طلال سلمان

هــــــــــــوامـش

I ـ عن مخاطر «اللبننة» على الانتفاضات العربية…
عادت كلمات مثل «الثورة» و«الانتفاضة» و«الشعب يريد» إلى لغتنا اليومية على مستوى الوطن العربي جميعاً، بعدما نفضت عنها الجماهير أثقال الأنظمة والمنظمات التابعة أو المناهضة لها.
كان الإفراط في استخدام هذه الكلمات في غير موقعها قد أساء إليها فذهب بخطورة دلالاتها واتصالها المباشر بالإرادة الشعبية وبمشروع استنقاذ الوطن والأمة من الطغيان وما ينتج عنه من فساد وإفساد وتدمير للقيم وتشويه للمجتمعات وتحقير لكرامة الإنسان.
لقد شهدت بلادنا العربية في العقدين الماضيين أنماطاً من الدكتاتوريات المتوحشة التي مزّقت وحدة المجتمعات وأهانت كرامة الإنسان وشطبت إرادته وسخرته لما يتناقض مع قيمه.
الأخطر أن تلك الدكتاتورية قد تحكمت فشوّهت المفاهيم وحقّرت المبادئ، وتعاملت مع الشعب كقطيع من الرعايا الذين لا يحق لهم أن يكون لهم رأي أو موقف لا في ما يعني مجموعهم، ولا بالطبع في ما يعني «الفرد» منهم الذي حّرم من أن يكون مواطناً له حقوقه الطبيعية وله رأيه في النظام الذي يحكمه فيتحكّم حتى في خبزه ويحقّره ويلغيه تماماً مدعياً أنه هو «الشعب جميعاً»، برجاله ونسائه وأطفاله، بنخبه وعامته، بفئاته المختلفة اجتماعياً وفكرياً وسياسياً.
على أن لبنان الذي ينفرد بنظام ليس كمثله نظام في هذا الكون قد أنجب بدل الثورة ثورات… لأن هذا النظام المصنوع على الطلب يلغي «الشعب» ويتعامل مع «الجماعات البشرية» التي يتحكّم فيها بوصفها رعايا للطوائف التي ابتدع على مقاس مصالح الدول التي اخترعته، عندما أسبغت كل واحدة من الدول العظمى أو الكبرى أو ذات النفوذ والتأثير حمايتها على واحدة من الطوائف، فصارت «الوحدة الوطنية» تحتاج إلى مؤتمر دولي، وقد تمر بمجلس الأمن وبالجمعية العامة للأمم المتحدة وما اشتق منها من هيئات ومنظمات ثقافية وصحية وصولاً إلى منظمة غوث اللاجئين.
…ولأن الثورة تتحول إلى امتياز طائفي تتعدد الثورات بعدد الطوائف، بما يحوّلها، فوراً، إلى مشروع حرب أهلية ينتظر تفجير صاعقها.
طبيعي، إذاً، أن يكون لكل فئة كتاب تاريخ خاص بها، وأن تحتفل كل «ثورة ـ حرب أهلية» بانتصارها على «أعدائها» من أهل «الثورات ـ الحروب الأهلية» الاخرى.
كيف يمكن، والحالة هذه، أن يدرس أبناء الحروب الأهلية المتعددة الهدف في كتاب تاريخ واحد، ما دام كل انتصار لطائفة يمثل في وجهه الآخر هزيمة للطائفة ـ الطوائف الاخرى والعكس بالعكس؟!
… لا سيما أن الغرور اللبناني يصوّر لكل طائفة أنها هي المنتصرة ولو مهزومة، وأن «قيمها» هي السائدة ولو نقصت أو فاضت حصتها في السلطة؟!
أخطر ما يتهدد الانتفاضات العربية في الأقطار التي وقعت فيها أن بعض «الفئات» أو «القوى السياسية» الآتية من الماضي، تحاول أن تفرض شعاراتها الفئوية بتطبيقاتها العملية على مجتمعاتها بحيث تتسبب في انقسامها عمودياً، مما يأخذ إلى النموذج اللبناني الذي يراه الخارج باهراً في حين أن «الداخل» يشهد على إلغاء الشعب كوحدة اجتماعية موحدة في مفهومها للوطن ومن ثم الدولة التي تكون بالجميع وللجميع أو لا تكون أبداً.
من المبكر أن نفرح بهذه الانتفاضات المزروعة طريقها إلى الاكتمال كثورة بالألغام…
مع ذلك سنظل على أملنا بأن الثورة آتية من قلب الاستحالة.

II ـ جورج الراسي يستعيد كتاباته قبل “المنفى” وفيه…
ما زالت تجربة مجلة “البلاغ”، التي كان صدورها حدثاً صحافياً مهماً في بيروت في العام 1972، تحتل مكانها في ذاكرتي مع أنها لم تعمّر أكثر من أربع سنوات، ثم أغلقها من أطلقها، غسان شرارة، وهي في شرخ شبابها.
وحيث ذهب غسان كانت تطارده الأسئلة: لماذا أوقفتها وتخليت عن مشروع ناجح فكان يجيب بصمته العميق، فإن ألحّ عليه “الفضوليون” كان يترك الكلام لشقيقه عدنان الذي يندفع إلى تلخيص الموقف ببضعة أبيات من شعر أبيه موسى الزين شرارة.
بين كتّاب “البلاغ” الذين تابعت نتاجهم جورج الراسي الذي هجّرته الحرب الأهلية من بيروت إلى باريس حيث عمل في “المركز العربي للتوثيق والإعلام”، كما في مجلة “الحوار الدولي”… مع ما يشبه التخصص في المسألة الجزائرية. وهكذا استغنى عن الصحافة، إلى حد كبير، ليتولى الاهتمام بالوثائق، ومنها أنتج كتباً عدة بينها: “لبنانيات”، و”لبنان في وثائق الخارجية الفرنسية”، وبعدها اندفع إلى الكتابة عن الجزائر التي عرفها جيداً فأنتج “الدين والدولة في الجزائر” ونال عنها أرفع جائزة: الزواج من الروائية المميزة أحلام مستغانمي.
ولعله بعد الزواج قد دخل في مباراة في الإنتاج مع أحلام، فأصدر “من أوراق الغربة” ثم “عربيات مطلع القرن ـ المغرب العربي على مشارف الألفية الثالثة”.
قبل فترة دخل عليّ جورج الراسي مكتبي وهو يحمل معظم نتاجه الأدبي… ولقد شغفت بكتاباته في مجلة “البلاغ” وقد جمعها في كتاب يحمل عنواناً عاماً “أدبيات ـ رحلة في عالم السبعينيات”، وهكذا اندفعت أقرأ وأستعيد ذكريات تلك الرحلة التي لا يمكن أحداً ممن عاشوها أن ينسى غناها ثقافياً وسياسياً، قبل أن يتفجر لبنان بالحرب الأهلية ويغادره الكثير من كتابه وأدبائه وصحافييه، لتكتمل الهجرة، تقريباً، بعد الاجتياح الإسرائيلي 1982 الذي وصل إلى بيروت التي “احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء”، كما كان عنوان “السفير” لتلخيص الدلالة السياسية لوقائع القصف الرهيب الذي امتد يوماً كاملاً (5 آب 1982).
الكتاب أقرب إلى المجلد (585 صفحة)، وهو يتضمن محاورات مع معظم الروائيين والشعراء وسيَر عدد من الأدباء المميّزين، وضمنه ملحق عن وقائع أول ملتقى للشعر الحديث الذي انعقد في النادي الثقافي العربي في بيروت 1970.
تشمل محاورات جورج الراسي العديد من الأدباء الذين تركوا بصمتهم على الحياة الثقافية العربية (من دون أحلام مستغانمي بالطبع الذي يتخذ الحوار معها سياقاً آخر)…
من الطاهر وطار الذي يحتل مكانة خاصة في الأدب الجزائري، وهو الذي ورث تعاليم ابن باريس العربية اختار جورج رواية “اللاز” وهي التي تعيد صياغة أحداث تلك الثورة التي امتدت لسبع سنوات صياغة جديدة… إلى غالب هلسا وروايته “الخماسين” التي هاجر إليها من الشعر.. ثم “بيروت كما تراها غادة السمان”، وبعدها “سهيل إدريس يخرج إلى العراء”، ثم محمد علي شمس الدين في دواوينه “قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا” فديزي الأمير: “المرأة التعيسة في البيت العربي السعيد”.
ولقد جاء جورج بصفحات لم تنشر من أدب أمين الريحاني، وهي عبارة عن ستمئة رسالة حب لشارلوت وبرتا، وقد تخلّى عنهما لأن “القومية العربية نادتني”.
استكتب جورج الراسي ميخائيل نعيمة كلمة عن الجزائر البطلة “من الاستغلال إلى الاستقلال”، وحاول أن يجعل من كتابه “ذاكرة لجيل قصفته الحرب ولن يستعيد توازنه إن هو لم يستعد ذاكرته… فإذا لم تنظر إلى الوراء لن ترى شيئاً أمامك”.
هي رحلة في عالم السبعينيات، “ومحاولة لإحياء حقبة ربما كانت قصيرة زمنياً ولكنها شكلت ذروة لا ننفك نبتعد عنها بدل أن نقترب”… ثم هي أيضاً بعض السجالات الأدبية التي أصبحنا نفتقدها من حيث المستوى ومن حيث الإثارة، واللقاءات الأدبية والفكرية التي كانت تجمع عشرات المبدعين من شتى الأقطار العربية.
يتوقف جورج الراسي طويلاً في كتاباته في “البلاغ” أمام حنا مينا مركّزاً على روايته “الياطر”: “أنا زكريا المرسنلي، رابط الحوت في الماء، الراقص على ظهره في الماء، الذي تحدثت اسكندرونة كلها عن فعلته ونشرت جريدة “اللواء” صورته مع الحوت… زكريا الذي كان صديقه الوحيد البحر والذي تمنى لو يدخل الله جميع الخمارين إلى الجنة ويدخله هو إلى جهنم كفارة عنهم… ولكن بين الزوجة والعشيقة يتحول رابط الحوت إلى مجرد عاشق رعديد يهوي أمام ابتسامة ويستسلم لأول رعشة… فشكيبة زهرته البرية تتعرّى على الشاطئ وتخرج من الغابة وليست جنية تخرج من البحر”.
مسكين حنا مينا. لقد أفنى نصف عمره يحاول تثبيت صورة لبلاده التي لم تعد بلاده، لأن الصفقات السياسية أخذتها منه، وتركت له ذكريات “اللواء السليب” التي تذكّرك برواية “الأيام” لطه حسين.
آخر ما أنتج جورج الراسي “من أوراق الغربة” وهي كتابات عن الثورة العربية ـ الربيع العربي ـ الديموقراطية العربية… إذ هو يرى في هذه الثورة التي لا نظير لها عودة العرب إلى التاريخ والجغرافيا، إذ عادوا على صهوة جيل شاب لم يفته شيء من كل ما أنجبه العلم لفكر مستنير وانفتاح على العالم”.
هل يخلط جورج بين أمنياته للأجيال الآتية وبين خيبات تجربة جيله الذي افترض أنه ساهم في الثورة لأقدس قضية في التاريخ الإنساني ثم انتهى إلى التشرّد في دنيا أحلامه أو إلى “الانتحار في يأسه وانصرافه عن العمل السياسي كله؟! على أن الأكيد هو أننا نشهد فجر تاريخ جديد، ولعل الجيل السابق يحاول أن يكون شهيده الأول ليمكنه الادعاء أنه فيه وليس خارجه.

III ـ “أوراق امرأة” مشروع قصيدة مقطّعة في رواية…
تباشر عزة الحسيني روايتها “أوراق امرأة” كحكاية، لكن الشعر يسحبها إلى أفيائه، ربما بفعل الوراثة، أو لأنها تجد فيه ملاذاً أرحب: “لا أعلم هل انتهيت منك وأنا العائدة إليك، أم انتهيت منك على مسرح الحياة لأبدأ معك بداية جديدة لا يحكمها جموحك وانحسارك… لا يحدّها زمانك الذي صنعته على مقاسك أنت…”.
لذلك تبدو الرواية وكأنها كُتبت بلغتين، ويضعف السياق متى غاب الوجع الذي يتقطّر شعراً. وحين تهرب من ذاتها إلى علاقاتها مع أسرتها ومع صديقاتها يسقط السرد في العادية، لذلك تتفاوت حماستك للرواية بحسب لغة فصولها.
في حكايات الصديقات التي تتداخل فيها المأساة والكوميديا، كما في الرحلات إلى الضيعة للقاء الأم والإخوة، يختفي البريق، ثم يعود معها في طريق العودة إلى بيروت… وكذلك الأمر عندما تروي الرحلة إلى اليونان ثم السفر إلى بعض المدن الأميركية حيث يكثر اللبنانيون، وترى نفسها تسرد منقطعة عن السياق الشعري، فالهاتف وحده لا يكفي لتحمل أثقال الشعر.
“ظننت بأني آخر من أحببت، وعرفتَ بأنك أول من أحببتُ… علّمتني كيف أكون معك عابرة، عبور اللحظة، ودائمة ديمومة الأبدية. كنت تسميه “وداً” وكنت تعلم كم تضايقني تلك التسمية وإن لم تنتقص من جنوني بك…”.
يستحيل اختصار الرواية في سطور خصوصاً متى كانت مثقلة بالإيحاءات والإيماءات، ومقطّعة بحكايات الزميلات والأسفار… لكنها سرعان ما تستعيد لغتها وتسرد بصراحة وبصدق وبحرارة قصة حبها المبتورة:
“في كل مرة كنت أشعر أنك تخبّئ امرأة ما تحت ذراعيك أو في معطفك كي لا تتسرب من جلدك أو صوتك أمامي. في كل يوم كنت أنهي علاقتي بك وأبدأها من جديد”.
“… قيل إن تتدثر بحزن امرأة تعلم كيف تمشي حافي القدمين وأنت تطل على شباك صمتها الطويل. تعلم كيف تلتقط اللهب بأصابع لا ترتجف أبداً تحت وطأة الألم”.
وحين اتخذت قرارها بقبول المنحة للدراسة كان التبرير جاهزاً:
“من أحب أكثر فليغادر أولاً، ومن حلم كثيراً فليأخذ انكساراته معه ويمضي من دون أن يلتفت إلى الوراء فقدر المهاجر ألاّ يحمل ذاكرته معه”.
عزة الحسيني تعرف أن روايتها تتمايز فصولاً، فحين تكون “هي” بتمامها تطلق سراح لغتها الذاتية التي تقارب ريشة رسام مرهف الإحساس، وهي تكون الراوية التي تسرد حكايات أخرى تفترض أنها تخدم السياق تتبدى كأنها كاتبة تحاول إنجاز موضوع إنشاء يصلح كرابط بين “قصائدها”.
“قالت: الحب الذي يرى النور مصيره الاحتراق. وردّ: من قال إن الحب الذي يرى النور ليس مصيره الاحتراق. أفضّل ألف مرة أن أموت احتراقا على أن أحيا اختناقاً”..
لكن عزة الحسيني “ليست طائراً أضاع اتجاهه وما زال يرسم في الفراغ طيرانه، يحلم ويحلم أنّى يرمي من دائرة الضوء أقماره”…
لقد بدأت ذات يوم بعيد الكتابة، ولكنها خافت من الصفحات التي ملأتها بذاتها، بعواطفها، أو ربما بغضبها وأحياناً بالخيبة… لكن المهم أن تتخطى هذا الحاجز النفسي وأن تواصل الكتابة حتى تنهي روايتها التي لم تكتبها بعد.

IV ـ من أقوال نسمة
قال لي “نسمة” الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ ليس للحب عمر. الحب هو العمر.
لي صديق يروي أن عمره لا يزيد عن سنة عاشها حباً. وهو يقول: أنا أعظم غنى من كهول شابوا قبل أن يعرفوا الحب، وهم يحاولون الآن أن يتعلّموا أبجديته.

Exit mobile version