طلال سلمان

هوامش دعوة الى مغادرة اجداث الماضي

ددعوة إلى مغادرة أجداث الماضي!
من يرفضْ مغادرة الماضي متقدما مع أيامه إلى المستقبل، فسينتهي خارج التاريخ، بل وقد يساهم في إنهاء تاريخه، إذ سيظل يستنزف ذلك الماضي حتى الموت ثم يسقط صريعا تحت أثقاله التي لن يستطيع بأي حال سحبها على يومه أو على غده.
ويتوزع العرب الآن ثلاثة:
بعضهم يعيش ويموت في ماضيه، لا هو يملك الشجاعة أو القدرة على التقدم، لأنه يمشي وعنقه ملوياً إلى الخلف، فينتهي بجسمه في الحاضر (يأكل الهمبرغر ويرقص على موسيقى الجاز ويرتدي التي شورت الملون والبلوجينز)، في حين يعدو عقله إلى الوراء يجمّده ويتجمد فيه.
وبعضهم يرى في ماضيه عبئاً عليه، فيتخفّف منه عند أول فرصة سانحة، وربما اختلق هو الفرصة أو الذريعة، ليسرِّع حركته في اتجاه ما يفترض أنه المستقبل، فينتهي هجيناً بلا هوية ولا تاريخ ولا دور، يعمل لغيره وباسم غيره، لا يعرف مَن هو ولا إلى أين تحمله الريح، ويستسلم لمقتضيات »العولمة« باعتبارها القدر الجديد لإنسان القرن الحادي والعشرين… أي انه يسبق زمانه بعد التخفف من زمانه!
أما البعض الثالث فيفتح عينه وعقله وقلبه على عصره، من داخل تاريخه وجغرافيته، ويحاول أن يعيد صياغة الموروث أو هو يأخذ منه ما ينفعه في حياته جميعا، ويتقدم محاذرا السقوط في عبادة الماضي أو التنكر له وإنكاره، ومحاذراً في الوقت نفسه أن يذوب فيمحي تماما لينسجم مع »القيم الجديدة«.
بعضهم يريد تجميد حركة التاريخ حتى يدخلها فلا يظل خارجها،
وبعضهم يرمي نفسه، هويته واسمه ولون بشرته وقلادة أمه وصورة أبيه، بوهم انه بذلك يسرِّع خطوه نحو غده المختلف عن كل مَن وما كان.
وبعضهم يحاول استيعاب حركة العصر بغير انبهار وبغير استهانة، مقررا أن له من كفاءته ما يسمح له بمكان وبدور مشروع فيها، فهو ليس أقل من السابقين الى التقدم وإن كان لا يتبجح فيدعي أنهم لم يفعلوا غير سلبه ما كان له والتقدم به!
هذا على المستوى الفردي، كما على المستوى الجماعي،
من ذلك مثلاً أننا ما زلنا نحفظ الكثير من المؤسسات أو اللافتات لمؤسسات لم تعد قائمة، وقد أسقطتها حركة التاريخ وتجاوزتها منذ أمد بعيد.
نتدحرج بين لافتة وأخرى موروثة من الزمن القديم، نحفظها بعاطفتنا وبخوفنا من الضياع في زحمة المتقدمين المندفعين إلى الغد، مع وعينا بأنها لم تعد صالحة كأداة للعمل، ولم تعد مؤهلة لتضخ فينا الأمل، ولا هي تنفعنا بعدُ في التعرف إلى عالمنا.
لقد انتهى عالم »الثورة الاشتراكية الكبرى« و»المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي العظيم«.
وبغض النظر عن المسؤولية والأسباب، وهل تكمن في العقيدة أو في التطبيق، فإن عالما جديدا قد قام على أنقاض ذلك »العالم القديم«.
لكننا ما زلنا نحفظ ونحافظ (ونحن خارج ذلك المعسكر) على كل الأطر والتنظيمات والتسميات التي كانت ناشئة عنه أو متحدرة من صلبه أو متصلة بأيديولوجياته أو بسياساته أو حتى بتكتيكاته.
لنأخذ مثلاً: حركة عدم الانحياز.
كان مفهوماً القول ان هذه الدولة أو تلك غير منحازة لأحد المعسكرين، أما اليوم وليس ثمة إلا »معسكر« واحد، فلا بد من تعبير مختلف عن إرادة الاستقلال والتمسك بحق تقرير المصير والمجاهدة لمنع هيمنة »القطب الأوحد«.
لنأخذ مثلاً: حركة أنصار السلم،
لنأخذ مثلاً كل لافتات الأحزاب القديمة التي تفتقد الآن الدور واللغة وجدوى التمسك بما تهاوى وآل إلى السقوط.
وليست الأحزاب الشيوعية وحدها هي المقصودة، بل كل تلك التنظيمات وأطر العمل التي كانت تستمد »مشروعية« وجودها وطبيعة مهامها من وجود معسكر دولي مهيب يرفع رايات الاشتراكية وينسب إليه التقدمية ويرمي خصمه بعداء الإنسانية.
ولعله ليس افتراء ان تُصنَّف الرأسمالية عدواً للإنسان،
لكن المؤكد أن هذا الإنسان بحاجة الى صيغ جديدة، في الفكر والعمل، لمواجهة توحش الرأسمالية وجموحها نحو الاحتكار والاستغلال وتحقيق الربح بأي ثمن، وعلى حساب كرامة الإنسان وحقه في الحياة.
لا أحد يقبع بين أجداث موتاه ثم يزعم أنه يغذ السير لدخول العصر.
لا تطلب من صيغ الماضي (حتى لو كانت ناجحة في زمنها) ان توفر لك حلولاً لمعضلات العصر.
لا تطلب من الشنفري أن يعلمك كيفية التعامل مع الأنترنت، لكن الأنترنت بالمقابل لا يلزمك بأن تقتل المتنبي أو تنبذه وتنكر صلة قرباك معه.
ليس شرطا للتقدم أن تمشي فوق سجادة الصلاة التي مدتها أمك، أو أن تمنعها من التوجه إلى ربها بالدعاء.
لم يقتل البريطاني شكسبير من أجل أن يتقدم في اتجاه العصر، ولم يهدم الإيطالي الفاتيكان، ولم يكسر الفرنسي صلبانه كشرط للانتماء إلى هذا العصر »المادي«.
لكل عصر صيغه وصياغاته لمطامح الناس.
وإذا كانت صيغة عدم الانحياز، مثلاً، إبداعاً في الستينيات، فهي ليست الآن أكثر من إطار أو شكل بلا مضمون، لأن وقائع الحياة الدولية المعاصرة قد تجاوزتها.
وليس شرطا أن نفر أو نقفز من القطار المتوقف لتلك الحركة التي كانت إنجازا سياسيا عظيما في حينها، لنقف متسولين على باب الهيمنة الأميركية.
وليس شرطا أيضا أن نطلق رصاص بنادقنا على فكرة الوحدة العربية لأننا عجزنا عن تحقيقها، ثم نندفع في اتجاه أفريقيا وكأننا قد اكتشفناها، أو كأننا كنا غرباء عنها ثم هدانا إليها اليأس من العرب (وهم يتصدّرون قمتها المتوسطية)..
وإذا كانت فكرة العروبة بحاجة إلى إغناء مضمونها، فكرا ومنهجا، فليس البديل »العصري« منها أن نلتحق بالحركة الصهيونية لأنها قد نجحت أو حققت فوزا سياسيا عليها في لحظة تاريخية موصوفة.
إننا ميالون الى الراحة والدعة، بدلا من إعمال الفكر وتثقيف الذات والتعب في الاجتهاد والمقارنة والبحث والدراسة. نهرب إلى شراء »الجاهز« من الأنماط والتطبيقات السائدة… وكفى الله المؤمنين شر القتال!
فمن أحب التعب فليفكر معنا.
والتعب من أجل أن تكتشف نفسك والعالم متعة ليس كمثلها متعة!

فلسطين »مقمرة« للغزاة!
ليست نادرة في التاريخ الحالات التي انقلبت فيها الثورة إلى »ثورة مضادة«.
فالثورة فعل إنساني، والإنسان خطَّاء، قد ينحرف به الطريق، وقد يتوه عبر هدفه.. قد يضعف، وقد تشده المغريات بعيدا عن مقصده، وقد يخطئ في التقدير فيفترض أن إنجاز نصف المهمة يكفي مرحليا، أو قد يزين له التعب أن يرتاح تاركا للأجيال الجديدة شرف الإكمال.
أما أن تنتهي الثورة في »مقمرة«، فهذا أبعد من أي خيال، بما في ذلك خيال أعدائها والمتضررين منها والعاملين لوأدها منذ ساعة ولادتها.
هي رحلة طويلة بين »تحرير كامل الأرض من النهر إلى البحر« وبين استعادة أريحا لتكون »مقمرة للغزاة«.
حدث في التاريخ أن هُزمت شعوب أمام قوة عادية أو غازية، فخسرت بعض أرضها، أو أخضع الغازي الإرادة والأرض، فسخّر أبناء المناطق المحتلة لخدمته أو أجبرهم على ما تأباه الكرامة الوطنية،
أما أن يتبرع المحتلة أرضه للترفيه عن المحتل، والى توفير ما يأنف »هو« الانزلاق إليه لأنه يراه مخالفا لدينه أو لأعرافه أو لقيمه الاجتماعية، فهذا أمر جديد واستثنائي بحيث يستحق التوقف أمامه لدراسته!
في الذكرى السادسة عشرة لمجازر صبرا وشاتيلا، التي أعقبت خروج أو إخراج المقاومة (أو الثورة) الفلسطينية من لبنان، كانت »السلطة« المتحدرة رسميا من صلب تلك »الثورة« تحتفل بافتتاح مقمرتها الوطنية فوق أرضها »المحررة« داخل فلسطين: في أريحا.
قد ترتد قيادة الثورة، وقد تنحرف أو تفرّط أو تخون شعاراتها الملخصة لأهداف شعبها.. ولكن أن ينتهي الثوار »مرتزقة« في خدمة المحتل، يحرسون احتلاله من أبنائهم أو أحفادهم الذين غدوا الآن »إرهابيين«، فهذا اغتيال لفكرة الثورة، أي اغتيال لأبهى الأحلام الإنسانية وأمجدها.
… فكيف إذا حوّلت القيادة ثوارها إلى »قوادين«؟!
في لحظة يأس وانطفاء لحب الحياة والناس، كتب سعيد تقي الدين جملة سوداء: الثورة هي مؤنث ثور!
ولا بد من أن مثل هذا اليأس أو أفظع من ذلك الانطفاء، هو الذي حرف أولئك الفتية الأغرار الذين كانوا نذروا أنفسهم لفلسطين، عن مسارهم في اتجاه يافا وعكا وحيفا وأم الفحم والشجرة، بيسان ومرج ابن عامر والأغوار، جبل النار ومثوى خليل الله إبراهيم، وأولى القبلتين وثالث الحرمين في القدس الشريف، وأخذهم لحراسة وكر دعارة وميسر ومجون يقومون فيه بالترفيه عن محتليهم المتطهرين الذين يرفضون إقامة مثل هذه المقمرة فوق أرضهم التي هي »وعد الله«!
يعرف التاريخ حالات من التشهير بفكرة الثورة وبتراث الثوار،
ويعرف التاريخ من أكل آلهته، ومن وأد أطفاله، ومن أكل لحم أخيه حياً،
لكن التاريخ لم يعرف نهاية للثورة أشد إيلاماً من هذه النهاية المفجعة لحركة النضال الوطني الفلسطيني الممتدة طيلة نصف قرن أو يزيد!
من »ثورة، ثورة حتى النصر« إلى »فيشة فيشة حتى الصولد«!
من الثورة الحمراء إلى ليالي المحتل الحمراء بحراسة بنادق الثوار!
الشهداء ما زالوا يتساقطون على أرض فلسطين.
فلسطين ما تزال تقاوم وتجوع ولا تأكل ثدييها.
فلسطين خارج »المقمرة« وخارج دائرة اللعب.
فلسطين أكبر من أن تُحصر وتُغتال في وكر »الدعارة الثورية« الذي أقامته »السلطة« التي تفرّط كل يوم بالمزيد من الأرض، ومن الذاكرة الوطنية، ومن التراث النضالي، ومن أجداث الشهداء.

تهويمات
} أزورك في الغياب، ويأخذني حضورك إلى الصمت.
متى يصل إلى عنوانه التائه في غياهب الكلام؟
} قالت: لم يلفتك مظهري الجديد؟! لقد بدّلت فيه لأوقف مسيرة الزمن. سأبقى شابة!
هز رأسه فاهتز يقينها، ثم استدركت لترضيه ويصدق قولها: من أجلك!
هز رأسه مرة أخرى، فأحنت رأسها وهي تضيف: أنت شبابي فلا تذهب بي!
} ثرثرت طويلاً فلم تترك له فرصة للسمع، وسألته بغتة: هل أنت معي؟!
قال: لا تحتاجين معك أحداً، ولا أجد لنفسي مكاناً خارجك، لذا بقيت، ولكننا لسنا واحداً ولسنا اثنين ولسنا مجموعاً. إننا مثل جملك المفككة تقول الكثير حتى لا تقول شيئاً!
} قالت: تدخلني خلسة، ثم تخرج جهاراً، فمتى نلتقي؟! أجدك خلف ظني، وتجعلني أمام قدرتك، فمتى نلتقي؟! متى تعطي يدي ضمة من الشوك واللهب؟! متى ينتهي زمن البطالة، فتنهمك العين والشفة والذراع في تمزيق ثياب من يغيب قبل أن يجيء ومن لا ألتقيه إلا في الغياب؟!
} تدعوك الاستحالة فتجيب، فإذا طرقتُ بابك رد عليّ المستحيل؟!
جميل أن نجعل الحياة قصيدة. لكن القصيدة لا تتسع لنبضنا، فإذا ما سكناها صرنا متعة للآخرين وضاعت منا متعة الحياة.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الله شريك ثالث في أي حب!
ولما رآني أرفع حاجبي دهشة، أضاف قوله:
أليس الله هو الحب المطلق؟! انه في القلب من كل حب.
ألسنا نتوجه إليه بطلب الرزق وما يسعدنا ويبهجنا ويجعلنا نستمتع بنعمة الحياة؟!
أفننساه حين نبلغ الذروة؟!
لولا خشيتي من أن أُتهم في إيماني لقلت إنني أرى الله في وجه حبيبي!

Exit mobile version