تاريخ خارج الذاكرة، ذاكرة خارج التاريخ!
اقتحم علينا الفتى الصالة هائجاً. لم ينتبه إلى أننا ضيوف، ولم يراعِ حرج والديه. قال بصوته المختنق بالدمع والغضب: من فضلك، بابا، خلِّصني من هذا الإسم!
هبّت الوالدة تحتضن بكرها، وحاول أبوه تهدئته، بأن أخذ يكرّر: حاضر، حاضر، راح أبدّله، حاضر… سلِّم الآن على أحبابنا اللبنانيين يا عبد الناصر.. حاضر، والله العظيم راح أريحك وأريح مدرِّسيك الكرام.. حاضر!
كانت ثلاث سنوات قد مرَّت على رحيل جمال عبد الناصر، وكان السادات قد »محا الطريق الذي جاء عليها«، كما كانت النكتة المصرية تقول محورة خطابه الأول بعد تنصيبه، مما حوّل ذكرى ذلك القائد التاريخي العظيم إلى »سبة« بل إلى تهمة يحاسب عليها »الخلف الصالح« وبطانته من »الانفتاحيين« و»القطط السمان«… أما الطريق فسرعان ما انعطفت بحدة لتنتهي في تل أبيب!
استذكرت هذه الواقعة الجارحة في وصف الحال وأنا أستمع إلى عبد الرحمن منيف وهو يتحدث في حفل تكريمه بدار الندوة في بيروت، عن اضمحلال الذاكرة الجماعية للعرب، وعن عدم احترام أولي الأمر منهم للتاريخ ومسخه بحيث يكاد العربي ينكر نفسه.
كان منح الصلح قد سبق الروائي العربي الكبير فاستذكر بعض الصفحات المضيئة من مرحلة النهوض القومي، وذكّرنا بأسماء فرسان ورجال مواقف أُسقطوا من الذاكرة القومية أو طُمست أدوارهم النضالية أو تعرّضوا لاضطهاد شنيع فارتحلوا إلى هوة النسيان وقضوا فيها.
قلت في سري: الحمد لله ان ما زالت لنا بعض كتب التاريخ القديم، يجتمع حولها العرب وان اختلفوا من بعد على الدلالات المعاصرة للوقائع التي تروى عن زمان مضى، مع الإشارة إلى أن نفراً من »المحدثين« يعمل على تمزيق أو تشويه أو تعهير كل الذين شكّلوا منارات هداية في الفكر والممارسة، في الدين والثقافة، وإجمالاً في إعادة صياغة الحياة فوق هذه الأرض الموات.
فالعرب المختلفون في حاضرهم، والذين لا يملكون رؤية موحدة أو مشتركة للمستقبل، ما زالت لهم ذاكرة جماعية ولو مجمّدة في الماضي.
إن الحكّام يكتبون بأعقاب بنادقهم تاريخ الحاضر الذي لا ينتهي، إلا بنهاياتهم، فإذا خلفهم آخرون اجتهدوا في محو المكتوب واعتبروا نفسهم بداية البدايات، ما سبقهم بالغ السوء والرداءة إلا من حيث أنه قد برَّر قدومهم الميمون… فهم النور الذي يجيء بعد ليل، والغيث الذي ينزل بعد جفاف وجدب، والنهضة التي ستلغي التخلّف، العدل الذي سيمحو الظلم والظالمين، الإيمان الذي يسقط الكفر إلخ… وويل لمن لا يصدق ادعاءاتهم هذه.
المهم أن كل حاكم لا يلغي شخص مَن سبقه فحسب، وإنما يلغي الحقبة برمتها، يضع لوحات باسمه على الجيد منها، ويهدم ما تبقّى ليهدم ذكر مَن سبقه.
في الجزائر، مثلاً، وإذا صدق الشاب ما يدرس له فإنه سينتهي إلى حقائق مفجعة:
ستتهاوى الثورة، كإنجاز تاريخي، لأن أبطالها جميعاً قد أُسقطوا بتهم مريعة أو برصاص الاغتيال. أحمد بن بله يقدَّم كدكتاتور، ومحمد خيضر كلص سارق لأموال الشهداء، وكريم بلقاسم كمقامر، وبوضياف يعدمه »جيش الثورة الشعبية الديموقراطية« اغتيالاً وقد جاء به منقذاً، أما الشعب فيجري إعدامه يومياً ومعه دينه ووطنيته وعروبته التي لم يستطع إلغاءها الاستعمار الاستيطاني الذي استطال لأكثر من مائة وثلاثين سنة.
لا الثورة بقيت مصدراً للأمل ولا الثوار استطاعوا أن يقيموا دولة الحق والعدالة والمساواة
اليوم بعد 35 سنة لم يتبق ما هو مضيء من ذلك الانجاز التاريخي الباهر.
في لبنان، مثلاً، أُسقطت من الذاكرة الأسماء والألقاب التي كان لهابعض الحصانة أو السمعة الطيبة، وما لم تذهب به السياسات ذهبت به الطائفيات،
البطل هنا خائن هناك، والاتفاق يكون على إلغاء الاثنين
الحزب العامل لتحرير الأرض المحتلة هنا حزب عميل هناك والعكس بالعكس.
حزب العدالة هناك حزب الظلم هناك وبالعكس.
لا ذاكرة جماعية لأن التاريخ الموحّد هو المحرّم وليس فقط الممنوع.
في فلسطين، مثلاً، صار الفدائي البطل شرطياً متهماً في وطنيته وأداة قمع للداخل لحساب العدو الإسرائيلي.
في اليمن التي كانت يمَنَيْن أُسقطت صفحات كاملة من تاريخ نضالها لأسباب قدَّرها وقرَّرها الحاكم الآن، ومَن سبقه كان قد قرَّر، ومَن يأتي بعد سيقرِّر بدوره حتى لا يبقى منه سطر صحيح.
في العراق يحظر ذكر عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وحتى أحمد حسن البكر، ناهيك بنوري السعيد وسائر رجالات العهد الملكي. لم يكن قبل صدام أحد. لم يكن قبل صدام عراق:
كل حاكم ألغى تاريخ بلاده وفرض تاريخه الشخصي وعائلته، وهذا سيسقط بسقوطه، وتتعرّى الذاكرة من الوقائع جميعاً وتصير صحراء أخرى.
لا أحد من العرب يعرف تاريخ بلاده كاملاً.
في تاريخ كل قطر فصول كاملة أُسقطت عمداً أو شُوِّهت أو اجتُزئت فمُسخت وباتت تدل على نقيض ما كانت تهدف إليه.
العرب بلا ذاك جماعية لأنهم بلا تاريخ.
نخاف من خيباتنا. من هزائمنا نتنصّل منها بتمزيق صفحات من تاريخنا.
متى حكمت الهزيمة من أين يجيء النصر؟!
هرب التاريخ إلى الخارج.
وها نحن نعيد استيراد تاريخنا من فرنسا، من بريطانيا، من ألمانيا، من الولايات المتحدة الأميركية. الوثائق لنا وعنا. لكن الشرح والتنسيق والتوظيف لهم… فكيف يكون تاريخنا إلا ما رغبوا لنا فيه؟!
الذاكرة الفردية متعبة بالمشوّه أو المجتزأ،
والذاكرة الجماعية تكاد تكون مفرغة بالأمر أو بتعذر الوصول إلى الحقيقة.
.. أو أن ما فيها عبء ثقيل من الهزائم والانكسارات والخيبات التي تجعلك تحتقر نفسك أو أنها تلغيك وتقدمك وكأنك لا تحسن صنع شيء: لم ينجح الذين قبلك ولن تنجح أنت في إنجاز أي عمل، فلماذا التعب، ولماذا لا تهاجر إلى تاريخ الآخرين أو لماذا لا تعيش خارج التاريخ.
أما إذا رفضت الهجرة فلسوف تعيش محاصراً بمجموعة من الأحلام التي صارت مستحيلات، ومن الوقائع التي ترفضها لأنها تلغيك:
الوحدة مستحيل، فلسطين مستحيل، الاشتراكية مستحيل، الديموقراطية مستحيل، العدالة مستحيل، الانتصار على إسرائيل مستحيل، بل ان حفظ كيانك الوطني في مستوى المستحيل.
إذا ذهب الحاكم ذهب الوطن وذهب معه تاريخك الشخصي.
ليس للأرض قيمة. ليس لأهلها قيمة. ليس لهم دور لا فيها ولا خارجها فمن أين يكون لك تاريخ… خارج ذاكرتك!
صباح الحب يا جيرة الخير!
صباح الخير يا جار. صباح الخير أيتها الجارة. صباح للصباح، صباح للمساء، صباح لليل. صباح للعمر كله.
للحب بيوت كثيرة. جاورك الحب. يطل عليك من نافذة القلب، من فتحة العين، من تلويحة اليد والابتسامة الممتدة أرجوحة للشوق.
الكل من حولك غارق في تفاصيله المحبَّبة، وأنت تحاول عبثاً الهرب من تفاصيلك السمجة.
البيت بيوت. الحب بيوت. ازدحمت في سمائك الشموس. للسعادة وجوه بعددهم.
جميل أن تتابع مَن يصنع بيديه تفاصيل حياته.
يصنع أيضاً تفاصيل غده.
أين الحدود بينه وبين غدك. لقد تبادلتما الأدوار، الآن: كنت غده فصار غدك، ولست بالضبط امسه.
أين حدود المشترك، أين تخوم الافتراق؟!
من الداخل إلى الداخل.
اتسع الداخل فصار قاطنوه جيراناً خارجنا،
لماذا القلق؟! تحس دبيب الوحدة وهي تزحف نحوك؟! الواحد كثير إذا كانت الكثرة واحداً.
البُعد ليس مسافة. القرب ليس التصاقاً يلغي أوله آخره.
التفاصيل، التفاصيل. ليس الشيطان مَن يكمن أو يختبئ دائماً في التفاصيل.
تتشكّل السعادة أيضاً من تفاصيل بسيطة يستولدها عشق الحياة وإرادة أن تحيا، أن تكون أنت، وأن تعطي ما يجعلك موضوعاً، ما يمنح إنسانيتك معناها.
تطل من ذاتك على ذاتك: صباح الخير يا جار، صباح الخير يا جارة، صباح الخير أيها الحب. صباح الخير أيتها الحياة، بأمسها ويومها وغدها الذي له وجه الحبيب،
يتعانق الظلان خارجنا..
تتشهّى القرب كأمنية، وتسافر مع الحلم إليه، فإذا ما دنوت منه أو تبدّى بمدى العين ثم اليد، نكصت على عقبيك كالهارب من كابوس،
وتعيش معلقاً بين حلم تخاف منه وبين ملجأ لا يلجئك في قلب الكابوس.
يأتيك الصوت قطر ندى… تنتعش، تنتشي، وتتوغل في قلب التمني حتى حدود البكاء: لماذا تتنزّلين من التمني وتأتين لبعثرة هذا الرماد الذي أتلطى فيه ولا أملك أن أغادره؟!
لا الواقع يتسع لك، ولا حلمك يتسع لي، وقصور الهواء تضيق بسكانها فلا يتبقى منها ما يكفي للتنفس..
أمشي مع تخيّل الواقع حتى لحظة الحقيقة فأتجمَّد مذهولاً،
عودي إلى البعيد لأحبك.
الحب خلف البُعد… فإذا اقتربت المرأة ألغت المساحة ولم يجد الحب لنفسه ملجأ. المرأة فيك أقوى من الحب.. تضغطين عليه بلفتاتك، بالنبرة الخشنة للصوت الوحشي، بتلك الاقتحامية التي تلغي احتمال الهرب، وتستفز الرجل فتستحضره من قلب غابته عارياً كالسيف.
يغتال النور الأحلام،
وكلمة »نعم« مخيفة مثل كلمة »تعال«.
لا أنتِ تقولين الثانية ولا أنا أقول الأولى، ولا الصمت يقوى على ستر العيوب.
أهرب منكِ إلى ظلّك، وتغادرين ظلي إليَّ، ويتعانق الظلان خارجنا، ونظل تحت ثلج البُعد، يهمي علينا الدفء من قلب التذكّر حتى يغمرنا طوفان النسيان.
لكم استطالت المسافة بين لهاث شوق البدايات وثلج المجاملات عند الحد الأخير للكلمات المخنوقة بآداب الفراق!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ليس الحب نزهة. ليس إجازة من الحياة، يأخذك بالوهم إلى خارجها. إنه يقوّيك بحيث تعيد صياغة حياتك. يمنحك الجرأة على الاقتحام. على تأكيد نفسك. لست بعد الحب ما كنت قبله. لا تأخذ عيوبك معك إلى الحب. إنه يكشفها لك. ليس الحب بطالة، وليس تسكعاً على باب الحياة. إنه شهادة جدارة بالحياة وبالقدرة على إعادة صياغتها لتستحقها وتستحقك.
طر بجناحي الحب إلى أعلى، إن لم تطر وقعت وذهب الحب إلى مَن لا يخاف من التحليق.