الشيء بالشيء يذكر. كثُرَ الحديث مؤخراً عن نكبة فلسطينية جديدة. وتحدث كثيرون عن ان الاحتلال يرمي إلى تهجير الفلسطينيين إلى سيناء أو طردهم من غزة.
واقعياً، حاول الإحتلال الإسرائيلي على مدى تاريخه السياسي والعسكري طرد الفلسطينيين من غزة. الكل يتذكر المشروع الأميركي ـ الاسرائيلي في الخمسينيات الماضية لتوطين الفلسطينيين في سيناء. وربما أن البعض يعرف عن مخطط الإحتلال بعد العام 1967 لإفراغ القطاع من ساكنيه أو على الأقل من جزء كبير منهم بتسهيل هجرتهم إلى أميركا اللاتينية أو إلى الضفة الغربية.
وكان الإحتلال قد أدرك أن مساعيه لإفراغ القطاع قد باءت بالفشل برغم الأموال الكثيرة التي رُصِدت والدعم الدبلوماسي من دول كثيرة لتسهيل هذه الهجرة. ومع ازدياد المقاومة وتعاظم الخطر الديموغرافي من غزة أكثر من سواها، قرّر الإحتلال الإنسحاب من طرف واحد. كان واضحاً أن مطامعه في غزة باتت تواجه مصاعب شتى. صار قادة الكيان يتحدثون سواء بعد اتفاق أوسلو أو بعد الإنسحاب من القطاع عن أن الخروج من غزة يعني الإبتعاد عن مشاكلها وواقعها المؤلم.. والمعروف أن قطاع غزة حسب التسمية المعمول بها حالياً لم يكن يقطنه قبل النكبة عام 1948 أكثر من 100 ألف نسمة وقد جلبت له النكبة 200 ألف آخرين تقريباً. كما أن عدد سكان القطاع حتى العام 1967 كان يُقدّر بنحو 350 ألف نسمة.
اليوم يطلب الإحتلال من حوالي مليون و400 ألف فلسطيني مغادرة غزة وشمالها إلى جنوب القطاع. وهذا عدد يزيد أضعافاً كثيرة عن أعداد من هُجروا من مدنهم وقراهم إلى غزة في عام النكبة. ولذلك، يُحذّر كثيرون من النكبة الجديدة. ومعروف أنه مثلما خرجت مظاهرات في الخمسينيات ضد مشروع التوطين وسقط فيها شهداء، تخرج اليوم مظاهرات مماثلة في مخيمات شمال القطاع والعديد من أحيائه ترفض التهجير الجديد.
ولا ريب أن الفارق هائل بين الفلسطيني في غزة الآن والفلسطيني الذي كان في غزة أو هاجر إليها عام 1948. فالفلسطيني اليوم صاحب تجربة أكبر لجوء في التاريخ منذ حوالي الـ75 سنة ويعي واجب أن لا تتكرر النكبة. والفلسطيني الآن أشد وعياً ليس فقط من الناحية التعليمية والثقافية والسياسية من أهله في العام 1948 وإنما أيضاً ـ وهذا مهم ـ بات أكثر إدراكاً للواقع العربي الرسمي على الأقل. وربما لا شيء أشد إيلاماً على الفلسطيني من سماع أخوة له عن جهل أو عن أغراض يتهمونه بأنه باع أرضه.
ويحضرني في حالي هذا واقع ما جرى لعائلتي قبل أن أولد. فقد كان والدي شيخاً أزهرياً وتاجراً يدير مطحنة قمح لأسدود وجوارها. وما سمعته من أهلي أنه بعد وصول الجيش المصري إلى أسدود، وهي أبعد نقطة وصل اليها شمالاً، تزايدت الهجمات الصهيونية على البلدة. وكانت قد بدأت عمليات طرد السكان من القرى شمال أسدود وشرقها. ومع تزايد الضغط، إضطر جزء من الأهالي للرحيل إلى المجدل المجاورة. ومن بين من رحلوا في تلك الرحلة كانت جدتي وعمي وزوجته. بقي والدي ووالدتي وإثنان من إخوتي، وهما أكبر مني، وأختى الكبرى أيضاً في أسدود. وما عرفته وسمعته لاحقاً أن بيت والدي تحوّل إلى ملجأ لبعض القادمين من يبنا وبرقة وبيت دراس.
بعد ذلك، وفي صبيحة يوم هادئ، طلب المحتلون من سكان البلدة الباقين في بيوتهم التجمع وسط القرية. وبعدها جرى تصنيفهم وتم أسر الشباب بينهم ومنهم أخي الأكبر الذي ربما كان في السادسة عشرة من عمره. نقلوا الأسرى أو من بقي منهم على قيد الحياة إلى معسكر عتليت قرب حيفا. وقامت شاحنات وباصات بإلقاء باقي السكان على حدود المجدل حيث لم تكن المجدل محتلة وقتها.
هنا بدأت رحلة النكبة لعائلتي حيث التقى والدي بأخته وأمه في المجدل واتجهوا بعدها إلى غزة. وهذه قصة تشبه قصص عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين ليس في غزة وإنما في كل مكان وصل إليه اللاجئون.
يُذكر أن غزة كانت أرضاً جرداء وفقيرة برغم أنها أرض عز وكرامة وكرم. ووجد أهلي ملاذاً في بيت عائلة قطيفان في الشجاعية. وربما أنه بسبب وضع والدي المرتاح نسبياً من الناحية المادية لم يتشرد أهلى في الشوارع والبساتين. وظلوا في مدينة غزة. لكن مع مرور الوقت وازدياد الحاجة، اضطر والدي للذهاب مع عم آخر لي ومعه ابنه الذي كان في الثانية عشرة من عمره للتسلل خلسة إلى أسدود في مغامرة حياة أو موت لجلب بعض مخزون القمح والبحث عن مال كان أخفاه وقت احتلال البلدة.
باختصار، واجهنا في السنة الأولى للجوء ظروفاً غير إنسانية إلى حد بعيد. لقد لاحق القتل اللاجئين حتى في داخل غزة ما اضطر كثيرين منهم إلى مواصلة المسير واختراق الحدود المصرية حتى القنطرة عند قناة السويس. هناك جرى في البداية تجميع اللاجئين في معسكر أولي ولكن ما أن تزايد عددهم حتى قامت مصر بإرجاعهم إلى حدود رفح، وهذا يُفسر أن معسكر رفح كان من أكبر معسكرات اللاجئين في القطاع حتى العام 1967.