دولة الرئيس، أصحاب المعالي والسعادة، صاحبة الجلالة “السفير”. أيها الحفل الكريم،
اسمه طلال سلمان، وهو “الأستاذ” في الصحافة وفي غير الصحافة مما يرافقها من متاعب وأحلام ونضالات وتضحيات.
هو “الأستاذ” في معركة الكلمة الحرة لأجيال من الصحافيين والكتّاب والفنانين والمبدعين الذين تركوا بصمات في تاريخ “السفير” وفي تاريخ الوطن.
هو “الأستاذ” أيضاً في الأيمان الذي لا يتزعزع بمجد العرب والعروبة، وبقدرتنا على استنهاض القوى والطاقات لأسترجاع هذا المجد، وقبلته التي لم تتغيّر أو تتبدّل على مرّ العقود اسمها جمال عبد الناصر، زعيم الحلم العربي في هذا العصر والذي لم يغب اسمه يوماً عن “السفير”.
هو “الأستاذ” في عدم تضييع البوصلة رغم الأزمنة الرديئة، ورغم الأخطار التي تعرّضت لها “السفير”، بل رغم الأيادي السود التي خططت لتصفيته جسدياً أواسط الثمانينات، ونجا، بحمد الله، مع أوسمة شراف على شكل ندوب وجراح في الجسد وفي الروح.
بوصلته كانت واستمرت، قضية العرب الأولى والحقيقية، وهي تحرير فلسطين ومقاومة العدو الصهيوني ومواجهة كل أشكال الصلح والتطبيع، فهنا أولوية الأولويات التي لا يجوز أن تحجبها أولويات مفتعلة تهدف الى نشر الفرقة والأنقسامات بين الفلسطينيين أنفسهم، وبين العرب والفلسطينيين، وبين العرب والعرب، وحتى بين أبناء الأقطار العربية، قطراً قطراً، وبلداً بلداً، والتي غرقت جميعها تقريباً في فاجعة الحروب الأهلية العبثية.
هو “الأستاذ” في الوطنية اللبنانية الصافية المنفتحة العصرية الناجية من أدران الطائفية والمذهبية والمناطقية، وهذه الوطنية الصادقة دفعته للتموضع في المواقع الصحيحة، ضد التقسيم وضد مشاريع الفدرلة وضد الأتفاقات المشبوهة مع العدو، وضد التمييز بين اللبنانيين، وضد النظام الطائفي البائس الذي تحول من صيغة ميثاقية للعيش المشترك الى ما يشبه الوصفة الجهنمية الفعّالة للموت المشترك. هذا هو طلال سلمان، وهذه هي “سفيره” وأهلها وأسرتها الذين ينتمون الى كل لبنان وكل المناطق والطوائف، بل والى كل الوطن العربي. وها نحن اليوم، سواء كنا من محبي طلال سلمان أو من المختلفين معه في السياسة، نعلم علم اليقين أن هذه القامة اللبنانية لا يمكن تأطيرها ضمن منطقة أو طائفة أو حزب، انه رجل من كل الطوائف، من كل المناطق، ومن كل الأحزاب. طلال سلمان، بيروتي في صموده، وطرابلسي في قوميته، وجنوبي في مقاومته، وبقاعي في نضاله، وكسرواني وزحلاوي وزغرتاوي في لبنانيته وفي حمله هموم وقضايا الأنسان في لبنان. وهو في كل ذلك كان يمارس قناعات وخيارات، وقد شاء القدر أن تكون أصعب القناعات والخيارات وأصفاها، ومن يقبض عليها في وجدانه كالقابض على الجمر في يديه”.
حين ولدت “السفير” عام 1974 لم أكن بعد من قراء الجرائد، لكنني ما لبثت مع الوعي الأول للسياسة في زمن الحروب المفجعة التي شهدها لبنان، ما لبثت أن أصبحت من نادي “صوت الذين لا صوت لهم”، ولم يطل الوقت حتى أدركت أن هذه “السفير” ليست صحيفة يومية ناجحة ورصينة وحسب، بل هي تحمل مشروع وحدة لبنان ومشروع تحرير فلسطين ومشروع وحدة الموقف العربي، وهذه المشاريع ليست أسيرة اتجاهات فكرية محددة، بل هي تتسع لكل تنويعات اليسار اللبناني والعربي، كما لا تغلق صفحاتها أمام كل اليمين المتنوّر في لبنان والوطن العربي.
في تاريخ “السفير” أيام مجد قد يتجاوز عددها الآلاف الى عشرات الآلاف، لكنني سأكتفي بيومين من هذه الأيام، الأول هو الخامس من آب عام 1982، حين اتخذ أهل “السفير” قرار الصمود في مكاتبهم والأصرار على اصدار جريدتهم في الوقت الذي توقفت فيه كل الصحف اللبنانية عن الصدور.
انها أيام الاجتياح الاسرائيلي للبنان، ومحاصرة وقصف بيروت ومن ثم الدخول اليها قبل أن يفرّوا منها مذعورين مع انطلاق المقاومة اللبنانية التي استهلها الشهيد البطل خالد علوان في عمق شارع الحمراء.
في الخامس من آب، وبعد ليل من القصف الهمجي لبيروت، بمعدّل أربعين قذيفة في الدقيقة، بزنة طن للواحدة، وبعد منشورات ألقتها طائرات العدو تهدد فيها بقصف كل أبنية بيروت وتسمّي “السفير” بالأسم، صدرت “السفير” حاملة أشهر وأجمل “مانشيت” في تاريخها: “بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء”، وأشهر وأجمل اعتذار من الكبير ناجي العلي حين رفع حنظلة زهرة الى وجه بيروت المطلّ من فجوة الدمار مع عبارة: “صباح الخير يا بيروت”.
اليوم الثاني الذي لا يغيب عن وجدان كثيرين، منهم أنا، وأولهم كان الرئيس عمر كرامي، هو الثاني من حزيران عام 1987 مع “مانشيت” مقتضب من 3 كلمات فيها كل الدلالات على الحدث الجلل الذي أصاب لبنان، انه “مانشيت”: “رشيد كرامي شهيداً”.
كانت كلمات طلال سلمان في ذاك اليوم المشؤوم من تاريخ لبنان، مضمّخة بحزن لا عويل فيه، وبلوعة ليس أوان التعبير عنها بتدفقات عاطفية. كانت كلماته تختزن حجم الخطر الذي يهدد الوطن حين تختار اليد السوداء رشيد كرامي لتغتاله في واحدة من أشنع عمليات الأغتيال في تاريخ الحرب اللبنانية. كان طلال سلمان يدرك أننا لا نملك الوقت لكي نستسلم للحزن على الرشيد الكبير، وأن علينا أن نمنع اغتيال ما يمثلّه الرشيد الكبير، وأن لبنان الكيان والأستقلال والوحدة الوطنية والحوار والعيش الواحد، كل هذا اللبنان تعرّض لعملية اغتيال، وأن الوفاء لدماء رشيد كرامي يكون في مواجهة هذه الأقدار السوداء التي رسمها لنا ولبلدنا القتلة والمجرمون ممن خططوا ونفذّوا ويستعدون في تلك اللحظة لكي يستثمروا النتائج.
ثم، ومع توالي الأعوام وهي دنت نحو العام الثلاثين على استشهاد رشيد كرامي، كان الأول من حزيران من كل عام هو يوم رشيد كرامي في افتتاحية “السفير” وفي ضمير طلال سلمان، وبوسعي القول بكل ضمير مرتاح أن ما لم تقم به الدولة التي مات من أجلها رشيد كرامي، قام به طلال سلمان بأفضل وأصدق مما لو قامت به هذه الدولة الناكرة لدماء شهدائها الكبار”.
ان توقف “السفير” عن الصدور، أيا تكن أسبابه، هو مؤشر محزن للواقع المتراجع في لبنان وفي العالم العربي، وهو واقع لا ينحصر في ميدان الصحافة الورقية والأعلام عموماً، بل ينسحب على كل المشهد الثقافي والفني والأبداعي، وعلى نحو أدق هو واقع خانق قاهر للأصوات التي تحمل قضية النهضة العربية، وللفكر المستنير الذي يحرس مفاهيم الحوار والتلاقي وتجاوز الأختلافات الثانوية في سبيل القضية الأساسية، ولكن “لا تكرهوا شيئاً”، ولربما نحن بحاجة الى صدمات متلاحقة تشبه صدمة اغلاق “السفير” لكي نعيد فتح الأبواب والدروب الى المستقبل الذي نستحقه ويستحقه لبنان ويستحقه وطننا العربي.
وبالنسبة الى “السفير”، فهي لا يمكن أن تتوقف فعليا، اذ لديها أبناء وأحفاد وأجيال سيحملون الشعلة ويتابعون الطريق، وسيكون عميد “السفير” وقلمها ووجدانها طلال سلمان فخوراً ومتباهياً بالنبض الذي لا ينطفىء وبالماء الذي لا ينشف، وبسفرائه الكثر في عالم الصحافة والكتابة والأنتصار للمبادىء القومية وللثوابت الوطنية.
أيها العزيز الأستاذ طلال سلمان
اننا اذ نكرّمك في مدينتك طرابلس، انما نكرّم أنفسنا وقضايانا الواحدة ونضالاتنا الواحدة وتضحياتنا التي لن نفرّط بها مهما كانت الأثمان.
ومن طرابلس التي كانت وتبقى المدينة التي نستقي ونستشرف منها أحوال الأمة، أقول لك انها استراحة المحارب وحسب، وكل الساحات وكل المنابر ستكون بأنتظارك لأكمال المسيرة نحو الأحلام التي ستحققها الأجيال، عاجلا أو آجلا، فالأحلام العظيمة مثل المعادن النبيلة لا تشيب ولا تنهزم، وأحلامنا أحلام الزمن الذهب، فكل التحية لك أيها الرجل الآتي من الزمن الذهب”.
كلمة القيت في الاحتفال التكريمي الذي اقامه الوزير فيصل كرامي للاستاذ طلال سلمان في طرابلس