طلال سلمان

هراوي مرتاح موقعون متعبون

المرارة فصيحة اللسان، لكن الموقف الخاطئ هو الفضيحة، والحقيقة لا تموت مهما تراكمت لطمسها شهادات الزور.
لذا يستطيع الياس الهراوي، بغير مجهود كبير، أن يخرج على »المهرولين« شاهرù سيف موقفه، بل ومتباهيù بأنه أكثر ارتياحù منهم.
إنه يتمتع بموقع قوة استثنائي يستمده من وهج المقاومة والدم الذي يرشق به اللبنانيون جنود الاحتلال الإسرائيلي في جبل عامل والبقاع الغربي، فيحطمون أسطورتهم ويجعلون من وجودهم فوق أرضنا مشكلة داخلية لإسرائيل،
ثم إنه ما يزال يملك قراره، فلم يوقع مثلهم على اتفاقات لا تنفذ ليبدأ بعد ذلك التفاوض المذل، والذي لا بد من أن ينتهي بالتسليم بشروط المشروع الاسرائيلي وأحلام الهيمنة على المنطقة برمتها،
وأخيرù فهو ما يزال متحصنù بآخر قلاع التضامن العربي عبر التزامه »بتلازم المسارين اللبناني والسوري في عملية المفاوضات، انتصارù للكرامة العربية ولحقنا المقدس«…
أكثر من هذا: يستطيع الياس الهراوي، رئيس البلد الصغير الخارج من حروبه الطويلة منهكù مدمر المرافق مشتّت الخواطر والإمكانات، أن يتحدث عن الغد بثقة لا يملكها لا الملك حسين ولا ياسر عرفات ولا حتى حسني مبارك، خصوصù إذا ما أخذت في الاعتبار التداعيات المنطقية للحدث الإسرائيلي الجلل (اغتيال رابين) واحتياج خليفته شمعون بيريز إلى إنجاز قد تكون إسرائيل مضطرة لدفع ثمنه من أجل استعادة وحدتها الداخلية التي تكشَّف للعالم مدى هشاشتها ودموية المخاطر التي تتهددها.
»نحن نريد السلام المشرف. نحن مع السلام العادل والشامل. ولسنا نحن مَن يؤخر إقرار هذا السلام، ولو أن الذين هرولوا إليه ليسوا اليوم أكثر ارتياحù منا..
».. وهنا ننادي الأشقاء إلى التضامن معنا. أين المدافعون عن القدس؟ وأين الموقف العربي الموحد من المقدسات المسيحية والإسلامية؟«.
من حق الرئيس اللبناني أن يفترض أنه يحمي عروبة القدس والمقدسات عمومù بصموده، ولا يحمي فقط حقه في أرضه. فبرغم تعدد الاتفاقات المنفردة تبقى القضية واحدة و»العدو« فيها واحدù، حتى لو أسقط الموقعون عن إسرائيل هذه »الصفة« ليجعلوها الشريك بل الحليف وربما »قائد المرحلة الجديدة«.
لقد ثبت (شرعù) في لبنان أن مقاومة الاحتلال بالموقف، ومن ضمنه السلاح، عنصر توحيد للبنانيين، بينما أثبتت تجارب الآخرين ممَّن خرجوا على التضامن وانفردوا ففرّطوا أن التواقيع المجانية قد هزت الوحدة الوطنية في أقطارهم بغير أن تعجل في استعادة الأرض، بل هي في الغالب الأعم قد رهنت إضافة إلى الأرض الإرادة وما تملك البلاد من موارد ومن طموحات وأحلام وحق مشروع في غد أفضل.
إن بيع الشقيق إلى »العدو« لا يحمل الخير إلى البائع،
تمامù كما أن تفويض أمر المصير إلى »العدو« لا ينتج الاطمئنان على المستقبل،
والسلام الحقيقي لا يمكن أن يفرض أو يستوجب كل هذه التقديمات أو الرشى التي يعوِّض بها بعض العرب إسرائيل عن احتلالها أراضيهم،
وبمعنى ما، فإن الياس الهراوي أكثر واقعية، أو أكثر دقة في قراءة التحولات السياسية، وبالاتكاء إلى التجربة السورية الغنية، من كثير من الملوك والرؤساء وشيوخ الغاز الذي هرولوا فسلموا مصيرهم إلى الاسرائيليين بذريعة الواقعية وبُعد النظر واستباق التطورات حتى لا يفوتهم… قطار الازدهار والاستقرار الآتي من تل أبيب!
وهي براعة من الياس الهراوي أن يستثمر هذه النقطة المضيئة وأن يتقوّى بها لإضفاء قدر من المصداقية حول السياسة الداخلية التي يشتد الجدل حولها، يستوي في ذلك تبرير التمديد أو مشاريع التقسيمات الإدارية وقانون الانتخاب والأداء الحكومي وكفاءة الادارة والخطط المرتجلة لاستعادة النعيم اللبناني ودوره الذي ضيَّعته الأيام والغفلة الرسمية عن حمايته على امتداد السنوات العشرين الماضية.
أما ما تبقى من »رسالة الاستقلال« التي وجهها رئيس الجمهورية مساء أمس، فهو يحتاج الى كثير من التدقيق والتمحيص، لا سيما ما يتصل بالتركيز الاستثنائي على »دورنا المصرفي وتطوير خدماتنا المصرفية«، بينما غابت أية إشارة إلى الزراعة والصناعة وسائر مجالات الإنتاج.
وضروري أن تكون المصارف في لبنان الأولى في المنطقة، لكن »المنافسة« مع إسرائيل بعد أن يتحقق وعد السلام الصعب أكثر تعقيدù، وأوسع نطاقù من القطاع المصرفي.
إن حرب السلام تحتاج استنفارù للطاقات جميعù، وتستوجب أن يكون كل مواطن منتجù ومتميزù إذا أمكن، في مجاله، وإلا فلن تجد المصارف »زبائن«، أي »ودائع« تؤهلها إلى الدور الريادي الذي يطالبها به رئيس الجمهورية التي تتزايد ديونها بنسبة طردية مع تناقص عدد المنتجين فيها.

Exit mobile version