طلال سلمان

هوامش ادم وحواء امام المحكم العربية لماذا هبطتما من الجنة

آدم وحواء أمام المحكمة العربية: لماذا هبطتما من الجنة؟!
عند مدخل قصر العدل، توقفنا عند كشك الحراسة. دقق الحارس في هوياتنا وسمح لنا بالدخول بعد أن أنزل الحاجز الألكتروني الذي يمنع عبور السيارات… المفخخة.
الكويت المحررة محروسة جيداً، خاصة مقار الحكم والمؤسسات الرسمية. الحماية لرموز الدولة أولاً.
رقينا إلى الدور السادس، حيث محكمة الاستئناف المتعددة القاعات.
في قاعة المحامين، كان الزميل الصديق محمد جاسم الصقر ينتظر مع محاميه أن يستدعى للمثول أمام المحكمة التي ستبت في طلب الاستئناف الذي تقدم به لنقض الحكم الصادر بحقه، قبل ثلاثة أسابيع، والقاضي بحبسه ستة أشهر مع الشغل والنفاذ، وتعطيل الزميلة »القبس« سبعة أيام.
لم يعد مهماً الآن، كما لم يكن مقنعاً من قبل، ان سبب هذا الحكم المتعسف نكتة سمجة عن السبب في »طرد« آدم وحواء من الجنة، نشرت قبل شهور في إحدى صفحات التسلية بالجريدة.
القضية سياسية، مموهة بالشعار الديني، وإن اتخذت من النكتة القديمة ذريعة لاتهام الصحيفة التي تعج صفحاتها بالكتابات في الدين وعنه، واتهام ابن العائلة العريقة والمحافظة بالضرورة، بالمس بكرامة أنبياء الله أمثال جدينا الكريمين آدم وحواء.
من الصعب الافتراض أن سيدنا آدم قد غضب من النكتة المنشورة في »القبس«، أو أن ستنا حواء قد طلبت الثأر لكرامتها نتيجة اتهامها بعدم دفع الايجار.
ومن الصعب أيضا الافتراض بأن من رفع الدعوى هو الوكيل المفوض بالدفاع عن الجنة، أو بتحصيل الايجارات، خصوصا وأننا نعرف أن الله سبحانه وتعالى قد جعلها وعداً للصالحين من عباده ودار بقاء للمؤمنين من خلقه، وهم من حيث المبدأ الأكثرية الساحقة.
وصل خالد خلف، أحد أوائل المحامين في الكويت، والذي كثيرا ما ندب نفسه للدفاع عن قضايا الحرية أو عن أولئك الذين يُتهمون فيتهددهم الفقر بالإدانة لأنهم لا يملكون ثمن البراءة، أو ثمن الدفاع عنها.
كان محمد جاسم الصقر قلقاً لأسباب تتصل بأسباب الدعوى وليس بتفاصيلها أو بالاجراءات القانونية… وكنت مجرد »شاهد« يرى ويسمع ولا يتكلم. وكان الأكثر اطمئنانا الزميل سهيل عبود الذي لم يكف عن الإبحار في قلب الحتمية التاريخية وإن كان الأكثر اهتماما بالتفاصيل وبالوقائع المبدِّلة في طبائع الدول والأفراد.
تكامل وصول المحامين. كانوا مطمئنين إلى أن محكمة الاستئناف ستتجاوز الذرائع السياسية إلى جوهر الموضوع فتنقض حكم البداية المتعسف والمرتجل في تقديرهم، و»المسيَّس« في توقيته وفي ظروف إصداره أو استصداره،
قاعة المحكمة أنيقة بغير بهرجة. في صدرها »القوس« يتصدره القاضي الكويتي ومعه ثلاثة مستشارين اثنان منهم مصريان.
الى يسار الداخل »القفص« وفيه بضعة متهمين موقوفين، وللمحامين الصفوف الأولى وخلفهم المتقاضون.
كانت أمام القاضي مجموعة دعاوى بعضها حول ترويج المخدرات، وبعضها حول شيكات بلا رصيد، أو حول مستحقات لم تدفع في مواعيدها.. وكان محزنا أن تدرج قضية تتصل بحرية الرأي وحق القول بين هذه الزمر، وكان التحرج بادياً على وجه القاضي الذي عليه أن ينتقل بين »الفتوى« بالوضعية القانونية لآدم وحواء في الجنة، وبين الحكم على المتحدرين من ذريتهما الصالحة بدعاوى نصب واحتيال وتأخر عن سداد الكمبيالات!
جاء الدور على »القضية الرقم 10« فنودي على محمد جاسم الصقر، الذي وقف طليقاً أمام القفص مباشرة، على يمين القاضي، وتقدم محاموه وقد ارتدوا الآن »أروابهم« السوداء فوق الدشاديش البيضاء فبدوا كالبطاريق: صدورهم بيضاء، ظهورهم حالكة السواد، والرأس يختفي تحت الكوفية البيضاء المطوقة بالعقال الأسود،
استهل المرافعات خالد خلف، الذي يعامله زملاؤه »المستجدون« معاملة الأخ الأكبر، فانطلق يحاول على هامش القانون، وبالاعتماد على خبرته الطويلة قراءة النوايا التي قد تتستر وراء النصوص القانونية الجامدة.
مَن يستطيع، يا ترى، الآن وبعد هذه الآلاف أو الملايين (؟) من السنين قراءة نوايا سيدنا آدم أو ستنا حواء أيام »سكنهما« في الجنة، وكيف كان شكل علاقتهما بالأشياء من حولهما؟!
مرافعة علي البغلي، الذي سبق له أن شغل منصب وزير النفط، ركزت على انتفاء النية الجرمية، مؤكدا على إيمان محمد جاسم الصقر وآل الصقر عموماً، بالله وباليوم الآخر، وبالأنبياء جميعا وأولهم سيدنا آدم وسيدتنا حواء، في حين تركزت مرافعة عماد السيف على تناقض »حكم البداية« المتعجل مع الدستور الذي كفل الحريات، مستشهداً بحكم صدر مؤخراً عن المحكمة الدستورية في القاهرة في دعوى يمكن اعتبارها مشابهة.
بالطبع، غاب عن الجلسة المدعى باسمهما: جدانا المحترمان آدم وحواء… ربما لأنهما لم يستشعرا من خلال النكتة التي استخدمت اسميهما بأية غضاضة، أو ربما لأنهما قد قطعا صلتهما بالجنة منذ أن طُردا منها ولم يعد يهمهما من أمرها شيء، أو لأن الزمان قد اختلف فلم يعودا قادرين على متابعة ما يدور على الأرض، وهو مغاير تماما للذي ألفاه.. خصوصاً وأنهما حين كانا فوق لم يكن يشاركهما الجنة أحد، فهما بعد أن طردتهما اللعنة وأهبطتهما إلى الأرض عرفا، ربما بسبب الثمار الشهية للشجرة المحرمة تلك العملية الممتعة والمعذبة التي تؤدي إلى الانجاب، وأحيانا تنزل الإنسان من الدنيا الفانية إلى نار جهنم المتقدة على الدوام.
لم يكن من السهل أن يتقبّل العقل نقاشاً قانونياً تتداخل فيه رسالات الأنبياء مع حرية القول وصولاً إلى حرية إطلاق النكات التي تلعب على التورية والمفارقات،
محكمة ومحامون ومتهمون وادعاء عام وقضاة ومستشارون وأقلام وآراء واجتهادات يهدر فيها الجهد والوقت من أجل إثبات علاقة البنوة التي تربطنا بجدنا الأعلى أبي الأنبياء السيد آدم.
والسيد آدم أدى رسالته وارتضى مكانته في الوجدان، خصوصا وقد صار رمزا له وهج الأسطورة، كما أنه وبوصفه الجد الأعلى فإنه يتحمل مسؤولية كل من ولد أبناؤه وأحفاده وأحفاد الأحفاد من الذرية الصالحة التي تعيث في الأرض فساداً برأي العديد من حكام الأرض.
أما السيدة حواء فلو أنها قررت أن تذهب الى المحاكم العربية وأن تشكو لكان لشكاويها مواضيع مختلفة تماماً عن قصة طردها من الجنة،
كانت ستبدأ بحياتها هنا، بحقوقها هنا،
أما »فوق« فالقرار كان لصاحب القرار.
ويمكن الإضافة أن آدم العربي لو قدّر له أن يقف أمام المحاكم طلباً للإنصاف لما تعرض أبداً للذي جرى قبل وصوله إلى الأرض، بل لكان اهتم بأن يعرف موقعه وحقوقه ونصيبه من ثمار هذه الأرض،
مع ذلك فالمحاكم تنعقد وترفع جلساتها أو تصدر أحكامها في غير الموضوع الأصلي وهو: كيف يعيش آدم وحواء في هذه الحياة الدنيا، ولمن يدفعون من أعمارهم بدلات الايجار!!
ومحمد جاسم الصقر، مثله مثل أي منا، يمت الى جدينا الكريمين آدم وحواء بصلة القرابة ذاتها ومن الدرجة نفسها، وهو بهذا المعنى مدعٍ لا مدعى عليه.
أطلبوا الرأفة والرحمة لآدم القديم ولآدم الجديد،
والأهم: أطلبوا الرأفة والرحمة للحرية، وضمنها حق الرأي، من أجل أن يكون آدم العربي آدمياً!
… ومن أجل ألا يطرد آدم العربي من الأرض.. أيضاً!

البداية العاشرة..
أسقطت السياسة قناع النفاق الاجتماعي، فعادوا أغراباً يتقاذفون ثلج المجاملة فيجمد الشفاه ابتسامات ميتة.
فقدت الكلمات المعبّرة عن الشوق دلالاتها، وتهاوت التوريات والايماءات حول الرغبة وتشهي اللقاء في جب الرصانة المدعاة.
يخدش الحب المقامات. يفضلون الفضائح!
عاد إلى العين إبصارها، وسقط السحر، فانكشفت تجاعيد الحقيقة المطموسة بمستحضرات التجميل، وقالت الكهولة ببساطة: أنا هنا!
لم يعد للصوت المنغم من وظيفة، فاستعاد وقعه الطبيعي وإن استمر أقرب إلى الهمس، كأنه يداري ذيوع عمق المعرفة.
وحين أفلت منها السؤال الأخير: متى موعدنا؟! سمع نفسه يقول بغير تفكير: وهل ما ينقصنا هو الموعد؟!
ألقت تحية ختام السهر. كأن المساء قد ابتعد، ولم يكن الصباح قريباً بحيث يراهما.
قال له الليل: لكل حكاية نهاية، وأمتع النهايات تلك التي نكتبها بأيدينا بدل أن يمليها علينا الآخرون.
وقالت الحكاية: تضعون الخاتمة من خارج السياق،
وقالت المرأة الأخرى: لم أنهِ كلامي بعد، من هذا الذي يقرر بتر البدايات أو قطع الطريق على مجرى الحكاية.
وقال بعض رفاق الإنس: انه ساذج، تسحبه كلمة رقيقة واحدة إلى أقصى المدى، وهو الآن قد علق بين جملتين غير مكتملتين فتاه.
لكن الساذج كان مشغولاً عن الجميع باستعادة الصدى المموسق للكلمات التي نطقت به عيون جارته في عشاء الموعد الأخير.
قال لنفسه: ومن قال إنني أبحث عن حب جديد؟! الحب عبء ثقيل. الحب احتلال. وأنا إنما أبحث عن نزهة قصيرة بين عينين ناعستين وشفتين متحفزتين وقمر يوشك أن يذهب في إجازته الشمسية.
مع الصباح جاءه »الموعد« ماشياً على قدميها.
وقرر بهدوء: عليّ أن أكتب بنفسي سطور البداية العاشرة.

صهيل الجراح..
أتعثر عند بابك حتى يعثر عليَّ الباب فيهصرني بين الضبة والمفتاح قبل أن يخفيني خلفه ويختفي عني، مخلياً المساحة لحضوري.
أرتمي متخبطاً في بحرك المهتاج موجه، يخطف مني مجذافي ويشدني حتى يكاد يسحقني، ثم يفلتني ويتركني أغب الماء فيزداد عطشي،
تغلب النشوة الخوف، وتأخذني العزة بالإثم فأرتفع كعمود من ملح وتصهل جراحي، فتنثر حبات اللؤلؤ بيضاء كأسنانك رائقة كحبيبات الندى فوق جبين العرق،
يردني الموج فأرتد خائراً لأحصد الزبد المجفف على حوافي البواخر الغارقة في المرفأ المهجور،
لا يتزيّن البحر باللآلئ،
ولا يروي الزبد من يعضه جوع الخيبة،
يطوي الفارس المفتقد المبارز أعلامه ثم يطوي رمحه مسبحة ويتسلى بتزويج الفراغ والوقت: طق، طق، طق…
تختلط عليه الأصوات، فيقرر ألا يتحرك، ويفضل أن يبقى في سكونه متأملاً ما يجري خلف الباب.

سنملأ المكان ذات حب..
دائماً خارج الوقت
كأنه لا يتسع لحب آتٍ من عمق الأحزان المنسية،
أهو الوقت أم انه المكان،
هل تعجلنا فجئنا قبل،
أم تأخرنا فضاع منا »البعد«
لتكن الومضة وعداً جديداً بالنار المرجأ اشتعالها بنا،
سندخل الوقت ذات مكان،
سنملأ المكان ذات حب،
أما الآن فلنرشف الومضة بهدوء!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
مَن يضع الكبرياء في وجه الحب يخسر الحب ولا تنفعه الكبرياء.
الحب اكتمال. مَن اكتمل بحبه امتلأ ثقة بنفسه فأسكن الناس قلبه وعينيه.
تكبر بحبك، وخارج الحب تصير كبرياؤك مجرد قناع لضعفك.
أنظرني كم أنا كبير بحبي: أحس أنني كل الناس… فحبي يتسع لهم جميعاً، ومنهم أستمد كبريائي!

Exit mobile version