طلال سلمان

هوامش رحلة داخل القاهرة ومدينتها عماد الدين اديب

هوامش
********
طلال سلمان
رحلة داخل القاهرة ومدينتها عماد الدين أديب
****
في منتصف الستينيات، وعلى متن طائرة تقصد القاهرة، تلاقينا مصادفة بعدما فرّقنا الموقف السياسي طويلاً: صحافيان لكل منا رؤيته وثوابت يقينه.
دارت بنا الطائرة فوق القاهرة التي كانت آخذة بالتوسع والتوغل داخل الصحراء شرقاً، مدينة نصر، وتمدد مصر الجديدة في اتجاه طريق الإسماعيلية. قال زميلي »سليم« وهو يتأفف: ما هذا الجنون؟ يبنون في الصحراء؟!
لم أرَ نفسي معنياً بالرد، فأضاف بسخرية واضحة: الاشتراكية!! إنها اشتراكية الرمل واليباب!
قلت ببساطة: إنه الازدحام! وهذه مساكن شعبية تبنيها الدولة وتُباع للمواطنين بسعر الكلفة.
أكمل وكأنه لم يسمعني: يدفنون الناس في الرمل أحياء! هذا هو مجتمع الكفاية والعد!
انصرفت عنه أحاول استكشاف ما استجدّ في ملامح القاهرة في الفترة الفاصلة بين رحلتين، وأقرأ على الصفحة المخضوضرة للنيل المعتكر أشعار الفتيان السمر في الصبايا المزهرة العينين بالحب.
أفقت عليه وهو يصيح بي: ما لك لا تسمعني؟ هل سدّت ناصريتك أذنيك كما أعمت عينيك؟!
احترمت فارق السن وفارق العلاقة بالمسقبل، واكتفيت بأن قلت: عذراً، ولكن النيل يسحرني ويسحبني معه إلى الافتتان بالجمال!
قال بلهجة جافة: وماذا تعرف عن الجمال؟ بل عن النيل ذاته؟ عن مصر كلها، عن القاهرة هذه التي تبهرك؟! هل عرفت مصر الملكية؟! هل عشت في القاهرة أيام العز والأبهة والفخامة والغنى والدعة.. قاهرة الملك فاروق؟!
قلت معتذراً بعمري: كنت صغيراً بعد.
قال »سليم« بنبرة فخر: تلك كانت أجمل مدن الأرض! الفنادق الفخمة التي لا يدخلها الصعاليك! النوادي الملكية الباهرة.. الرياش الفخمة، الثريات من الكريستال الأصلي. عربات الخيل المزركشة لتدل على المكانة السيارات اللامعة وأمام كل منها سائق ب»الكوستوم« الرسمي. أما النوادي الليلية فهناك المتعة كلها، الراقصات المصريات والفنانات الأجنبيات من أرفع مستوى. مغنو الأوبرا. البارمان يوناني، وراقصات الباليه إيطاليات، والنبيذ فرنسي، والمغني إسباني، والأوركسترا نمساوية، أما الزبائن فجميعهم من النبلاء ذوي الأصول التركية والأمراء واللوردات الإنكليز.
أفلتت مني الكلمة بغير قصد: والمصريون؟!
رد مستغرباً: أي مصريين؟! هم للخدمة، في الخارج. أتريد الحق؟! إنهم لا ينفعون حتى خدماً… هل لاحظت الفرق بين نادل يوناني وبين نادل مصري؟! سبحان الله! جنة لا يستأهلها أهلها!
أمام مبنى المطار، وقبل أن تتحرك بنا سيارة الأجرة، تقدم شرطي طيب وسألنا بكل تهذيب: هل يسمح »البهوات« بأن أركب معه مسافة قصيرة حتى مدينة نصر؟
رفض »سليم« طبعاً، ثم جاملني فسمح له، فجلس في المقعد الأمامي واضعاً بعض حقائبنا على ركبتيه. وتحوّل »سليم« فجأة إلى »محقق« موجهاً إلى الشرطي عشرات الأسئلة عن راتبه، عدد أفراد عائلته، وأين يعيش، وكم يدفع إيجاراً أو قسطاً من ثمن شقته، محرضاً إياه على الثورة لأن راتبه لا يكفي، فلما أبلغه الشرطي أن الحكومة زادت المرتبات، جاءه السؤال: وماذا فعلت بالزيادة؟ انفجر الشرطي ضاحكاً وهو يقول: تزوجت ثانية!
قال »سليم«، رافضاً التسليم بالهزيمة: هذا من حقك!
وقال الشرطي من خلال ابتسامة عريضة كشفت تسوّس أسنانه: هو يبني لنا البيوت ونحن نزيد من توالدنا. لن يفوز في هذا السباق! أعانه الله!
* * *
استعدت هذه الحادثة القديمة وأنا في »السيارة الدبابة« مع عماد الدين أديب في طريقنا إلى استديوهات »أوربت« في مدينة 6 أكتوبر، في غرب القاهرة. لم يعد للقاهرة جهات. لقد تمدّدت طولاً وعرضاً وارتفاعاً حتى صارت باتساع مدار العين. صارت الضواحي البعيدة، كحلوان والمعادي والحرانية وجبل المقطم ومساكن شيراتون المطار ومدينة العاشر من رمضان و6 أكتوبر أشبه بأحياء داخلية لهذه المدينة ذات المليون نسمة نهاراً وذات الخمسة عشر مليوناً في الليل، »بحيث يتعذر أن يناموا جميعاً، إلا بالتناوب، ولذلك فالسهر واجب قومي« على حد ما يقول بعض هواة الليل وأطايب الليل في القاهرة.
انطلق عماد الذي تكتشف أن كتلة جسده الضخمة ناتجة عن غزارة المعلومات والمعارف والأرقام والحواديث والمقالب والمشاريع التي يختزنها، يتحدث عن مصر نهايات القرن: عن النهضة الصناعية التي تكمل ما بدأه جمال عبد الناصر فأنجز فيه الكثير الكثير، وهي الآن تشمل مختلف القطاعات، تجميعاً أو إنتاجاً، من التقنية العالية إلى السيارات، من الألكترونيات إلى الصناعات الكيماوية، بما فيها الأدوية. من تصنيع السياحة إلى تصنيع الفن (المدينة السينمائية الجديدة التي تقوم على مساحة آلاف الكيلومترات).. وعن تعاون القطاع الخاص والتزامه بموجبات النهوض بالبلد: هذه الطريق، مثلاً، جديدة عليك قطعاً. لقد اخترقت أحياء شعبية، وكان طبيعياً أن تهدم منازل، بعضها شرعي وبعضها الآخر مغطى بالنفوذ. لقد بلغت كلفتها أكثر من 150 مليون جنيه دفعها القطاع الخاص لربط 6 أكتوبر بوسط القاهرة بحيث تقطع المسافة، بعيداً عن الزمن، في نصف ساعة فقط. للمناسبة، قام اللبنانيون ويقومون بدور لا بأس به في مجال الصناعة!
دار الحديث دورة، فإذا عماد الدين أديب يتحدث عن ندوة دافوس، وعن نقاشه مع هنري كيسنجر الذي أطلق نظرية انتهاء دور وزارات الخارجية بالمطلق، لأن »القرية الكونية الواحدة لم تعد فيها سياسات خارجية متباينة بل كل أمورها داخلية بحتة، فلماذا مناصب الوزراء والسفراء والطائرات الخاصة والشيفرة الخ؟!
سألني عماد من داخل سرده المتصل: هل شاهدت شجاري مع شامنسكي؟! لقد أفحمته!! قلت له إنني أريد أن أشتري عقارات في القدس لأستثمر مبلغاً قيمته خمسمائة مليون دولار وأنتم تمنعونني. ولمّا حاول الرد سألته أمام العالم: أنتم لا تسمحون لي بتملّك شقة لعملي في القدس العربية، ثم تتحدثون عن الحريات والاقتصاد الحر؟! أنتم تغطون عنصريتكم بادعاءات كاذبة وتنافقون العالم لتحصلوا على مساعدات! وفي الاستراحة أخذ يبحث عني ليعطيني أرقام هواتفه مع التوصية بإلحاح: اتصل بي فور وصولك وسأوفر لك فرصة أن تشتري شقة في القدس.. ثم ماذا عن الخمسمائة مليون دولار!! اليهودي يهودي، يا حبيبي! فلوس!
من قلب حكايته الرابعة سألني عماد الدين أديب: هل قرأت الحوار الذي أجريته مع الملك عبد الله بن الحسين في مجلة »آدم«؟!
قبل أن أرتّب إجابتي كان يرشقني بسؤال جديد: هل قرأت ما كتبته عن ندوة دافوس في »العالم اليوم«؟! لقد نشرنا سلسلة ممتازة عما جرى في أكبر تجمع لرؤوس الأموال والعقول والمشروعات في العالم.
ثم باغتني بسؤال جديد: هل استمعت إلى حواري الأخير مع المرحوم لطفي الخولي؟ لقد كان ممتعاً!. وأنت سمعت الأستاذ هيكل يبدي إعجابه فيه، وسمعت أيضاً ما قاله صديقنا الآخر من أن هذه المقابلة قد »صالحته مع لطفي« بعدما كان قد شطب عليه واعتبره هوى في منحدر التطبيع نحو الصلح مع العدو الإسرائيلي بشروطه.
قبل أن أنتبه كان عماد الدين أديب ينطلق ليستذكر مقابلته مع الأمين العام ل»حزب الله« السيد حسن نصر الله وعمق إعجابه بشخصيته وكفاءة المجاهدين، ثم ينعطف إلى مقارنة تفصيلية بين شخصيتي كل من الرئيسين رفيق الحريري وسليم الحص، وتفسيره لمغازي »الانقلاب« الذي تمّ في لبنان.
سحبني عماد الدين أديب إلى الاستديو وهو يواصل سرده لتفاصيل المدينة السينمائية، وللمشروعات الجديدة التي تبدّل وجه مصر ودورها، حجم إنتاجها، مستوى الدخل الفردي، الزيادة السنوية في عدد السكان، الزيادة المتحققة في النمو… وقبل أن نبدأ التسجيل سمعته يقول: لا تخف على مصر. لعلها الآن منطوية، نسبياً، على ذاتها، ولكنها لن تبدل هويتها ولن تتهجّن. كانت متعبة ومثخنة بالجراح وقد أتعبتها المواجهات. لا بأس من شيء من الاهتمام بالذات، لإكمال البناء الداخلي. لكن مصر هي مصر، ودورها هو دورها ينتظرها وتستعد له، والباقي تفاصيل.
عماد الدين أديب: لو سحبت منه معلوماته وابتكاراته وأفكاره المتجددة باستمرار وحيوية ذهنه وحركته الناشطة التي تجعله كل يوم في بلد، لاكتشفت أنه »أنحف« منك!
اللهم امنحنا مثل »مخزون« عماد الدين أديب من المعرفة والظرف والحضور البهيج في جديته!

فارس خشان يذرو الملح في عيون الطوائف
********
كما يفاجئك الطفل بأسئلته الساذجة فيكشف جهلك، كذلك فاجأنا زميلنا في »السفير« فارس خشان بأنه كان يرى بعقله أكثر مما يرى بعينيه ويكتب بقلمه عن القضاء والمحاكمات السياسية التي بلغت ذروتها في العهد الأول للبنان ما بعد الحرب الأهلية.
ولأنه رأى بعقله أكثر مما بعينيه فقد ترك فارس خشان هواجسه تخرج إلى النور، وحاكمها بعقل القاضي: استبعد من الشهود الانفعالي وصاحب الغرض والمريض بالوتر، فاكتشف أن الطائفية عمود من الملح، وأن الهيكل اللبناني قائم على مجموعة من أعمدة الملح هذه، وأن التحول إلى دولة يشترط إذابتها جميعاً وإلا انهار الهيكل على رؤوس الطوائفيين المحتشدين، بل المقتتلين فيه.
لا تخرج من طائفيتك إلى طائفية أخرى.
إن لم تجد وطناً تخليت عن لعبتك العبثية هذه،
وعموماً فلقد تعودنا أن يحاسب واحدنا طوائف الآخرين، وطائفية الآخرين، زعامات الطوائف الأخرى، فإن اتجه إلى الطائفيين بالعداء ركّز على طائفيي الطوائف الأخرى، وغضّ النظر عن طائفيي طائفته.
فارس خشان بدأ من النقطة الصح، وقال ببساطة: على كل منا أن يؤدي دوره في تذويب عمود الملح… حتى لا يفسد الطعام!

تهويمات
*****
} كان السرير عريضاً جداً، فنبت فيه الشوك.
رُفع السرير فأنبتت الأرض وروداً وفراشات وأقماراً بألوان الطيف!
} لا يتسع الزمان لرجلين وامرأة واحدة،
لا يتسع المكان لامرأتين ورجل،
يتسع الركل لكل النساء، ويضيق بنصف امرأة!
تتسع المرأة لرجال كثيرين إذا كانوا كلهم »مثله«.
} بدا المصعد فسيحاً كصحراء،
وبدوت شجرة صبار، يقعي على قمتها غراب،
أنا الضليل الغريب ولستُ بملك، ولستِ مليكتي!
} سيدتي، لقد نسيت شيئاً منك في يدي.
هلا تفقدت جسدكِ قبل أن أنصرف؟!
قال لها بحدة: سيدتي… أعتذر لضعف نظري، لقد حسبتك امرأة!
وردت بحدة أشد: لا بأس! يكتشف الرجال غباءهم، في العادة، متأخرين!
} لا تنفع المرأة ستاراً لامرأة!
إياك أن تجلس بين شهوتين.
تصير الشهوات الثلاث كالقطب المتجمد النسائي.
} لماذا تختبئين وراء الأخرى؟!
ليس للمرأة وراء. ليس للمرأة أمام. حدودها الأربعة رجل واحد!
} تذهبين إلى النوم مع خيال رجل، أي رجل،
وفي الصباح تهربين من »رجلك«
تطاردين ظله حتى يقع الأصل، فتستمتعي بالظلين!
لأنك تخافين فلست إلا شبحاً..
أسمعك في ليل وحدتك تبكين جسدك المتوحد. لا يصير الجسد اثنين.
لا ينام الجسد مع ذاته!
} قال الملاك للشيطان: لماذا لا تذهب إلى النوم؟!
قال الشيطان للملاك: لكي أحرمك النوم!
} ليس أبشع من نصف امرأة إلا شبه امرأة،
تلك نطلبها في الأعلى فتطلبك في الأسفل..
وتلك تذهب إلى تقبيلها فتجدها بلا شفاه، وحين تحاول أن تمنحها حبك لا تجد فيها مكاناً يتسع له.

من أقوال »نسمة«
*****
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أعجب ممّن يقول إنه لا يعطي حبيبه إلا مثل ما يعطيه. الحب ليس مقايضة. أنت فيه لا تعطي، بل كلاكما يأخذ، ما يجيء منه إليك، وما يذهب منك إليه، ولا حدود، فكيف يضيع العطاء؟! ثم ما هذا الحساب التجاري. كلي لحبيبي. لا، بل كلي في حبيبي، وهو فيّ. أعطي ذاتي لذاتي ثم أمنّن ذاتي. أصحاب الحساب لا يحبون، إنهم يجمعون »البواقي« ليظهروا الربح! الجنة خارج جدول الضرب.

Exit mobile version