طلال سلمان

هل اللبنانيون باقون؟ أشك في ذلك

الكذب قاموس لبناني فريد. من يصدق بعد أن للكلمات معنى؟

كلمات لكل التناقضات. القاموس اللبناني فرغ من صدقيته. إمتلأت السياسة بالهراء. كل ما يقال أو سيقال قد قيل. هراء بهراء. لا أحد من “النوابغ” اللبنانية يستطيع أن ينطق بالحقيقة الممنوعة، بل، بالحقائق الممنوعة.

طفح الكيل. كل ما قيل في “المنظومة الحاكمة والفاسدة” قد قيل مراراً، صبحاً وظهراً ومساءً. عمر هذه المهزلة الرثة، من عمر الشتائم التي ملأت آذاننا، ورأتها بصائرنا على كل الشاشات. الزعامات التي أهينت وأذلت، لم تصب بأذى. إنها حاكمة ومستيقظة وتدافع بكل الخبث وعبقريات الكذب، عما ارتكبته، بالصمت.

كلمات لم تتحول إلى لكمات. ما يطلق عليه لقب الشعب، بدا هزيلاً جداً. لقد تفجّر الشعب غضباً وأضاء أملاً في 17 تشرين. كنا على وشك التغيير. غريب.

غريب جداً إلى حد الإعجاز. كان الظن أن الطغمة تعيش أيامها أو أسابيعها الأخيرة. أغبياء نحن. هؤلاء المزمنون جداً. أقوى من الآلهة. إنهم سلالة أصلية. إنهم صناديق المال بلا حلال. إنهم فلاسفة الكذب الذي تصدقها الجباه التي تشبه النعال. الطغمة، أقوى سلطة بين أنظمة الحكم السائدة. لقد أصيبت في مراكزها ومسؤولياتها ومواقعها وأخلاقها وارتكاباتها وفضائحها وسرقاتها وانتهاكاتها وارتهاناتها ومؤامراتها… ومع ذلك، فهي لا تزال الأقوى… من ظنوا أنهم كانوا على وشك إحداث التغيير، تغيروا كثيراً.

كثير منهم ارتد. عاد إلى قطيعه. دافع عن زعيمه. إتهم فقط الزعيم المنافس. عادت الإصطفافات المذهبية والطائفية الكارثية إلى الإنتظام.

مؤلم إلى حد البكاء والنشيج، أن يقتصر الحضور على أهالي وأصدقاء ضحايا إنفجار أو تفجير المرفأ. الطعن بالتحقيق، وهو على ما يبدو، جدي وجريء، بلغ درجة الحقارة. كانوا وحيدين. الآخرون انقسموا بين تثبيت “الحصانات” وبين رفعها. مسكين القاضي الشاب. من كان معه؟ من وقف إلى جانبه. قّلة نادرة. أما الآخرون. المتحدرون من السلالات المذهبية الحقيرة، فإما صمتت، وإما استنكرت وإما استفظعت. لذا الحصانات باقية، طالما لبنان ما زال على قيد موته غير المنجز.

كلمات. ما نفع الكلمات؟ تابعوا الشاشات اللبنانية. لم تنج من الإنحياز والإنتقاء. كل الشاشات مع “الثوار”. ولكن “الثوار” أنواع وأصناف وأزلام. شاشة تدافع عن زعيم وأخرى تصمت عن مرتكب، ونادراً ما يتم التشهير بمرتكب. الأهم. أن الشاشات لم تتوقف أبداً عن استضافة عشيرة أو عشائر المرتكبين وزبانيتهم وكتّابهم. لا أحد مع الناس إلا قليلاً. سقط لبنان سقوطه الأخير. كل شاشة اتهمت خصمها الطائفي والسياسي بارتكاب الكارثة. فهناك من يسمي بري وهناك من يبرئه. حاكم مصرف لبنان لا يظهر على الشاشات المحلية. الكذب على الشاشات العربية والأجنبية، تنقذه من اللعنات. ثم لا ننسى. إنه محظي ومدعوم من مرجعيات دينية ومذهبية مختلفة، ومدعوم من شاشات تعرف أن تاريخها يحمل بصمات وعطاءات مصرفية سخية. ثم لا ننسى، أن الدول القريبة المهتمة “بإنقاذ لبنان” من طبقته، تدعم الزعيم المالي لهذه الطبقة. فهو مقدس أميركياً وفرنسياً، وعلينا أن نبخره صبحاً ومساءً. ولولاه، لكان لبنان قد أفلس.

سؤال: وهل لبنان غير مفلس الآن؟ وهل ملائكة السماء وملائكة الفقراء، هم السبب في سرقة الأموال وإهدارها.

كيف تطيقون أيها اللبنانيون هذا الإعتداء عليكم. إنتظروا العقوبات الأقسى. وحدكم تدفعون الثمن مما ارتكبوه: ذلاً في طوابير البنزين. موتاً بحثاً عن دواء. فاقة تبحث عن رغيف… نحن في الدرك الأسفل. الذي لا أسفل تحته، ومع ذلك، نحن منقسمون، بإستثناء قلّة فاضلة، حول من يتحمل مسؤولية الإنهيار؟ ومن كان وراء تفجير المرفأ.

أصدق الكثيرين من سلالة الرفض الجذري. أولئك الذين قطعوا بالموقف الحازم والحاسم والدائم، مع شياطين الطغمة ومن لف لفها، دينياً وسياسياً وعائلياً. إنهم أقوياء برغم ضعف الحشد. مبدئيون. ماضون إلى التغيير، ولو كان مستحيلاً. لبنان، يختلف عن كل البلدان. ‘نه يدافع طائفياً، جماعياً، ضد كل محاولة تغيير. التغيير الوحيد المقبل، هو رسملة الطائفية المفلسة، بصيغة جديدة، مضمونة خارجياً. لبنان الطائفي أبدي. لبنان العلماني، الديموقراطي، العادل، ال… هو من المستحيلات. اللبنان الوحيد المتاح، هو لبنان الطائفي جداً، والمدعوم دولياً وعربياً وقد يكون إلهياً… من يدري؟

حتى الآن، لم يكتمل نصاب التغيير. المجموعات المؤتلفة بصعوبة، ليست بسوية تحقيق التغيير وإن كان ممكناً هذا التغيير، فكيف؟

يعول البعض الكثير من “الثوار” (والمزدوجان مقصودان) على الإنتخابات المقبلة. مساكين. ألم يقرأوا القانون الإنتخابي الفائت. لا قانون سواه أبداً. إستبداله يحتاج إلى عقود، وصدّقونا سيكون أسوأ. كل قوانين الإنتخاب التي عرفها لبنان، إنتقلت من سيء إلى أسوأ. الحالي، هو الأسوأ بين القوانين السالفة…

ثم… لنفترض أن الإنتخابات قد أجريت في مواعيدها. وهذا غير مرجح، هل تتصورون الجبل (الشوف وعاليه) من دون وليد جنبلاط؟ هل تتوقعون غير “الثنائي الشيعي” الكاسح في الجنوب والبقاع؟ هل تتصورون أن يعاقب السنّة وحدهم زعيمهم سعد الحريري أم سيكافئونه لمعاركه المتأخرة ضد ميشال عون وجبران باسيل. وهي معارك بالصوت والصورة والمذهب والمرجعيات؟ هل تتصورون أن الموارنة سيعاقبون عون ومن معه، عقوبة مؤلمة. أكثريته قد تهتز ولكنها باقية. هل فريق القوات اللبنانية سيضعف أم سيقوى، وإن قوي، فهل هو مع تطييف النظام المدني العالماني، ووقف المعارك الإقليمية في الساحة اللبنانية التي تستوعب كل الصراعات الإقليمية بفذاذة نادرة وأصيلة ومزمنة. “طول عمرو” لبنان ملعب تسدد فيه الأهداف في شباك المتصارعين على أرضه؟

قانون الإنتخابات هذا، سيعيد إنتاج هذه الكارثة. سيعودون، كما كانوا وأسوأ… لست يائساً أبدياً. أعترف ببعض الخروقات المدنية والعلمانية. لكن السدّ الطائفي المنيع، يحتاج إلى ما لا أجرؤ على كتابته أبداً.

يا أصدقاءنا الذين انشغلوا بجنس الملائكة السياسي. أيها الأصدقاء الذين يختلفون على الجملة والفاصلة… رجاءً ردوا على علامة الإستفهام التالية:

“ماذا أنتم فاعلون معاً… أردد: معاً”.

حتى الآن لا شيء.

بإنتظار ما سيحدث أو لا يحدث، الموت يقرع الأبواب. الجوع أقام داخل الأبواب. اليأس يبَّس القلوب. لا أمل البتة. إلا بإعادة إستيلاد هذا اللبنان، بعد فوات الأوان.

لبنان باق؟ لا أشك في ذلك. سيبقى عذابنا الدائم. هل نحن باقون؟

أشك في ذلك.

Exit mobile version