طلال سلمان

هدو ما بعد عاصفة مواجهة ازمات نظام طوائفي

يبشّر انتشار رموز السلطة في لبنان بين عواصم القرار في محيطه العربي القريب وخارجه الأميركي (والأوروبي) البعيد، بهدوء العاصفة السياسية التي ضربته بعنف خلال السنوات الأربع الماضية فخلخلت كيانه وأعادت استيلاد «دولته» قيصرياً، تستوي في ذلك رئاسة الجمهورية بالتوافق الكوني، والانتخابات النيابية بقانون الستين المؤسّس لحروب أهلية مقبلة، ثم حكومة اتحاد الطوائف على الوطن ودولته التي استنبتها الاعتراف المتبادل بفشل كل محاولة ـ منفردة ـ لاحتكار الحكم الائتلافي الميمون.
أما عاصفة الطبيعة فقد كشفت الحقائق المنسية عن الواقع البائس للإدارة في بلد المليون مصطاف، بعدما انشغل سياسيوها بمصالحهم عن مشكلاتها فزادوا من تفاقمها، وانكشفت فضائح البنية التحتية غير بعيد عن أحياء أغنياء النفط والمضاربات العقارية والصفقات المالية التي يغطيها الكتمان المصفح وإن ظهرت بعض عناوينها السياسية بالمصادفات المقصودة!
بعض زخات المطر، في موسمه الطبيعي، كانت كافية لتعرية الإدارة الرسمية بمختلف مرافقها، فإذا بالشوارع الضيقة تتحوّل إلى مجار لأنهار لا تجد مصرفاً، بينما الأهالي يشترون مياه الشرب في القناني، وتحاصرهم العتمة في بلد النور، ويضيع منهم الزمن في غيهب الروتين الإداري في المؤسسات والإدارات العامة التي تُدار بالوكالة أو بمن حضر من أهل المحسوبية المحصنة بالطائفية… ناهيك بأزمة السير المستعصية على أي حل، لأن حلها الفعلي قد يتطلب بناء المدينة من جديد!
… وإلى أن يعود رموز السلطة، بالسلامة، إلى مواقعهم ومهامهم، يتابع وزراء المصادفات والمساومات والمصالحات الاضطرارية تقبّل التهاني، والراحة من عناء مناقشات البيان الوزاري الذي لن يتذكر منه ذلك الرهط من الكتبة الذين شاركوا في صياغته إلا براعتهم الفائقة في تجهيل المعلوم وطمس المعنى في غياهب الجمل والكلمات الحمّالة الأوجه بحيث يستطيع أي طرف تفسيرها بما يناسبه ويرضي شعبيته التي جرى تضليلها على امتداد دهر المخاصمات والمشاحنات المفتعلة حتى كادت تنسى هويتها وأسباب الاعتراض أو التأييد في مواقفها الحماسية، ما قبل التوافق.
كان لا بد من بعض المناورات بالذخيرة الطائفية الحية من أجل خدمة أهداف سياسية محددة! وقد نزل إلى الميدان فرسان المؤسسات الدينية بوقارهم وحرمة مواقعهم المحصنة ضد النقد، وكذلك خيالة السجال العنصري حول توطين الفلسطينيين، ورجال الوحدات الخاصة الذين تعهدوا بمقاومة المقاومة والتشهير بجنونها الذي دفعها إلى مواجهة الدولة التي لا تُقهر، إسرائيل، ثم إلى ادعاء النصر في حرب تموز 2006، مع أن قرية الغجر لم تحرّر بعد ولن يتم تحريرها إلا على أيدي تيري رود لارسن ومعه بان كي مون وسائر أبطال تحرير الأوطان من مختلف أشكال المقاومات!
أما الهجوم المضاد فقد تولاه أصحاب الحل والعقد والخبراء المحلفون في شؤون الطوائفيات والمذهبيات، بأن رفعوا شعار إلغاء الطائفية السياسية، وهات يا معارك، بالذخيرة الخطابية الحية، وبالتصريحات ذات الدوي، وبالمواقف التي يناقـض فيـها أصـحابها أنفسـهم، حتى كاد الأمر يلتبــس على أصحــاب العقول: إن لم تكن هذه هي الطائفية كأعظم الاســتثمارات وأسرعها ربحاً في التاريخ.
كنا في الديموقراطية ودولة العدل والحق والمواطنة فإذا نحن في خضم حروب حول الهوية والدين وحقوق الطوائف والأقليات، وكل ذلك يلغي الدولة تماماً، إذ يحوّلها إلى قوة فصل بين المختلفين على البديهيات المتفقين على الصفقات في الإدارة وخارجها…
على أن الحرب العنصرية التي تُشن على الفلسطينيين في لبنان، والتي تستهدف ـ فعلياً ـ قضيتهم المقدسة فإنها تتجاوز جريمة الخيانة العظمى ليصح اعتبارها جريمة ضد الإنسانية.
لقد اكتشف بعض تجار الدين والسياسة، فجأة، وجود أكثر من ثلاثمئة ألف لاجئ في لبنان! كادوا يدعون أنهم لم يعرفوا بهذا الواقع من قبل!! وكادوا ينسون أن هؤلاء لم يجيئوا كما أهل الخليج للسياحة والترفيه عن النفس في ربوع لبنان الجميل، بل لأن الاحتلال الإسرائيلي قد طردهم من وطنهم فلسطين، وعجز أهلهم العرب عن حمايتها ليبقى أهلها فيها. وأن هذا العدو هو عدو لبنان واللبنانيين، وسوريا والسوريين، والأردن والأردنيين، ومصر والمصريين وسائر العرب برغم كل معاهدات الصلح والاستسلام التي عقدها بعضهم ولم تنفع في حصر التمدد الاستيطاني الإسرائيلي أو في ردع جنون القوة الإسرائيلية عن شن الحروب، ومنها ـ بل أخطرها ـ ما استهدف لبنان بالذات.
… وهكذا يتناوب هؤلاء الغيارى على طهارة العرق اللبناني وعلى نقاء الديموقراطية الطوائفية اللبنانية من رجس الأغراب (وليس الغرب الأوروبي أو أميركا أو أوستراليا بينهم)، في الحملة على الفلسطينيين في لبنان، المحصورين والمحاصرين في مخيمات بؤس لا تصلح حتى كمعتقلات… طبعاً مع استثناء متقدم جداً في الزمن شمل الأثرياء والوجهاء وغير المسلمين من أبناء فلسطين ممن لم يعرفوا الطائفية أو المذهبية على امتداد تاريخهم في أرضهم المطهرة بثوابت الأديان المقدسة جميعاً.
وكلما أفلس تنظيم أو قائد سياسي، أو أرادت عصبة من الطوائفيين طمس القضية الاجتماعية في لبنان شهرت سيف العنصرية ونزلت به إلى الميدان لمقاتلة كل من لا يسلّم بإسرائيل جاراً ذا حصانة، وكل من تزيّن له نفسه مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
فنغمة التوطين إنما تستهدف المقاومة، وتخدم إسرائيل، بداية وانتهاءً. إنها هجوم استباقي، بحيث يصبح سهلاً الطعن بلبنانية المقاومين ومن يناصرهم ويدعو إلى بقائهم على سلاحهم حماية للبنان واللبنانيين بمن فيهم هؤلاء السادة العنصريون… وعلى أرض العنصرية يتلاقون مع الإسرائيليين!
… إنها هدنة غياب السلطة.
وغداً متى عاد أقطابها بالسلامة ستبدأ المواجهة الفعلية بين حكومة استولدتها معجزات عربية وإقليمية وبين مشكلات مزمنة فاقم من خطورتها الإهمال بالقصد رغبة في استثمارها لأغراض سياسية، أو التقاعس عن حلها للانهماك في حروب ظالمة ضد حماة الديار وضد المطرودين من وطنهم ظلماً وعدواناً.
وعندها لن تنفع الحرب الوهمية بين الطوائفيين حول إلغاء الطائفية السياسية في تمويه المطالب الفعلية أو طمس الهموم الحقيقية للبنانيين الذين تكاد تخرجهم من السياسة إلى التيه في غابة الغرائز والأحقاد والمشاعر العنصرية التي طالما ذهبت بالأوطان، في بلاد كثيرة!

Exit mobile version