طلال سلمان

هوامش بلدي في مرمى الاستثمارات الكونية!

»بلدي« في »مرمى« الاستثمارات الكونية!
السياسة لعبة. هكذا كان يراها كمال جنبلاط.
الديموقراطية: سيادة رأي الأقوى نفوذاً وسطوة ومالاً. هكذا يمارسها حملة رايات حقوق الانسان. الأقوى يفرض رأيه (ومصالحه) ديموقراطيا على الآخرين. للمثال: انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة، لا تقررها ابتسامة الرئيس ولا تسريحة شعر زوجته، وانما التحالف الهائل من فوق رؤوس الجميع بين الاحتكارات والكارتلات والشركات العظمى (باختصار: رأس المال، على الضفتين المتواجهتين).
أما الانتخابات فهي ملعب السياسات وموئل الديموقراطيين الأقوياء بالاسلحة غير الديموقراطية.
على أنها لعبة ممتعة، حتى وان خلفت احيانا بعض الذيول المأساوية!
أما كرة القدم فهي لعبة أصلاً، وان كانت قد غدت صناعة ثقيلة، تحتشد في ميادينها الرساميل وتتنافس في قلبها الشركات والمؤسسات والاحتكارات، فتصطنع »النجوم«، وتستقطب الجماهير، كمستهلكين أساساً، وتجني الأرباح الهائلة.
الانتخابات كما الكرة، ميدان استثمار أرباحه فلكية الأرقام يدفعها، في الغالب الأعم، الجمهور بوصفه مستهلكاً.
لا بأس أن تشتري متعتك،
والأمتع أن تشتري إغاظة خصمك بحفنة من الدولارات!
المهم أن تلعب.
يكفيك الاعتراف بوجودك، والوهم الذي يملأك بأنك تشارك، ولو رمزياً، او تقرر (في البلدية مثلاً) ولو بتعطيل قرار غيرك.
اللعبة ليست لعبة. وأنت لست، بالضبط، اللاعب. قد تكون »الكرة«، وقد تكون »الملعوب به«، وقد تكون »المرمى«، أما إن كنت الهدف فعندها تستحق التهاني والتبريكات.
أنت بعض اللعبة. أنت لست المتعة تماماً. أنت مستهلك. أنت استثمار.
أنت تشتري المتعة بعواطفك قبل مالك. تشتري المتعة أو النكاية؟! تشتري البهجة أم الخصومة؟! تشتري إحساسك بذاتك أم التفوق على الآخرين؟!
ألا يمكن تأكيد الذات إلا بإلغاء الآخرين!
وفي كرة القدم قد تضطر لإلغاء قارات ودول كبرى لتأكيد حسن اختيارك وصحة مراهناتك وصدق فراستك!
أما في الانتخابات فغالبا ما تلغيك الدول مجتمعة أو فرادى، او أصحاب الدولة، ان هم ائتلفوا، ولا يستحضرك ولو لبرهة الا خلافهم.
واختلاف الائمة نعمة للأمة، كما يقول التراث..
من البلدات والبلديات الى »المونديال« او »العولمة الكروية«، بلا فاصل موسيقي ولا انقطاع ولا استراحة لتغيير المشاهد.
الصور على الجدران والأعلام على سطوح المنازل وواجهات السيارات وفي المكاتب الأنيقة: للعصبيات »وقت إضافي« لكي تعبر عن نفسها بالصوت العالي!
من »الجب« داخل العائلة الواحدة المهملة في القرية المنسية في الجرود البعيدة، الى البرازيل خلف المحيطات، وإيطاليا خلف البحر، وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، خلف الحروب، وصولاً إلى المغرب في أقصى امتدادات الهوية واللغة والثقافة وصوت المؤذن: فرصة لاتخاذ موقف، فرصة للاعلان عن الوجود، فرصة للتعبير عن »رأي« والقول »أنا هنا«.
تتداخل وجوه المرشحين للمخترة مع وجوه أبطال الفرق المتنافسة على اللقب المتوهج فوق أرض الملاعب الفرنسية، وتختلط الشعارات والتعهدات بالتنمية والحفاظ على البيئة والحرص على إشراك المرأة في الحياة العامة، بالجداول التفصيلية حول الفرق المسلحة بأقدامها والآتية من أربع جهات الأرض »لتلعب« لك، بك، معك؟!! وبمواعيد المباريات »الفاصلة«.
ليست درجة الحماسة واحدة، فهي مع الكرة أعلى بما لا يقاس، ولا تتساوى الخيبة في البلدية مع الخسارة في اللعب، فهي هنا أعظم مرارة، ربما لأنها شخصية جدا.
الأقدام قد تصير أغلى من الوجوه، مهما كانت وسيمة.
الأقدام قد تكون أهم من الأيادي، مهما كانت طبيعة إنتاجها.
الأقدام قد تحرك العالم.
ضربة جزاء قد توقع مجزرة، فالأقدام أيضاً يمكنها إثارة الذكريات القديمة، الأحقاد القديمة، الجراح القديمة، الثارات القديمة.
يتضاءل الانسان الكبير فجأة. تتساقط مكتسباته وألقابه العلمية، تذوي تقاليده الحضارية، يتهاوى وقاره، ويرمي الى الجحيم بادعاءات الموضوعية والحيرة والروح العلمية، ويندفع كالثور الهائج تتقدمه غرائزه معلنا انه »ضد« الآخرين وانه »مع« ذاته؛ هم مخطئون ومتعصبون وانه وحده »النزيه«، ووحده »المحق، ووحده من يفهم الأصول، ووحده الذي لا ينطق عن الهوى.
قال لي كروي عريق: لا أبالغ إن أنا قلت إنني، متى لعب فريقي، أنظر إلى المرمى وكأنه »عرضي« الشخصي، وأعتبر أية إصابة فيه بمثابة اعتداء على شرفي!
البلدية أمر بلدي، حدوده العائلات الأخرى في القرية ذاتها، أما الكرة فشأن دولي يُدخلك العالم كله، فترى نفسك عضوا في حزب كوني يناهض حزبا أو أحزابا كونية اخرى، وتعبر بك عواطفك، طيبة او خبيثة، المحيطات والمدارات، فتجعلك طرفاً في صراع أين منه حروب الدول.
في غمرة الانهماك بالانتخابات البلدية والاختيارية أجرت كل من الهند والباكستان مجموعة من التفجيرات النووية، ونشبت حرب بين دولتين جارتين في افريقيا (الحبشة وأريتريا)، ومات رئيس أكبر دولة أفريقية (نيجيريا)، وبنت إسرائيل المزيد من المستوطنات في القدس العربية ومن حولها،
لكن »اللبناني« الذي تحول إلى مجرد »ناخب« ضد جاره الناخب الآخر كان مشغولاً بتفاصيله الشخصية او المحلية الدقيقة بحيث لم ينتبه الى آثار ذلك كله عليه، على حياته اليوم ومستقبل أبنائه غداً.
أما مع صفارة الحكم للمباراة الأولى في »المونديال« فقد غابت معظم شعوب الأرض عن الوعي، وانحصر اهتمامها ومتابعاتها وتركزت أنظارها على الأقدام القوية والسيقان الغليظة لتلك المجموعات من اللاعبين النجوم الذين تعرفهم الشعوب او تعرف عنهم اكثر مما تعرف عن حكامها وأكثر مما تريد أن تعرف عن الأزمة المالية في آسيا او عن الحرب الأهلية في يوغوسلافيا او عن مصير الشيخ أحمد ياسين الذي تحاول إسرائيل ان تجعل من مجرد عودته الى أرضه عنصر مساومة وابتزاز لحركته بل ولمجموع الشعب الفلسطيني.
العقل في إجازة بلدية.
العقل في إجازة كونية.
العقل معلق بالكرة التي تتلاعب بها الأقدام على تخوم المرمى، فإذا نجحت في إدخالها ارتفع الهتاف بقدر ارتفاع العويل، وغاب الجميع عن الوعي.
الشرف، الكرامة، مكانة العائلة، كلها في خطر إذا ما انتصر الخصم في القرية.
أما إذا انتصر الخصم في كرة القدم فان الشعور بالهزيمة يجيء ثقيل الوطأة، يذهب بالشهية إلى الطعام، وينسي الأب أن يقبّل طفله قبل النوم.
الانتصارات تذهب مع الريح، أما مرارات الهزيمة فتبقى.
الأقدام تخترق الرؤوس، تحتل مكان العقول، تنحدر إلى الصدور فتستقطب العواطف، ثم تتسلل الى مكامن الحس فتصيبها في المرمى تماماً!
لولا بعض حياء لقالت له: أحبني بقدميك!
لولا شيء من التورع لقال لها: أعطيني صوتك ولا تعطيني قلبك!
لولا بقية من عقل لاحتلت الأقدام المساحة المخصصة للكبراء ولذُيّلَت المقالات بصور اللاعبين ولنام الجمهور في المرمى ليحمي »شرفه«!.
تقاسيم على وتر الفرح
جاء الفرح متهادياً فوق صفحة البحر. مشى الناس إليه ومشى اليهم فوق الماء. احتضنهم واحتضنوه وسرت موجة عطر فأثملتهم. تدانت السماء منهم فتعلقوا بأستارها وأخذوا يعيدون مدارات النجوم فيها.
أعار الفرح أجنحته للجمع المحتشد في قلبه فحلّق الناس كاسرين حواجز الرماد والعبث والتفاهة، واستعادوا إحساسهم بذواتهم ومعنى الوجود.
يجعلك الفرح إنسانا. تتعاظم روحك فتصير الناس جميعا. تدخلهم ويدخلونك فتتوحدون في أفيائه ويصير واحدهم الجميع، منهم، فيهم ولهم.
يتخاصر الحب والفرح، يتحاضنان. يتماهيان فإذا الكل يبدو جميلاً ومكتملاً، رقيقاً يستطيع ان يقرأ سيرة روحه في عيون الآخرين.
الحب يغسل الروح بماء الفرح. يتعملق الانسان، يصل ما بين الأرض والسماء. هو المعنى ولولاه لكان الفراغ شاملا. بلا الانسان يصبح الكون صخورا وغابات وصحارى ووحوشاً ضارية، وتصير السماء سديما.
من أين يجيء المعنى إذا أطفأت البغضاء القلوب؟!
الانسان هو الحديث. الانسان هو المعنى. ما أبهج ان تسبح في قلب المعنى.
تقولين: ليس كمثله أحد؟! أبداً، بل هو جميل لأنه شبه كل الناس.
لأن وجهه يضيء بحب الناس. لأن عينيه الثرثارتين على نعاسهما تشعان بإرادة الخير لكل الناس. من الناس الحب وإليهم. في ملامحه تجتمع وسامة الناس لأنهم يرون أنفسهم فيه، او أنهم يتمنون لو كانوا فيه مثله. يحبهم فيعطونه، يحبونه فيأخذون منه. داخل الناس هو ليس خارجهم. يرونه بقلوبهم وتعشش في صدره عيونهم. لا كِبرَ خارج الناس. لا بهجة خارج الناس. لا يقفل على الفرح باب وإلا مات وانمعس. الفرح هم الناس. ليس الآخرون جحيماً، دائماً. من يرد يرَ الجحيم في الآخرين. من كان جحيماً لغيره رأى فيهم الجحيم، أما من كان منهم فلا يمكن أن يراهم شياطين وأبالسة وكتلاً من الشر تمشي على أقدام.
لا بهجة خارج الناس. من يرد يصطنعْ مع الآخرين جنة صغيرة تتسع لكل الناس.
الحب ليس طائرا نادرا يذهب الناس لاصطياده في الغابات. فرحك فيك، وللناس منه نصيب لأنهم شركاؤك في إبداعه.
لا ينتظر الحب أن تطلبه. ليس خارجك لكي يسافر إليك. لن يقف على بابك. إنه فيك فانظره.
أحيانا يمشي الحب على قدمين. أحيانا يطير بك الى أعلى من التمني. يعيد الحب صياغة دنياك. يزيل منها ما هو قبيح او سمج او مؤذ ويغمرها بنور البهاء والمتعة.
أقول لكِ: أنت الفرح! ويقول لكِ الفرح: كم تشبهينني!
أقول لكِ: أنت أجمل من الفرح! وتقولين: بل الفرح يعيرني وجهه فأبدو جميلة!
أقول لكِ: هو بعضك! وتقولين لي: هو أنت! ويقول لنا: الحب أنتما!
أقول لكِ: هي البداية الثانية! وتقولين لي: شكراً لمن أعاد إلينا الروح وجدد فينا إرادة الحياة.
ترف من حولنا فراشتان وعندليب. تصير الفراشتان وردتين. يصير العندليب زنبقة. تصير الوردتان شلال عطر، تصير الزنبقة خميلة. يعشش الحب في الخميلة ويهتف: تعالوا إليّ أيها المتعبون. تعالوا إليّ يا أطفالي لكي تتجددوا وتكبروا وتهزموا الشيخوخة والعجز واليأس المر.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب أعظم من المحبين.
نادر بين المحبين من ارتقى فعاش الحب كاملاً.
أعطى الحب نفسه لملايين الملايين. أعاد خلق ملايين الملايين. زرع الفرح في أرجاء الأرض كلها، وما زال يكفينا، حبيبي وأنا، ويكفي أبناءنا الآتين.
إزرع الشمس في قلبك، إنه يتسع لكل الناس الممتلئين بنعمة الحب والذين يتشوقون إليه وينتظرون اناء الليل وأطراف النهار.

Exit mobile version