طلال سلمان

هذه الحيوية السياسية لماذا؟

من قبل ان تنتهي »فترة السماح« المألوفة مع قيام أي عهد جديد، دبت »حيوية« ملحوظة ذات نبرة نقدية في الجسم السياسي الذي بدا لفترة وكأنه »أُخذ على حين غرة« مع اختيار العماد اميل لحود رئيساً، فارتبك ثم استكان، رافعاً رايات الترحيب، حاجباً تحفظاته حتى لا يُحتسب في خانة الخصوم…
ومع أن هذا الجسم السياسي قد تلقى صدمة ثانية، وربما رآها البعض أقسى، بإنهيار المعادلة المفترضة بثنائية ممكنة بين اميل لحود رئيس الجمهورية ورفيق الحريري كرئيس لحكومة العهد الاولى، وما تلى ذلك الانهيار من اعتذار وربط نزاع، ثم بتكليف الدكتور سليم الحص واعلان حكومته بسرعة قياسية، إلا ان الجسم السياسي المدرّب والذي يعرف مصالحه جيداً فضّل الاستكانة مجدداً، او عدم الجهر بمعارضة قد تكون مبكرة، وقد يخسر فيها اطرافه اكثر مما يربحون.
ولقد بدأ العهد الجديد ورئيس الجمهورية يحاول استعادة مساحة كافية لحركته بشكل مستقل ومتمايز عن الحكومة التي كان شخص رئيسها في عهد سلفه الياس الهراوي هو الطاغي.
كان اميل لحود حريصاً في كل كلمة قالها، وفي كل تصرف أقدم عليه، على ان يؤكد انه سيكون رئيساً، وليس له في رئاسته شريك، وان مرجعه سيكون الدستور والقانون، وانه بالتالي لن يكون طرفاً في اي خصومة او نزاع او خلاف قد ينشأ بين السلطة التشريعية (ورئيس مجلس النواب تحديداً) وبين السلطة التنفيذية (ورئيس الحكومة تحديداً، خصوصاً يوم كان التقدير ان الحريري سيكون رئيسها).
اليوم وبعد التجربة العملية بكل ما استولدته من أصداء وردود فعل، بعضها اتخذ شكل التأييد المطلق، وبعضها جهر بمعارضته من حيث المبدأ، وبعضها الثالث تحفظ في اعلان موقفه وان كان تصرّف بما يوحي بعدم موافقته يمكن القول إن شيئا من المراجعة قد تمّ او هو يتم الآن وإن بعض التعديلات قد طرأت على أسلوب تعامل العهد الجديد مع الجسم السياسي عموماً، يستوي في ذلك »جماعة العهد الماضي«، أو المجلس النيابي بمجموعه،
ولعل التصريح المتكرر للرئيس اميل لحود بانه على مسافة واحدة من الحكومة ومن المعارضة، وانه ليس طرفاً او لن يكون طرفاً في أي نزاع او خلاف بين الحكومة والمعارضة، يعبر بوضوح عن بعض الدروس المستفادة من تجربة الشهرين، التي كادت تقدم رئيس الجمهورية في صورة »الحاكم الفرد« أو »صاحب القرار«، والتي أساءت الى صورة الحكومة (اضافة الى صورته شخصياً) وقدمتها وكأنها مجرد اداة تنفيذية وليست بأي حال القيادة السياسية للبلاد.
وها هو الرئيس سليم الحص الذي فُرض عليه ان يحارب منذ اللحظة الاولى لتكليفه، توكيداً لجدارته بان يكون رئيس حكومة العهد الاولى، ثم ان يقاتل دفاعاً عن حكومته التي ولدت قيصرياً، وبقرار واعٍ لتجنب الطبقة السياسية (التي كان العهد السابق قد أدانها بما يكفي ثم جاء اختيار لحود رئيساً توكيداً لتلك الادانة او ترجمة لها)…
ها هو الرئيس الحص يؤكد الآن على حقه في مساحة كافية لحركته بشكل مستقل ومتمايز عن رئيس الجمهورية الذي توجّه الناس نحوه، لفترة، بمطالبهم وشكاواهم، وكأنه يختزل الحكومة او يغنى عنها، او انه فعال لما تعجز عنه او تقصر فيه، اما بسبب من التعقيدات الادارية والبيروقراطية، او بسبب من الحساسيات السياسية التي غالباً ما تكون الجزء الظاهر من الالغام الطائفية.
ومن الظلم الفادح للرئيس الحص ان يعتبر مسؤولا عن الغلط في كل ما صدر من قرارات ادارية، بينما رئيس الجمهورية مسؤول عن الصح فقط،
كذلك فانه من النفاق الرديء ان ينسب السياسيون اخطاء »جماعة العهد« الى رئيس الحكومة الذي يعرف الناس رأيه فيهم،
على ان الحكومة ستظل هي موضع المساءلة والحساب، وهذه ضريبة بديهية لا بد ان يدفعها من يتولى بإرادته الحرة موقع »القيادة السياسية« في البلاد.

على قدر الآمال، وخصوصاً إذا ما تعززت بالوعود والتعهدات الرئاسية، تكون المحاسبة،
ومن قبل حوسب رفيق الحريري بقسوة أشد مما يحاسب الحص اليوم، وبعد فترة لا تزيد كثيراً عن »فترة السماح« التقليدية، عندما أطلق وعوده »الذهبية« حول ربيع الازدهار القادم.
وما زالت لعنة »الربيع« تطارد الحريري حتى الساعة!
في أي حال، وبمعزل عن النبرة الغاضبة في الهجوم المضاد الذي شنّه الحص أمس، فإن هذه الحيوية السياسية ليست ضرراً خالصاً،
ولكن يا حبذا لو انها تتركز على المعضلات الخطيرة التي تواجه البلاد كلها، حكما وحكومة ومعارضات، من اجل اجتراح الحلول، ضمن افق وطني، لما يسميه العهد التركة الثقيلة الموروثة، بدلاً من الغرق في جدال لن يفيد إلا في اضافة ازمة سياسية الى الازمة الاقتصادية المعقدة،
ولعل مناقشة الموازنة تكون الفرصة لتحديد منهج صحيح في معالجة تلك المعضلات ولحل ما يمكن حلّه منها.
طلال سلمان

Exit mobile version