طلال سلمان

هموم الصحافة وهموم العهد!

هموم الصحافة وهموم العهد!
***
تعيش الصحافة في لبنان أزمة لعلها أكثر حدة من تلك التي تعيشها مختلف المؤسسات، الرسمية منها والخاصة،
وأزمة الصحافة متعددة الوجوه، ولكنها بمجموعها تعكس الواقع الفعلي لحالة الدولة والمجتمع، في بلد ما زالت تضغط عليه مخلفات الحرب الأهلية، وما زال يحاول تجديد خلاياه وتعويض ما فاته على الصعد كافة: السياسية والاقتصادية والثقافية والتقدم العلمي الضروري للانتساب إلى العصر.
ثم ان أزمة الصحافة تبلور، وربما بشكل مفجع، ضمور الدور العربي للبنان الذي كان المنتدى السياسي والشارع الوطني ومركز السجال الفكري والمصيف والمصرف والمقهى والكتاب والمطبعة وجريدة الصباح.
وبرغم قسوة الظروف، داخليا وعربيا، فإن صحافة لبنان ما تزال تحاول أن تصمد وأن تحفظ لنفسها شرف الدور، إضافة الى كونها »المورِّد الرئيسي« للكادرات المهنية عالية الكفاءة إلى مختلف أجهزة الاعلام العربية، الرسمية منها والخاصة، المقيمة منها والمهاجرة، المرئية منها والمسموعة الى جانب المطبوعة.
ان ازدهار الصحافة عنوان لازدهار لبنان، ونجاحاتها تضيف الى رصيده، وقدرتها على التأثير هي إعلان نجاح لنظامها وتزكية له وتدليل على أهمية الهامش الديموقراطي وجدارة المواطن العربي »بنعمة« الحرية وأهليته لتحمل مسؤولياتها..
في الماضي البعيد، كما بالأمس بالقريب، وكما اليوم، كانت الصحافة وما تزال واحدا من مراكز التنوير، تحاول جهد طاقتها ان تخدم مجتمعها، بنشر الوعي وتعميم ما تستطيع الوصول إليه من الحقائق، تحاور السلطة منبهة الى الخطأ منوهة بالصح مركزة على ما يهم الناس،
ولأنها كانت تتمتع بنعمة الهامش الديموقراطي، وتعكس اتجاهات الرأي العام، محليا وعربيا، وتسهم ضمن طاقتها برفع مستوى وعيه، فقد كان الحكام العرب يخاطبون شعوبهم عبرها، مما مكّنها أن تلعب دورا يفوق قدراتها الذاتية على المسرح السياسي العربي، فباتت مصدر تزكية لهذا النظام أو ذاك، و»مضبطة اتهام« بحق الطغاة والمقصرين.
على أن الدور الأخطر الذي لعبته الصحافة، عامة، يظل متمثلا في جهدها لمقاومة المشروع الصهيوني، وتصديها للاحتلال الإسرائيلي قبل اجتياح 1982 وخلاله وبعده، ودورها ضمن الجهد الوطني والقومي العام لإسقاط اتفاق الإذعان (17 أيار 87) ومقاومة الطغيان. والتسلط الفئوي وإلحاحها على ضرورة رفع الغبن وإنهاء الحرمان وتحقيق الإنماء المتوازن كمدخل إجباري لإلغاء الطائفية.
ومن دون تباه أو غرور أو مدح للذات فإن الصحافة بمجملها قد لعبت دورا ممتازا في مساندة المقاومة الوطنية الباسلة للاحتلال الإسرائيلي، ولعلها قد شجعت أهلها الصامدين على مزيد من الصمود من خلال رفعها صوتهم وإيصال الصورة الباهرة لصمودهم الى إخوانهم العرب والى العالم أجمع، وجعل قضيتهم بندا أول على جدول أعمال الحكم.
ولقد أسعد أهل الصحافة ان يسمعوا من الرئيس العماد إميل لحود ما سمعوه منه خلال لقائه نقابتهم، أمس الأول، من تعهد بحماية الحريات عامة، وحرية الرأي والتعبير خاصة، ومن تقدير لدور الصحافة واستعداد لمساندتها.
فليست الصحافة حزبا ولا هي محازبة،
وهي ليست أداة في يد أحد، حتى لو جنحت هذه الصحيفة أو تلك مع مصلحة معينة، أو مع عاطفة شخصية أو مع توجه سياسي محدد.
ان مرجعها الوحيد هو القارئ،
وهي تتعامل مع المسؤولين بحكم مسؤولياتهم ومن خلال مواقعهم العامة،
ثم انها قد تخطئ وقد تصيب، شأنها شأن أي مؤسسة أخرى، لكن الخطأ يكون فرديا وبالتالي فلا يصح عليها الحكم الاجمالي ولا تجوز معها العقوبة الجماعية.
ويحدث غالبا في الفترة بين عهدين ان يلجأ »الجديد« الى تمييز نفسه عن »القديم«، والى تزكية توجهاته على حساب ممارسات من سبقه، بكشف مكامن الخطأ أو الفساد فيها،
لكن الصحافة ليست »بعض« العهد الماضي، أي عهد ماض، وليست منه في شيء. انها كمؤسسة قبله وباقية بعده. لم ينشئها الذين تولوا السلطة من قبل، ولا هي تطل على الدنيا مع الذين يتولونها اليوم أو سيتولونها غدا.
إن هموم الصحافة، كما العهد، ثقيلة، خصوصا وأنها بأساسياتها تتصل بما يحاول أن يعالجه من مشكلات البلاد المعقدة: العجز في الموازنة، الأعباء المنهكة لخدمة الدين العام، الركود الاقتصادي بكل ما يستولده من مخاطر جدية على الشعب كله.
والصحافة سلاح ماض من أجل »التغيير والإنقاذ«،
لكن العلة كانت وما تزال في الحياة السياسية التي تعاني بدورها من خمول يكاد يصل الى حدود الوفاة غير المعلنة.
إن ذبول الصحافة إعلان صريح عن انعدام الحيوية في المؤسسات السياسية، وعنوانها مجلس النواب، وأركانها الأحزاب والقوى والتنظيمات والنقابات والاتحادات المهنية وسائر التعبيرات الحية عن المجتمع المدني،
والحل في إنعاش الحياة السياسية، وعودة الروح إلى العمل العام.
وهو حل يحتاجه العهد الجديد كما تحتاجه الصحافة، بل ويحتاجه الوطن ومجتمعه كافة.
ولعل مباشرة الإصلاح السياسي، بقانون جديد للانتخابات، وقانون جدير للجمعيات والأحزاب، مع إعادة النظر في التقسيمات الإدارية، إضافة الى انطلاق »ورشة« الاصلاح الاداري وإعادة ترتيب الأولويات،
.. لعل ذلك كله يسهم في توليد حياة سياسية أكثر التصاقا بهموم الناس ومطامحهم،
وستكون الصحافة الراية والميدان والحادي لمثل هذه الولادة الجديدة التي ستؤكد صدقية العهد الجديد في إنجاز ما وعد به.
فالصحافة، في خاتمة المطاف، للوطن والمواطن، تبقى بقدر نجاحها في أداء مهمتها في خدمتهما وتندثر متى قصرت أو أضاعت الطريق الى أهدافهما الصحيحة.

Exit mobile version