طلال سلمان

هوامش الهة لبنانية غب الطلب!

طلال سلمان
آلهة لبنانية .. غبّ الطلب!
ازدحمت الشوارع اللبنانية ب»الآلهة« لمناسبة موسم الأعياد.
يفرح اللبنانيون الذين لم يعرفوا من الإيمان إلا أقله بتزايد عدد »الآلهة«، وينسجون المؤامرات لكي يواجه بعضها بعضاً، أو لكي تتصادم، أو لكي تتصالح فتتعانق مصطنعة »الوحدة الوطنية« تحت قوس قزح الطوائف المتعددة الألوان والشعارات الدموية.
وفي لبنان لا يختص كل إله بدين من الأديان، بل تتعدد الآلهة بقدر ما تتفرّع الأديان إلى طوائف… وهكذا يبتدع المسلم السني »إلهاً« غير الذي يتبعه »المسلم الشيعي«، ويصطنع المسيحي الماروني صورة »للإله« غير التي يعتمدها المسيحي الأرثوذكسي.. ويمكنك رسمياً الافتراض أن في لبنان سبعة عشر »إلهاً«، بقدر عدد الطوائف، هذا إذا ما استثنينا أولئك الذين يدّعون الإلحاد ويخبئون »آلهتهم« تحت أسرتهم ليلجأوا إليها في الملمات.
والعلاقة بين اللبناني و»الإله« مفتوحة، والكلفة بينهما مرفوعة، والتعاقد حر، بمعنى أنه كثيراً ما يعنّ لهذا العنطوز الملحاح واللجوج أن يهجر »إلهه« لأنه تأخر عن نجدته، أو قدّم عليه غيره، أو »طنّش« فلم يلبِّ دعوته، أو انحاز إلى »خصمه«..
فاللبناني يفترض أنه أشطر من »الرب«، وأنه صاحب فضل عليه لأنه اختاره من دون سواه »ليوظفه« عنده، فيكلفه بأن يقضي له ما يصعب عليه إنجازه من حاجاته، أو يوفده في المهام الدقيقة، أو يجعله »جابياً« أو »تحصيلدار« يجمع له من الأتاوات أو الصدقات أو التبرعات ما يقوم بأوده ويغنيه عن مدّ يده إلى الناس!
وبين النكات الشائعة أن لبنانياً وقف في مكان مقدس يخاطب »ربه« ويفاوضه، فانتبه إلى أن إلى جانبه فقيرين يطلبان ويلحان في الطلب ويأخذهما الإيمان إلى البكاء، فالتفت يسألهما: وما حاجتكما؟!
قال الأول: ألف دولار لأعالج نفسي من مرض عضال..
وقال الثاني: خمسمئة ألف ليرة لأسدد قسط المدرسة لابني.
فمد اللبناني يده إلى جيبه وأعطى كلاً منهما ما يطلب داعياً إياهما إلى الانصراف ثم توجه إلى السماء قائلاً: ركِّز معي! قبل أن يتدفق بمجموع مطالبه..
المعادلة واضحة: كلما تناقص الإيمان تزايدت أعداد »الآلهة«.
ربما لهذا يتبدّى وكأن اللبنانيين يختارون »آلهتهم« وفقاً للموضة، ويبدلونها مع تبدل الفصول، أو مع اختلاف معالم الطبيعة، فيصير »الإله« في الجبل جباراً هائل القوة، ويرق في الساحل، ويخشوشن في الصحراء… أو يتعاظم مع الرجال، ويغدو شفافاً مع النساء، عطوفاً مع الأطفال إلا إذا عصوا فيُعزل العطوف ويؤتى بالقاسي الذي »يخنق« أو »يميت«.
»الإله« متبدل متغيّر في لبنان حسب المناسبة…
وبين الطفولة والشيخوخة يستهلك اللبناني عشرات »الآلهة«… بل انه أحياناً، ولضرورات عملية، يستبدل »إلهه« أكثر من مرة في اليوم: فمع المتديِّن لا يظهر إلا »الإله الواحد«، ومع الأجنبي الذي قد يكون ملحداً، يتوجه اللبناني إلى الدين باللوم فيحمّله مسؤولية التخلّف مركزاً على العيب التكويني الذي يجعل »الإله« محور الحياة بخيرها وشرها.
في الأعياد، يتباهى الأطفال بآلهتهم كما بثيابهم الجديدة، وكلما كان المظهر أغنى كان »الإله« أفضل وأطيب وأكثر إغراءً لاعتماده مرجعاً من توجه إليه لم يخب له رجاء.
وفي اللغة اليومية فإن »الإله« يكاد يشكل العمود الفقري، فإذا رفعت الكلمات التي تتصل به أو تخاطبه أو تعود إليه، فرغت الجمل من معانيها.
إنه مصدر الصحة ومصدر الأمل في الشفاء من المرض.
إنه علة الحياة والأمر بالموت، فإن كانت الحياة صعبة فهو المسؤول، وإن جاء الموت مبكراً فهو الملام، وكذلك إن تأخر.
الحمد لله، ونشكر الله، وكثر خير الله، وكله من الله، وهكذا أراد الله، وليكن ما يريده الله، وتحت رحمة الله، وسبحان الله، وهذا ما قسمه الله، والله يعطي مَن يشاء بغير حساب، والله لا ينسى أحداً، وهذا من فضل ربي، وشاء ربك أن تكون حصتنا في الآخرة، ولا اعتراض على قضاء الله، وهل أنت أكرم من ربي، والله أعطى والله أخذ، والله لا ينسى أحداً، والله يمهل ولا يهمل، واستفقاد الله رحمة، والحكم حكم الله، ولا يصيبنا إلا ما كتب الله، وعلى الله، وكله من الله، ولنا الله..
ثم هناك الاعتراضات التي تموّه نفسها بلبوس الإيمان، ولا مجال لذكرها هنا، وكلها تبدأ بذكر الإله وتنتهي بنفيه.
الآلهة كثيرة بعدد المطالب والتمنيات والاعتراضات،
والآلهة ولود، ثم إنها قابلة للموت وللنسيان كما »أصحابها«.
ربما لهذا ضاقت المساحة على الإله الواحد، وهو الذي تدعو إليه الأديان جميعاً، ويكاد يهجره معظم الناس إلى »آلهتهم« التي تشتغل لحسابهم، من فوق رؤوس الآخرين ومن وراء ظهر »الآلهة« المخاصمة أو التي لا تظهر من الاهتمام ما يشبع رغبة »المؤمن«.
… وهو مؤمن حتى تستجاب طلباته فيستغني.
وتبقى »الآلهة« المبتدعة، تجوس في الشوارع، تتزاحم بالمناكب، وقد يسد بعضها الطريق على بعض فتكون فتنة،
وحتى الفتنة لها آلهتها في لبنان،
وعلى المتاريس كانت الآلهة أكثر من المحاربين طوال دهر الفتنة التي لما تنطفئ نارها، والتي كلما كاد يطويها النسيان اخترع السياسيون »آلهة« جديدة ورموا بها إلى الشارع فجددتها، وذهبوا هم إلى المعابد يشكرون الله ويحمدونه على نعمه الكثيرة؟!
فالآلهة في لبنان، كما المناقصات، غبّ الطلب!
الفرح منازل في بيت كثير..
جاءت اللحظة، إذاً، وها نحن نبدأ رحلة الانشطار على الذات.
يخرج الحي من الحي،
يذهب الحي إلى الحي،
وثمة حي لا يخرج ولا يذهب، بل ينظم حالات الخروج والذهاب، ثم ينعطف على ذاته، ويحاول استيلاد الشعور بالرضى عن النفس لأنه أتمّ ما عليه على أحسن وجه.
أتمّ ما عليه؟!
وماذا عما له؟!
وقبل، ماذا عنه؟!
ذهب زمن الكلام، كلامك. عليك الآن أن تسمع فحسب. وقد تسمع ما لا يعجبك، لكنك لا تملك حق الاعتراض أو ادعاء الطرش.
* * *
تمشي إلى الفرح متهيباً،
كيف تمشي إلى داخلك؟
ثم ان داخلك يكاد يتكامل خارجك.. بل انه لا يتكامل إلا خارجك.
ليس أكيداً ان ما اكتمل به قد نقص منك.. ولكن اكتماله يحسم في إشكال كان يمضك: هل هو أنت؟! هل أنت هو؟!
سؤالك الآن: أينه منك؟ أو أينك منه؟!
ليس سهلاً أن تتعدّد إلى حد الشعور بالوحدة.
الواحد، متعدد، والمتعدد واحد.
لماذا تعقد الأمور بهذه الفلسفات التي حلّها الإنسان البدائي قبل ملايين السنين.
أحضر شموع الفرح، والبس وجه الغد وابتسم لموكب العمر.
مهدد بانهمار الفرح، وما زلت تلبس الوجه المحايد ذاته وتترك الكلمات تردد نفسها آلياً وكأنها تجيء من خارجك؟!
لم تعد الذي كان. ولم تعد في أي حال وحدك، ولست أيضاً أحداً منهم بالذات، ولست مجموعهم.
ترضي نفسك فتقول إنك في كل منهم، فيهم جميعاً.
الأصح أنهم فيك، وأنهم باقون وإن خرجوا.
تتعدد الدور وتكاد تضيق بذاتك.
فجأة تكتشف أن الحياة كثيرة التفاصيل، وأن الكلمة تتشعّب وتتفرّع إلى مهمات لا حصر لها.
تضيق بالتفاصيل لكنك سرعان ما تكتشف أنها بين مكوّنات السعادة لغيرك..
أكثرك خارجك.. يتقافز، يركض، يهدأ، يضحك، يغضب، يعبس، ينعس، ينام، وهو في كل حركته يتجول داخلك بلا تعب… وتسأل نفسك: هل أنا داخله كما هو في داخلي؟!
لا تريده أنت، ولا تقبله غيرك.
وهو يريدك فيه، لكنه يرفض التكرار واستنساخ الذات.
لست هو. ليس أنت. لكنه فيك. لكنك فيه. كيف تنفصل الصورة عن الأصل فتصير أصلاً. ليس ظلاً لتقول إن الظل قد استقام أصلاً سويا.
أكره ما تكره أن يكون ظلاً.
أعظم ما ترجو أن يكون أصلاً.
الأصل من الأصل. الأصل يصير أصلاً. تتعدد الظلال بتعدد الأصول.
الفرح بيت بمنازل كثيرة. الفرح منازل في بيت كثير. تهويمات
قالت بجسدها: أهلاً وسهلاً..
قال بدهشته: ما أبعد قربك!
قالت بعينيها: تفضل فادخل..
قال بحرقته: ما أعلى أسوارك!
قالت بيديها: لكأننا صديقان قديمان!
قال ببلاهته: ما أضيق فسحة المعرفة.
قالت فلم يسمع، وحاول أن يقول فلم يقدر.
الكلام باب خروج أحياناً،
أما الصمت فسقف يتدلى منه مصباح التمني.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ليس في الحب طبقات، لأن الحب »فوق« وأعلى ممن يصفه. والحب يرفع المحب الى عليائه: يساعده على أن يحقق ذاته، فيظهر ملكاته ويبرز ما كان مطموساً أو مطوياً أو جنينياً قبله.. وبقدر الحب يكون الارتقاء.. وهذا أقسى امتحان للمحبين، فلن يكون لهم عذر إن فشلوا، إذ لا يمكنهم اتهام الحب بأنه قد شغلهم فأعماهم أو أنهم قد »نزلوا« إليه ليعيشوا فيه. هو »فوق« ومن لم يرتقِ إليه يراهق ولا يحب.

Exit mobile version