هذه الحرب سوف تنتهي. فأي حرب في التاريخ لم تنته. ولكن السؤال: متى وكيف؟
يبدو أن وقف إطلاق النار لن يكون وشيكاً أو سهل المنال. فلن يكون وقف لإطلاق النار إلا بشروط في مقابل شروط مضادّة. وبين طرح الشرط والرد عليه تمضي ساعات وربما أيام. وعملية تبادل الشروط، أي ما يسمى تفاوضا، لم تبدأ بعد.
وهناك ما يشبه الإجماع في الرأي على أن وقف إطلاق النار لن يتمّ إلا بالاتفاق على حل ما لقضية المواجهة بين لبنان والعدو الإسرائيلي جذريا. ولما كان حزب الله هو الذي يتصدّر المواجهة، فإن أي اتفاق على وقف النار لا بد أن يترافق مع اتفاق على صيغة تسوية ما لقضية الحزب وسلاحه. من هنا الحديث عن تنفيذ القرار 1559، أو بالأحرى ما تبقى منه، وهو ما يتعلّق بوجود المقاومة وسلاحها ونشر الجيش اللبناني في الجنوب. وقد ظهرت ملامح هذا التوجه جليّة واضحة في الكلمة التي وجهها رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة إلى اللبنانيين. عصارتها الرهان على تنفيذ القرار 1559.
الواقع الأليم أن هذا القرار كان ولا يزال مطلباً أميركيا. فلم يعقد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش مؤتمراً صحافياً منذ صدور القرار في عام 2004 إلا وأصرّ فيه على تنفيذ القرار فورا. مع ذلك بقي القرار عالقاً من دون تنفيذ حتى اليوم، والسبب يُعزى إلى أن اللبنانيين عطّلوا تنفيذه بتوافقهم: فلقد اتفقوا على أن موضوع هذا القرار يجب أن يكون مادّة للحوار الوطني بين اللبنانيين. بعبارة أخرى، طلب اللبنانيون من الدولة العظمى أن ترفع يدها عن المسألة في انتظار حلّها بالحوار بينهم. فما كان في إمكان الدولة العظمى، على عظمتها، فرض الحل خلافاً لإرادة اللبنانيين.
عُقد مؤتمر الحوار الوطني وبقي موضوع المقاومة وسلاحها البند الوحيد العالق على جدول أعماله. وعندما وصل الحوار الوطني إلى طريق مسدود، وبلغ مرحلة المراوحة والتمييع والمشاغلة العقيمة، تقرر، على ما يبدو، إطلاق آلة الفتك والتدمير الإسرائيلية في وجه لبنان واللبنانيين. فإذا بالمسؤولين الإسرائيليين يرددون شروطهم لوقف النار، وهي تتلخّص بتنفيذ القرار 1559. الحرب هي إذاً ليست حرب الرهائن، أي تبادل الأسرى، بل هي حرب القرار 1559 من دون أدنى ريب.
عندما يبدأ التفاوض على وقف النار سيكون القرار هو المحور: حل المقاومة ونزع سلاحها ونشر الجيش اللبناني على الحدود، وربما قوات دولية.
كيف يمكن أن يكون رد حزب الله؟
لا يستطيع حزب الله أن يتخلّى عن مطلب مبادلة الأسيرين الإسرائيليين بالأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، وسيكون في ظننا إصرار على ذلك.
إن إثارة موضوع القرار 1559 سوف تستثير في المقابل المطالبة ببرمجة زمنية للتطبيق المتزامن لجميع القرارات الدولية التي تعني لبنان. فالسؤال المشروع هو: لماذا يكون إصرار على تنفيذ القرار 1559 ويكون إهمال كلّي لسائر قرارات الشرعية الدولية التي تعني لبنان وعمرها يعود لعشرات من السنين خلت: منها القرار 194 الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1948 الذي يحفظ للاجئين حقّهم في العودة إلى ديارهم في فلسطين، ومنها القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الذي يقضي بجلاء العدو الإسرائيلي عن الأراضي العربية التي احتلها عام 1967، بما فيها مزارع شبعا.
إن وجود المقاومة وسلاحها مرتبط في نظر كثرة من اللبنانيين بثلاث قضايا: بقاء أرض لبنانية تحت الاحتلال هي مزارع شبعا، ووجود أسرى لبنانيين في السجون الإسرائيلية، وتواصل الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، جواً وبحراً وأحياناً برّا. لذلك، فإن ربط وقف النار بحلّ لمسألة المقاومة لا بد أن يتناول الحلول المنشودة لكل هذه القضايا. ولن يكون الأمر بسيطا. ومن المتوقّع أن تستغرق المفاوضة على وقف النار فترة طويلة نسبيا. والمسألة تتعلّق بقدرة الشعب اللبناني على الصمود خلال هذه الفترة، مع العلم بوجود فجوات سحيقة في النظرة إلى ما يجري بين شتى الفئات والأفرقاء في لبنان.
يفترض في قيادة حزب الله، والحال هذه، أن تكون متنبّهة إلى أبعد الحدود إلى ضرورة خوض معركة منظمة على مستوى العلاقات العامة لا تقل أهمّية وخطورة عن المعركة الحربية الضارية على قسوتها وهمجيتها، وذلك من أجل كسب معركة الصمود والحفاظ على دعم الناس للمقاومة والتفافهم حولها.
كما يفترض في قيادة حزب الله أن تدرك، وهي بلا ريب مدركة، أن وقف النار لن يكون انتصاراً عسكرياً ساحقاً من هذا الجانب أو ذاك، بل لن يكون إلا بتسوية سياسية شرط أن تكون عادلة. والتسوية تعني بالضرورة تنازلاً ما من الطرفين المتحاربين، من حزب الله كما من العدو الإسرائيلي. هذا مع العلم بأن العدو مستكبر بالمواقف الدولية، مواقف أميركا وقمة الثمانية، التي في أحسن حالاتها لا تدعو إسرائيل إلى وقف عدوانها بل إلى الانضباط فيه والتخفيف من الخسائر المدنية.
ونحن نرى أنّ أي تسوية يمكن أن يتم التوصّل إليها سيكون فيها شيء من الانتصار لحزب الله، بمعنى الاعتراف بدوره، وبمعنى أن التسوية تضع الحزب على مستوى الدولة الصهيونية في التفاوض، وهي أعتى قوة في الشرق الأوسط، ومن ورائها أعظم قوة في العالم. ومن اللافت أن ما تطالب إسرائيل به شرطاً لوقف النار لم يبلغ ما حصل عليه العدو من دولتين عربيتين وقعنا على صلح منفرد مع الكيان العبري. فهي لا تطالب بالاعتراف بالكيان الإسرائيلي، ولا تطالب بتوقيع صك يسمى صلحاً أو سلاماً مع لبنان، أقله حتى هذه اللحظة.
ومما يلاحظ أن المواجهة العسكرية ليست متكافئة، ليس لأن العدو متفوق جداً في التسلّح كمّاً ونوعاً فحسب، وهذا واقع، وإنما كذلك لأن الرأي العام الخارجي منحاز إلى إسرائيل على وجه ملحوظ. فحزب الله لا يستطيع أن يستميل التأييد العالمي بالظهور في مظهر المتفوق عسكرياً بل بالظهور في مظهر الضحية المظلوم. أطفال لبنان يُقتلون يوميا، ولكن لا أثر لصورهم في وسائل الإعلام العالمية. فإذا ما قُتل طفل إسرائيلي واحد فإن خبره سيكون مدوّياً وصوره ستملأ شاشات التلفزة في العالم مع التنديد بهمجيتنا. من هنا فإن اللاتكافؤ العسكري على وجهين : فمن جهة تفّوق إسرائيل في التسلح كمّاً ونوعا. ومن جهة ثانية عدم قدرة حزب الله على استخدام كل طاقاته العسكرية تحاشياً لارتداداتها الإعلامية السلبية المحتملة على قضيته.
خلاصة القول أن مسار المعركة لا يتوقّف على المواجهة العسكرية فحسب، بل كذلك على أمرين أساسيين هما: كيف سيدير حزب الله معركة العلاقات العامة على الوجه الذي يحفظ مقومات الصمود بين الناس في لبنان ويوحّد الموقف اللبناني العام إلى جانبه بالقدر الممكن؛ ثم كيف يدير معركة التفاوض على وقف النار على الوجه الذي يحفظ ثوابت الموقف الوطني والقومي مع التسليم بأنه لا مفر من التسوية في نهاية المطاف. والتسوية تنطوي على شيء من التنازل وإنما ليس عن الثوابت.
قد تكون المقاومة اليوم أقوى مما كانت عليه في عام 2000 من حيث القدرة العسكرية، ولكنها قد لا تكون على مستوى مماثل من حيث القدرة على التصدّي. ففي عام 2000، سنة التحرير، كانت قوة المقاومة العسكرية معززة بقوة الحق وقوة الشرعية وقوة الوحدة الوطنية. ما زالت قوة الحق إلى جانب المقاومة، ولكن موقف الشرعية يعتوره الانقسام، والوحدة الوطنية مثقلة بتعارض الآراء والمواقف. يجب أن يكون توحيد موقف الشرعية وتوطيد الوحدة الوطنية جزءاً من المعركة.
نشرت في “السفير” 20 تموز 2006