليه«؟!
فإذا لم تقتنع واصلت مساءلة »الأب« عن »الناس المغرمين«، والدير متناوم، ليترك للأجوبة فرصة ان تعلن عن نفسها بالهمس الحميم.
سرى النغم في أفياء الدير، فجاء »التلامذة« حفاة تلبية لنداء »السيد« الذي يملك الأجوبة ولا يستطيع ان يقول.
»السيد« و»الست« و»الأب« وبحر القمر، وجبل البحر، وريشة السحر… ما أكثر الصلبان، وما أكثر الذين يتمنون لو علِّقوا على تلك »الخشبة« ليعيشوا أعمارهم ليلة واحدة؟

 

حوار ما …

قالت التي لا تقول: أبلغوني أنك سألت عني..
قال الذي لا يسمع: لماذا يسأل السؤال؟!
قالت التي لا تقول: ولكني أحب أن أسمعك؟
قال الذي لا يسمع: لو سمعت لما قلت..
قالت التي لا تقول: يعجبني صوتك. أحسه ينبجس من داخلي.
قال الذي لا يسمع: لو كان لك داخل لما كنت خارجك..
قالت التي لا تقول: لا خارج إلا الخارج، يدخل الخارجون فيخرج الداخلون.
قال الذي لا يسمع: سئمت صالات العبور المؤقت في المطارات، أريد مرسى لزورقي المتعب.
قالت التي لا تقول: سئم السأم! تعب التعب. هل هو زمن الحب؟
قال الذي لا يسمع: الحب ليس الضد. الحب ليس النقيض. الحب ليس البديل. الحب ليس الآخر. من أحب دخل فاستكان. من لم يحب أنهكه البرد والفراغ وصوت البوم الذي تستولده الوحشة. من يرفض نفسه لن يقبلني. من يقبل عليَّ يجئْ بنفسه. من لا نفس له لا حبيب له، كيف تطلبينني قبل أن تطلبي ذاتك.
صمتت التي لا تقول فسمعت كل ما لم يقله، وفهمت.
سمع الذي لا يسمع فكف عن القول.
وفي الصمت ولد الذي لا يموت.
همّ بأن يقول، فأحس بأنها تريد أن تقول،
انتظر، وانتظرت، وسئما الانتظار فكانت الكلمة الأولى التي تختصر البدايات وتباعد زمن النهايات.
ليس للحب اسم آخر.
اسمك الحب، وفيه ينبض اسمي.

 

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
كلما أخذ منك الحب أكثر أحسست بأنه يعطيك أكثر. لا يعيش الحب في النقص ولا يقبله. الحب امتلاء. هل وجدت من يخجل به؟! هل سمعت من يتحدث عن حبه بلهجة دفاعية؟! ليس الحب هجوماً، بل ان من يحب يتسامى عن الهجوم.. ليصير همه ان ينقل عدواه الى الآخرين، فحصنه الحقيقي في أن يحب الناس بعضهم بعضاً أكثر.. في أن يعم الحب فيصيب كل الناس.. والأحبة لا يتقاتلون.

Exit mobile version